مجلة الرسالة/العدد 618/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 618/القضايا الكبرى في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1945


14 - قتل سعيد ابن جبير

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

إذا أردنا أن نصل إلى ما يرضي العدل والإنصاف في هذه القضية الكبيرة، وجب أن يسير البحث فيها بقطع النظر عن شخصية المقتول وشخصية القاتل، لأنا إذا نظرنا إلى شخصية المقتول فسنجد أنه كما قال فيه خصيف: من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، بالحلال والحرام طاووس، بالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبير، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير. وسنجد أيضاً أنه كان كما قال فيه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.

وإذا نظرنا إلى شخصية القاتل وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، فسنجد الناس يكادون يجمعون على أنه كان ظالماً جباراً، وقد قال ابن خلكان: كان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال إن زياداً أراد يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسيات، إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر

وقد نظر الناس إلى هذه القضية متأثرين بشخصية سعيد وشخصية الحجاج فلم يوفقوا كل التوفيق فيها من الناحية القضائية، ولم يصلوا إلى حكم يرضى القضاء كل الرضا، ولا يتأثر بعاطفة الحب والكره، وإذا خالفناهم في ذلك فسنصل إلى حكم في هذه القضية يرضي كل منصف من الناس، لأنه يراعي فيه كل وقائع القضية من ناحية الحجاج وسعيد، ويبين تبعة كل منهما في هذه الوقائع.

اضطرب أمر المسلمين بعد قتل عثمان رضي الله عنه اضطراباً كبيراً، فوقعوا في فتن شديدة كادت تقضي على الإسلام في مهده لولا أن الله كان يهيئ لهم فترة من الاجتماع بعد التفرق، فيمضي الإسلام ظافراً في فترة الاجتماع وينظر العقلاء إلى ظفره فيرضيهم ويجعلهم يغمضون أعينهم على ما في حكمهم من قذى حذراً من التفرق وما يجلبهم على الإسلام من أكبر الضرر، وقد جاء الإسلام بجواز ارتكاب أخف الضررين، وكانوا مع هذا يرضون الله بالنصح الرفيق، والبعد عن الاشتراك في ذلك الحكم، وكان من هذ الحسن البصري رضى الله عنه، وهو سيد التابعين وأكبر علماء عصره قدراً، فكان يبتعد عن وظائف الحكم منكراً له في الصمت، ولا يقصر في توجيه النصح الرفيق للحكام، وقد شكا إليه الحجاج ما يجده في مرض موته فقال له: قد كنت نهيتك أن تتعرض إلى الصالحين فلججت. فقال له الحجاج: يا حسن، لا أسلك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكن أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي، ولا يطيل عذابي. فبكى الحسن بكاء شديداً!

أما سعيد بن جبير فأنه لم يبتعد عن وظائف هذا الحكم، فكان في أول أمره كاتباً لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وقد ولاه الحجاج القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي. وكان سعيد مولى لبني والبة بن الحارث، وهم بطن من بني أسد بن خزيمة، فاستقضى الحجاج أبا بردة بن موسى الأشعري، وأمره ألا يقطع أمراً دون سعيد بن جبير، ثم جعله في سماره وكلهم من رؤوس العرب، وكان الحجاج يعرفه من عهد ولايته على الحجاز، وقد أعطاه في أول ما رآه مائة ألف درهم يفرقها في أهل الحاجة، ولم يسأله عن شيء منها.

وفي سنة ثمانين من الهجرة جهز الحجاج جيشاً لغزو رتبيل ملك الترك، وولى عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجعل سعيد بن جبير على عطاء الجند، وكان الحجاج يبغض عبد الرحمن ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وقد سمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم، فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. وكان عبد الرحمن ينتمي إلى ملوك كنده، فيعتز بنفسه ولا يخضع للحجاج كغيره، وكان يبطن التشيع لعلي (ع) كغيره من أهل الكوفة، فأراد الحجاج أن يرسله في تلك الغزوة النائية ليتخلص منه ويشغله بالجهاد وكان قد غزا رتبيل قبله عبيد الله أبي بكرة في جيش كثيف فهلك في تلك البلاد فسار عبد الرحمن حتى وصل إلى بلاد رتبيل فأوغل فيها، وفتح كثيراً من حصونها، فلما حاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يده من الغنائم، حبس الناس عن الوغول في تلك الأرض وقال لهم: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجييها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، في أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.

ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، بهذا الرأي الذي رآه لهم، فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: كتابك كتاب أمريء يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم وإلا فأن إسحاق بن محمد أخاك أمير الناس، فحله وما وليته. فكبر ذلك على عبد الرحمن، ثم جمع الناس إليه ودعاهم إلى الخروج على الحجاج فأسرعوا إلى إجابته، وكان أكثرهم من أهل العراق الذين يضمرون البغض لبني مروان، ولم يقتصروا على خلع الحجاج، بل خلعوا بعده عبد الملك بن مروان، ونادوا بعبد الرحمن أميراً عليهم وانقلبوا في يوم وليلة يذكرون ظلم الحجاج، وظلم عبد الملك بن مروان، وكانت بيعتهم لعبد الرحمن: تبايعون على كتاب الله، وسنة نبيه محمد ، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم، وجهاد المحلين، فإذا قالوا نعم بايع. ثم صالح رتبيل على أنه إن ظهر على الحجاج فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراده الجأه عنده، وكان سعيد بن جبير فيمن خرج مع عبد الرحمن وبايعه.

ولاشك من ينظر إلى هذه الوقائع يجد أن عبد الرحمن لم يخرج على الحجاج غضباً لله تعالى، وإنما خرج غاضباً لنفسه حين كتب إليه الحجاج يرميه بالعجز والضعف، ويولي مكانه أخاه إسحاق ابن محمد، وقد دفعه الغرور بنفسه إلى هذا الخروج وهو ليس بأهل لما نصب نفسه له من الإمارة على المسلمين، وقد كان يوجد من الصحابة والتابعين في عصره من لا يذكر بجانبهم، ومع ذلك آثروا السكون للمصلحة، ورأوا أن الإسلام في حاجة إلى فترة من الهدوء بعد تلك الفتن، ولقد أساء عبد الرحمن إلى الإسلام حين صالح رتبيل ذلك الصلح الشائن، وعمد إلى السيف الذي كان يجب أن يصوبه إليه فصوبه إلى رقاب المسلمين، وأعادها فتنة عمياء كتلك الفتن التي لا يزال الإسلام يجني آثارها إلى اليوم، ولكن الغلطة غلطة الحجاج حين يولي عبد الرحمن هذه الإمارة وهو لا يثق به، ويعرف أنه لا يخلص لأهل دولته، وقد نصحه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعه، فوالله ما وصل جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً، وأني أخاف خلافه. فقال الحجاج: ليس هناك، هولي أهيب، وفيَّ أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي.

وكان على سعيد بن جبير أن يعرف كل هذا، وان يذكر كل ما كان بينه وبين الحجاج، وألا يجر نفسه وراء أطماع عبد الرحمن في الإمارة والملك، وهو رجل عالم صالح لا أطماع له في مثل ما يطمع فيه، ولا يليق به أن يستخدمه مثله في أغراضه، وما كان أجدره أن يبعد عن الحجاج كما بعد عنه إخوانه من العلماء، وأن يترفع عن وظائفه وأمواله كما ترفعوا عنها، حتى لا يكون له حجة عليه في يوم من الأيام، ولا يؤاخذه بها إذا لم يقم بواجب الإخلاص له عليها وقد جرت حروب شديدة بين الحجاج وعبد الرحمن، ذهبت فيها دماء غزيرة من المسلمين، ولو أنها وجهت إلى رتبيل لاستفاد منها الإسلام، وانتفع منها المسلمون، ثم انتهت هذه الحروب بانتصار الحجاج؛ ففر عبد الرحمن إلى رتبيل يطلب أمانه على ما كان بينهما من الصلح، وهرب سعيد يتنقل في البلاد إلى أن قصد مكة، فكان هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحد أسمائهم، فلما ولى خالد بن عبد الله القسري مكة قبض عليهم وأرسلهم إلى الحجاج، وكان لا يعفو عمن خرج مع عبد الرحمن إلا إذا قال له: أتشهد أن قد كفرت؟ فإذا قال نعم عفا عنه وإلا قتله، وهو يرى في ذلك أن من يخرج على الإمام يكون كافرا، لأنه ورد في بعض الأحاديث أن من مات ولا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، وقد أخطأ الحجاج فهم ذلك الحديث، لأن معناه أنه يموت على مثل ما كان الناس عليه في جاهليتهم، إذ لم يكن لهم إمام يجمع كلمتهم وليس معناه أنه يكون كافراً مثلهم. وكانت مواقف حرجة قتل فيها كثير من العلماء الذين كبر عليهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وكان لبعضهم لباقة أنقذته من ذلك الموقف الحرج، كما فعل الشعبي وقد أشار عليه إخوانه ونصحاؤه أن يعتذر أمام الحجاج ما استطاع من عذر فلما دخل عليه رأى غير ما ذكروا له، فسلم عليه بالإمرة وقال: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا. فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي فانصرف.

ولم يكن لسعيد بن جبير مثل لباقة الشعبي، بل اضطرب أمره حين وقف أمام الحجاج، ولم يلتزم طريقاً واحدا ينفعه في هذا الموقف الحرج، مع أن الحجاج قد لوح له بأنه يجب أن يعفو عنه، فإنه حين رآه قال: لعن الله ابن النصرانية - يعني خالداً - أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو في بمكة. ثم أقبل عليه فقال له: يا سعيد، ألم أشركك في إمارتي؟ ألم افعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا بشر يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شئ فقال له: إنما كانت بيعة في عنقي. فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال بلى. قال: ثم قدمت الكوفة والياً على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانياً؟ قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك بن الحائك، والله لأقتلنك. قال: إني إذن لسعيد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت عنقه وإياه عني جرير بقوله:

يا رُبَّ ناكثِ بيعتين تَركتَه ... وخضابُ لحيته دَمُ الأوداج

وقد كان على سعيد وقد اعترف على نفسه بالخطأ في خروجه على الحجاج أن يمضي في ذلك حتى يحقن دمه، وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وما كان له بعد هذا. أن يعتذر ببيعته لعبد الرحمن، لأنه قد اعترف بخطئه فيها، ولا معنى بعد هذا للاعتذار بها.

وإذا كان سعيد قد أخطأ تلك الأخطاء في هذه القضية، فإن خطأه في أنه لم يتورع عن ذلك الحكم الجائر كما تورع غيره من العلماء، وفي أنه أخطأ الطريق في إنكاره فغلا فيه ووضع يده في يد من لم يكن مخلصاً في إنكاره، ولعله أراد بذلك أن يكفر عن عدم تورعه عنه في أول أمره، ولكن تلك الأخطاء بالغة ما بلغت لا تبلغ خطأ الظلم نفسه، فكان على الحجاج أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب سعيداً، وان يعرف أن ظلمه هو الذي أوقع سعيداً وغيره فيما وقعوا فيه، ولو أنه فعل ذلك لأراح نفسه وأراح الناس جميعاً

عبد المتعال الصعيدي