مجلة الرسالة/العدد 618/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 618/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1945



متحمسان. . .!

كنا ذات صباح نحو عشرين رجلاً قد وقفنا واحدا خلف واحد ننتظر في قلق حتى تفتح نافذة تذاكر السفر؟ وأخذ يتزايد عددنا دقيقة بعد أخرى، وكان كل قادم يأخذ مكانه في ذيل هذا الخط الطويل الذي ذكرني بما كنا نفعل ونحن صغار حين كنا نقلد القطار. . .

وكنا جمعياً لا نفتأ ننظر في ساعاتنا وصفير القطر وصوت رحيلها على الأفاريز القريبة يملأ أسماعنا، وحركة المسافرين والحمالين وهم يسرعون في موجب وفي غير موجب تزيدنا قلقاً على قلق، ونشاط، صارفي التذاكر في النوافذ المفتوحة على جانبي نافذتنا الموصدة يلقي في نفوسنا الشك في وجود من يفتحها أو يميل بنا إلى الظن أنه ربما ربكة في حجرته عمل آخر. وكان أكثرنا نظراً في ساعاتهم من كانوا أكثر بعداً عن النافذة؛ على أن القلق قد اشتد بنا جمعياً. حتى أوشك أن يتحول إلى ضجر. . . وأخيراً فتحت النافذة.

أقبل بائع التذاكر على عمله في هدوء تؤدة، بعد أن ألقى نظرة على المنتظرين، وكان مبعث اطمئنانه أنه كفيل ببيع التذاكر جميعاً قبل تحرك القطار بوقت كاف فهو خبير بعمله وقلما داخله ما يداخل المسافرين من قلق.

وأخذ كل منا يخطو خطوة كلما خلا من مقدمة الصف رجل، وبينما نحن على هذا النظام الذي نفعله مقلدين نزلاءنا منذ كثر عددهم بيننا هذه الحرب، إذ أخذت عيناي لا بل أخذ منظاري شاباً مقبلاً بادي الأناقة، متكلف العظمة، يلتمع شعر رأسه الحاسر التماعاً لا يضاهيه إلا التماع رباط عنقه الأحمر، وإنه ليخطو في خيلاء تشبه الصلف، يضرب الأرض بقدميه ضرباً قوياً حتى ليحدث حذاءه صوتاً واضحاً قي ضوضاء الفناء، وما أسرع ما فطنت إلى أني منه تلقاء متحمس، وأني لشديد المحبة للمتحمسين عظيم الشغف برؤيتهم

ومشى هذا المتحمس إلى النافذة فوضع نفسه في رأس الصف وهيهات أن يرضى متحمس أن يكون في المؤخرة، ولكنه ما كاد يمد يده بالنقود حتى سرت في الصف كله موجة احتجاج كانت أكثر شدة في آخره؛ وارتفع صوت من الوسط ينبه هذا المخالف:

- أرجو أن تأخذ دورك وإلا فما معنى أن كلا منا قد ارتضي دوره؟ - هذا ليس من شأنك. . . أأنت مفتش؟. . . أأنت مراقب؟

- يا سيدي هذا لا يليق. . . ارجع إلى موضعك من فضلك

- موش شغلك يا أفندي. . . اشكني إلى مدير المصلحة

وتحير هذا الذي يحتج ماذا يقول، ولكنه ما لبث أن صاح قائلاً في غضب: (يظهر أنه مازال بيننا (جليطة) كثير) ونظرت فإذا بي منه تلقاء متحمس ثان في نهاية سن الكهولة، وأنا كما ذكرت لك أحب المتحمسين وأطرب أشد الطرب لرؤية تحمسهم

وجاء أجنبي في تلك اللحظة فقصد إلى النافذة كما فعل المتحمس الأول؛ ولعله قد رأى مزاحمته فظن الأمر فوضى، وما كاد ينبهه أحدنا حتى عاد إلى موضعه في ذيل الصف معتذراً عن خطئه وفي وجهه حمرة شديدة من فرط الخجل.

وإذ ذاك نظر المتحمس الثاني إلى المتحمس الأول قائلا وهو يشير إلى ذلك الأجنبي: (ألا ترى؟ هذا لأنه بني آدم)

ولكن صاحبنا لم يتزحزح عن موضعه وكأنه يتمسك بمبدأ الثبات حتى الموت، وإلا فماله لا يبالي بضجر المتضجرين في الصف كله - إلا أنا بالضرورة - ولا يبالي بنظرات الازدراء تصوب نحوه في شدة كادت تجعل من في الصف ما عداي متحمسين؟ لم يعبا على الرغم من ذلك وظل متمسكاً بمبدئه القويم ومد يده بالنقود إلى بائع التذاكر فما أشد ما أخذه من حيرة إذ سمع ذلك البائع يقول له في هدوء: (من فضلك اذهب إلى موضعك)

وثارت ثائرة هذا المتحمس، فقال في صوت أشبه بالصراخ وهو يضرب النافذة بقبضته (أتمتنع عن بيع التذكرة؟) وتطلعت في فرح احسبني أظفر برؤية متحمس ثالث، ولكن البائع ظل هادئاً ونظر إليه مبتسماً وهو يقول: (اشكني إلى مدير المصلحة)

وتناول البائع النقود من كل مسافر حسب دورة في الصف وظل صاحبنا في موضعه قرب النافذة متمسكاً بمبدأ الثبات حتى الموت يرشقه كلمن أخذ تذكرته بنظرة ازدراء، حتى جاء دور المتحمس الثاني وقد امتلأت نفسه إعجاباً ببائع التذاكر وعدالته، فنظر نظرة نصفها إليه ونصفها إلى ذلك الذي لم تجده حماسته وقال متهللا: (والله ما يصح أن يكون مدير المصلحة غيرك)؛ ثم صوب نحو زميله الذي ماتت حماسته من الخزي نظرة شامتة وهرول إلى حيث يقف القطار الخفيف