مجلة الرسالة/العدد 617/صوت من العالم الآخر
مجلة الرسالة/العدد 617/صوت من العالم الآخر
للأستاذ نجيب محفوظ
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
استرق إلى نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم فانطلقت، لم تحدث حركة في الواقع. وإنما كان يكفي أن يتجه فكري إلى شيء حتى أجده ماثلاً أمامي. بل الواقع أعظم من ذلك؛ فقد صار بصري شيئاً عجباً؛ لا يعصى أمره شيء، صار قوة خارقة تشق الحجب وتتخطى السدود، وتنفذ إلى الضمائر والأعماق. بيد أني - وقد حم الوداع - نازعني الفكر إلى أهلي. فوجدت نفسي في داري. أما الصغار فقد راحوا في نوم عميق لا يزعجه مكدر. وأما زوجي وأمي فقد افترشتا الأرض، ولاح في وجهيهما الهم والغم. لشد ما أعياهما الحزن والبكاء! وغدا يتضاعف حزنهما عند تشييع التابوت إلى مثواه الأبدي. وقد تغلغل روحي في فؤاديهما فتحرك رأسهما وتمثلت لهما في الأحلام، ورأيت القلبين المحزونين يخفقان في كمد وألم. فيم كان كل هذا الكدر؟! بيد أن شيئاً استرعى بصري! رأيت في سويداء القلبين نقطة بيضاء. فعرفتها - فما عاد يخفى علي علم شيء - فهي بذرة النسيان! آه. . . ستكبر هذه النقطة وتنتشر حتى تشمل القلب كله. أجل أدركت هذا حق الإدراك، ولكن بغير مبالاة فلم أعد أكترث لشيء. وتساءلت مسوقاً بلذة المعرفة متى يمكن أن يحدث هذا؟! فأرتني عيناي العجيبتان صورة من المستقبل: رأيت أمي تمسك غلاماً بيمناها وتشق طريقها وسط زحام شديد ملوحة بزهرة اللوتس. فعلمت أنها خرجت - أو أنها ستخرج - للمشاركة في أسعد أعياد قريتنا، عيد الإلهة إيزيس. كان وجهها متهللا كان ابني يهتف ضاحكاً. ورأيت زوجي تهيئ مائدة - والطعام خير ما تصنع في دنياها - وتدعو إليها رجلاً أعرفه، فهو ابن خالها ساو. ونعم الزوج هو. ولو أن ميتاً يسر لسررت لها، لأن ساو رجل فاضل، وهو خير من يسعد زوجي ويرعى أبنائي. وانصرفت روحي عن داري. فمرت في سبيلها بقصر أميري المحبوب، فشاهدت عقل الأمير ووجدته متأسفاً لفقدي وهو الذي قدرني أجمل التقدير وجازاني خير الجزاء. ووجدته مشغولاً باختيار خلف لي فقرأت في ذاكرته أسم المرشح الجديد (آب رع) وكان من مرؤوسي النابهين وإن لم تتصل بيننا أسباب المودة. كل هذا جميل. ولكن إلام أبقى في قريتي واليوم يستقبل فرعون رسول الحيثيين لتوقي معاهدة الصلح والسلام؟ رأيت منف - في لمح البصر - تعج بجمهورها الحاشد. والقصر في أروع منظر. وقد اجتمع في بهو العرش العظيم الملك والرسول والكهنة والنبلاء والقواد. هؤلاء هم سادة الدنيا قد جمعهم مكان واحد. وهذا فرعون المظفر يحادث رسول الحيثيين الجبابرة في جو بالمودة عامر، أما صدر الملك فقد امتلأ احتقاراً، وترددت بأعماقه هذه العبارة: (لابد مما ليس منه بد) وأما صدر الرسول فقد بض كراهية، وتحيرت به هذه الفكرة: (صبراً حتى يموت هذا الملك القوي). ونشطت عيناي، فرأيت الوجوه والملابس والقلوب والعقول والبطون. رأيت عالمي الظاهر والباطن بغير حجاب. وتسليت زمناً بتفحص ما في البطون من طعام فاخر وشراب معتق، حتى عثرت بمعدة كاهن على بصل وثوم! وهما محرمان على الكهنة. وتساءلت ترى كيف غافل هذا الرجل الورع أقرانه ودس هذا الطعام في جوفه؟! ولمحت في ناحية من معدة أحد النبلاء دبيب المرض الذي أودى بحياتي، وكان الرجل يحاور قائداً في سرور وانشراح فقلت له في نفسي: (على الرحب والسعة!). ثم وقع بصري على الحاكم تيتي الذي اشتهر بالقسوة والبطش حتى ليوالي فرعون النصح له بالاعتدال مع رعايا إقليمه. فنظرت إليه بإمعان. وسرعان ما تكشف لي عن جسم مهزول، مريض الأعضاء، لا يفتأ يشكو مر الشكوى أسنانه ومفاصله. وكلما ألح عليه الألم تمنى لو يستطيع بتر الفاسد من جسمه. ولذلك تملكته فكرة البتر بقسوة فلا يتردد عن بتر المعوج من رعاياه بعنف لا يعرف الرحمة. وإلى جنب تيتي شاهدت الوزير مينا، ذلك الرجل العنيد الذي حارب فكرة الصلح بكل قواه، وطالما حرض على القتال، وتساءلت ترى ما سر عناد هذا الوزير الخطير؟! رأيت عقله نيراً، ولكن أمعاءه ضعيفة فتستبقي فضلات الطعام طويلاً فتلوث دمه في دورته فيذهب إلى عقله فاسداً، ويغشى نور أفكاره، حتى إذا خرجت من فمه كانت ذات شر كبير! والرجل مقتنع برأيه يراه واضحاً مستقيماً كما أرى مخه مسوداً ملوثاً! ثم دار بصري بالصدور يستقرئها خفاياها الكامنة وراء بسمات الثغور. هذا صدر ثقل عليه الملل فهمس لصاحبه: (متى العودة إلى القصر حيث السماع والقيان؟!) وهذا صدر يتوجع قائلاً: (لو مات الرجل بمرضه لكنت الآن قائداً على فرقة الرماح!) وذاك صدر يقول في جزع متسائلاً: (متى يقوم الأحمق برحلته التفتيشية فأهرع إلى زوجه الحسناء المحبوبة. . . آه. . .) وقال صدر لصاحبه من الأعماق: (لا يدري إنسان متى يحين الأجل. فلا يجوز بعد اليوم أن أؤخر بناء مقبرتي. أو فما فائدة المال إذاً؟!) وتولت الحيرة صدراً كبيراً فجعل يقول لصاحبه: (قال إخناتون إن الرب هو آتون. وقال جار محب إنه آمون. وهناك قوم يعبدون رع. فلماذا يتركنا الرب في شقاق؟) ولم أواصل الاستطلاع طويلاً في هذا الحفل الفرعوني الجليل إذ سرعان ما ادركني الملل. فتحولت عنه ووجدت نفسي مرة أخرى في الدنيا الواسعة. ومرت أمام ناظري مشاهد كثيرة من الأرض والسماء، لمست حقائقها جهرة، ونفذت إلى صميمها، حتى وقع البصر على جنين يتكون في رحم، فرأيته يكتسي لحماً وعظماً. وشهدت مولده. وجرى البصر معه في المستقبل فرآه طفلاً وصبياً وغلاماً وشاباً وكهلاً وشيخاً وميتاً. وشاهد ما أعتور من حادثات وحالات سرور وحزن ورضا وغضب وأمل ويأس وصحة ومرض وحب وملل. رأى ذلك جميعه في دقيقة من الزمان. حتى كاد يختلط في أذني بكاء الميلاد وشهقة الموت! وغلبتني على أمري رغبة جامحة في اللعب فسايرت حيوات أفراد كثيرين من الميلاد إلى الممات. واستلذذت كثيراً وقوع الحالات المتنافرة لا يكاد يفصل بينها زمن! فهذا وجه يضحك ويقطب ثم يضحك ويقطب عشرات المرات في جزء من الثانية! وهذه امرأة تتيه حسناً وتعشق وتتزوج وتحبل وتلد وتهرم وتقبح وتسمج في لحظة من الزمان! ووفاء وخيانة لا يفصل بينهما زمن. هذا وغيره مما لا يحيط به حصر جعل الحياة مهزلة. فلو أن ميتاً يضحك لأغرقت في الضحك. وبدا لي كأنه لا حقيقة في العالم إلا التغير! ورغبت نفسي عن مطالعة الأفراد وحيواتهم المجنونة فغابوا عن بصري. ورنوت إليهم من بعيد جمعاً غفيراً لا يحده شيء. تضاءلت الحجوم وطمست المعالم وإنعدمت الفوارق. فصاروا كتلة واحدة. ساكنة صامتة. لا حياة فيها ولا حركة. رحت ألقي البصر في دهشة وحيرة. حتى ألفت المنظر. فتكشف لي عن جانب جديد كان من قبل خافياً. رأيت ذاك الظلام الساكن يشع نوراً شاملاً؛ فإن الأنوار الخافتة المتهافتة التي تخفق في كل مخ - على حدة - ضعيفة خابية، اتصلت في المجموع الملتحم المتماسك ولاحت نوراً قوياً باهراً. رأيت في لمعتها حقاً باهراً وخيراً صافياً وجمالاً متألقاً فازددت دهشة وحيرة. رباه لشد ما تعاني الروح وتتعذب ولكنها تبدع وتخلق على رغم كل شيء. رباه لقد رأى توتي أموراً جليلة وليرين أموراً أجل وأخطر. وأيقنت أن ذلك النور الذي بهرني إن هو إلا نقطة من السماء التي سأعرج أليها. وغضضت البصر. ووليت الدنيا ظهري. فوجدت نفسي في حجرة التحنيط المقدسة. وقد ملأ روحي سرور إلهي لا يوصف. .
وانتهت أيام التحنيط السبعون. فجاء الرجل مرة أخرى، واستخرجوا الجثة من الحوض وأدرجوها في الأكفان، وأتوا بالتابوت وقد زالوا غطاءه بصورة جميلة لتوتي الشاب ووضعوا فيه الجثة، ثم رفعوه على أعناقهم وساروا به إلى الخارج، فتلقاه المشيعون من الأهل والجيران بالعويل واللطم، وعاد النواح كأفظع مما كان يوم النعي، وذهبوا إلى شاطئ النيل، وهبطوا إلى سفينة كبيرة أقلعت بهم صوب مدينة الأبدية على الشاطئ الغربي، والتفوا بالتابوت يصوتون وينوحون. قالت أمي: (لا جف لي دمع، ولا اطمأن لي قلب من بعدك يا توتي!). وصاحت زوجي: (لماذا قضى علي بأن أعيش بعدك يا زوجي!)
وقال حاجب الأمير: (توتي أيها الكاتب المجيد. لقد تركت مكانك شاغراً!)
ولبثت أنظر بهاتين العينين اللتين تنكرتا لماضيهما، وكأن سبباً لم يصلني يوماً بهذه الدنيا، ولا بهؤلاء الناس. ورست السفينة إلى الشاطئ، فرفعوا التابوت مرة أخرى، ومضوا به إلى المقبرة التي أنفقت في تشييدها جل ثروتي، وأحلوه موضعه من الحجرة. وفي أثناء ذلك كان جماعة من الكهنة يتلون بعض الآيات من كتاب الموتى، يلقنونني التعاليم الهادية من أقوم سبيل! ثم جعلوا ينسحبون تباعاً حتى خلا القبر، ولم يعد يسمع من شيء إلا العويل الآتي من بعيد، وأغلقت الأبواب وهيلت عليها الرمال، فانقطعت كل صلة بين العالم الذي ودعت، والدنيا التي أستقبل. . .
ملاحظة: هنا انقطعت الكتابة في المخطوط الهيروغليفي، ولعل فترة الانتظار التي أشار إليها الكاتب في أول كتابه كانت قد انتهت. ولعل رحلته الأبدية كانت قد بدأت، فشغل بها عن قلمه المحبوب، وعن كل شيء.
نجيب محفوظ