مجلة الرسالة/العدد 619/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 619/الكتب
مجمع الأحياء
كتاب للعقاد تفيد قراءته الآن
كان فرحي بظهور هذا الكتاب فرحاً عظيماً، لأن إعادة طبعه كانت رغبة، بل أمنية، اشتهيتها منذ بضعة عشر عاماً. وظهوره في طبعته الثالثة يسد نقصاً في المكتبة المصرية، لأن طبعته الأوليين نفذتا ولم نستطيع الحصول عليه لندرة وجوده، فلما ظهرت هذه الطبعة تلقيتها فرحاً فما هو هذا الكتاب؟
إن مقدمات العقاد لكتبه هي غالباً مفاتيح لشخصيته العظيمة المتعددة النواحي في تلك الكتب العديدة، وهي شروح للظروف التي أوحت بها، وللمؤثرات التي أحاطت به فكتبها، فلنرجع إلى تصدير الطبعة الثالثة حيث يقول: (هذه الرسالة وليدة الحرب العالمية الماضية. . . شغلني موضوعها يومئذ، لأنه موضوع الصراع في الحياة الإنسانية، بل في الحياة عامة، وأحببت أن اعرف لهذا الصراع معنى يطمئن غليه الضمير، فانتهيت بالرسالة إلى معنى فيه بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، وهو أن الحق والنواميس الطبيعية يتلاقيان)
ويقول فيها أيضاً: (وهاهي ذي الطبعة الثالثة لمجمع الأحياء تصدر والدنيا مشغولة بحرب عالمية أخرى هي اشد هولا وأوسع مدى وأٌقوى اختلافاً على المبادئ والآراء من الحرب التي نشبت قبل ثلاثين سنة، فإذا كان هناك خاطر يرد على الذهن في تصدير هذه الطبعة - خلال هذه الحرب القائمة - فذلك الخاطر مما يزكي موضوع الرسالة ويؤيد نتيجتها، أو يسير بنا في وجهتها، وهي أن الصراع الأكبر الذي نشهده اليوم سينتهي أيضاً إلى عاقبة فيها بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، لأنها تناقض القوة العمياء: قوة الحديد والنار، وتشايع القوة البصيرة: قوة العدل والحرية).
والعقاد يبسط في مقدمة الطبعة الثانية آراء عميقة: منها أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، ولكن الحق الذي نعرفه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون، والسعادة المطلقة لفرد واحد معناها إبادة مطلقة للنوع، وكثيرون من الخلق يشكون من تفاوت الأعمار والخطوط، فإذا تساوى الناس في كل شيء، فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ ولو أن هؤلاء الشاكين صار إليهم أمر الكون لحاروا في تسيره فهدموه، لأنهم لا يعرفون كيف يوفّقون ين أجزائه المتفاوتة المختلفة، لأنهم ناقصون، ويحسبون أن الكون فوضى لأن جميع أجزائه غير كاملة. . . فإذا أردنا حياة سعيدة أقرب إلى الكمال فلنفهمها بلغتها، ولا نحاول التعبير عنها بلغتنا، فقد صورت حقائقها مرة واحدة في كتاب نحن حروفه وكلماته وأرقامه، فنحن إذن النتيجة لا المسألة. . . والحروب دائماً تزلزل العقائد وتطفر بالناس والأخلاق، ومقاييسها طفرات أخرى غير المألوفة، فتشك قوماً وتجذب إلى الدين آخرين. . . ولكنه يعتقد أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا أريدت حياة سعيدة، فليسمع الناس صوت الطبيعة على سجيته قبل أن يضطروا إلى سماعه زمجرة ووعيداً، وليسمعه كل إنسان على شاكلته: الشرير فيتمادى في شره، والأمة فتقضي على هذا الشرير. . . وتسمعه الإنسانية فتنحى على الأمة التي تفرط في حقوق الحياة، أو تمسخ عناصرها الباقية في الأمم إيثاراً لمنافعها المحدودة (وما دام هذا الصوت مسموع النداء، فالعالم الإنساني ممدود البقاء)
وقد شرح العقاد هذا الآراء شرحاً جميلاً في رسالته، على ألسنة الحيوان والإنسان، فهو يتخيل الغاب، وقد وجد إنسان نفسه في هذا الغاب، ورأى هناك امرأة جميلة جليلة ولكنها ضريرة. هي الحياة أم المخلوقات. وقد دعتهم إليها لتلقي إليهم بنبأ خطير، فأسرعوا من كل حدب وصوب يستمعون إليه، وكل يراها في الهيئة التي يصورها له وهمه وخياله.
وألقت عليهم كلامها فإذا هي تعاتب المخلوقات كلها على ما شجر بينها من خلاف وبغضاء وفتنة. . . يطغى الأبيض على الأسود والصفر على الأبيض وهذا على ذاك. وهي تدعوهم إلى الوئام فيما بينهم على اختلاف المذاهب والألوان، ثم تشير على اليمامة - رمز السلام - لتحدثهم عن علم الإنسان وتواريخه وأديانه، ليكون لهم منها عظة وعبرة وزاجر. فيؤمنون جميعاً على كلامها، وكلهم ظاهر الرضى والاقتناع!
ووقف اليمامة تتكلم، فذكرت حقائق من التاريخ الملموس المتكرر كل يوم، بدأتها بالآية الكريمة (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض). وشرحتها بالشواهد الملموسة، وطالبت بالعدل والرحمة وبالإخاء بين القوي والضعيف! وحينئذ وقف الثعلب قائلاً: وعظتكم اليمامة وأوصتكم بالضعفاء وقالت لكم إن الله بارك في مخلوقاته الضعيفة ليحرم عليكم قتلها. . . ثم يعارض الثعلب اليمامة في كل ما قالت ويتملق القوة والأقوياء فيفوز أثناء كلامه (بتصفيق من جانب الأسد!) - أقوى الحيوان - وهو يتكلم كلاماً منطقياً عن العرف والقوانين، فالسارق إذا سطا على بيت فضحوه، والقاتل إذا سلب أمة أو عمل فيها قتلاً عظموه!
وينتهي الثعلب، ويضج الآخرون بين معارض ومؤيد، ثم يقوم القرد - وهو ممثل الطموح أو الطماع. . . ولكنه المتدين ذو الضمير الحي المتمسك بالعدل والحقوق والقوانين الوحدة. فإن في تماسك الضعفاء قوة ضد الظالم الجبار. والديمقراطية الصحيحة السليمة جديرة بخلق شعوب نابغة صحيحة. أما الأرستقراطية المتعالية فمآلها ومآل حثالة شعبها جميعاً إلى الخسارة والفناء أو المصير الذي هو أسوأ من الفناء. هو حياة كحياة السائمة المتهالكة!
وبالها من مفارقة عجيبة! يدافع القرد عن الديمقراطية الصحية والإخاء والضمير، ويحمل على مبدأ القوة الغاشمة.
فيغضب النمر فيكاد يضربه فيتعلق القرد بأطراف الشجرة، ثم يقف الأسد فيهابه النمر فيخرس فالقرد الفيلسوف لم يستطع دفاعا عن نفسه، والأسد الشرس الأعم أرهب النمر، ولا فصاحة ولا بلاغة ولا فلسفة!
فأخلاق الأسد هي أخلاق بني الإنسان الجهلة الأقوياء. القوة الظالمة الغاشمة ولا شيء غيرها!
ثم تكلمت المرأة. وكان كلامها طبيعياً، تلك الثرثرة الأبدية الخالدة عن حقوقها التي اغتصبها منها الرجل، وعن نبوغها في أشياء وتقصيرها في الأخرى، ولكن الذنب ذنب الرجل، وكأنها إن أصابت فمن وحي عبقريتها. وإن أخطأت فمن الرجل وتجنيه عليها!
وهاهو الرجل يعقب عليها إنه يحذر كل الحذر من يوم تصل المرأة فيه إلى نصيب ولو قليل من الحرية لأنها شديدة الطيش والغرور، ولا تنال القليل حتى تطمع في الكثير، ولو أنها حرمت كل شيء لما طمعت في شيء ما، وهي تخلط كل شيء بسفسافها وألاعيبها.
ثم ينكر عليها الحرية المطلقة التي تطلبها، وهي تطلبها لأنها نوع جديد من الزينة، وهي لا تفهم لها مرمى. . .
وهذا كلام حق!
فالرأي الذي ينادي به العقاد هنا - منذ ثلاثين عاماً - يرجع العالم إليه فيندد بتلك الحرية التي منحها للمرأة فأساءتها. وقد خرجت كتب كثيرة هذه الأيام في المناداة بهذا الرأي. . .
ثم يقول الرجل: (أي مساوة للرجل تدعيها المرأة وهي إلى اليوم لا تجاريه في صناعة الطهي لو شاركها فيه؟)
فالمرأة لا تجيده وهي التي قضت الدهور والأجيال في تعلمه، لأنه صناعتها الأولى! فهل ملته؟ وإذا كانت ملت هذه الوظيفة الطبيعية التي خلقت لها والتي أهلتها الطبيعة - كما أهلتها لوظائف الأمومة التي سلحتها لها بكل سلاح من تركيب الجسم ومن درجة الجمال - فما بالك بوظائف الرجل تزاحمه فيها؟
حسين غنام