مجلة الرسالة/العدد 62/أعظم حادث في حياة روسو:

مجلة الرسالة/العدد 62/أعظم حادث في حياة روسو:

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1934



روسو ومدام دي فرنس

للأستاذ محمد عبد الله عنان

صدر أخيراً في باريس كتاب عنوانه (مدام دي فرنس) وهو عنوان لا يثير لأول وهلة كبير اهتمام؛ ولكنا متى علمنا أن صاحبة هذا الاسم هي المرأة التي كان لها أكبر أثر في حياة جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف الأشهر، وأنها إذا لم تكن معروفة شهيرة لذاتها فان روسو يخلدها في آثاره، ويفرد لها في (اعترافاته) أو ترجمة حياته أكبر مكانة، استطعنا أن نقدر أهمية بحث يتناول هذا الجانب من حياة روسو، وما كان له من عظيم أثر في تكوين تفكيره وفلسفته.

نلمس أثر المرأة في حياة كثير من عظماء الرجال، وتمتاز هذه الشخصيات النسوية في أغلب الأحيان بخلال قوية بارزة تمكن لها في النفوذ والتأثير؛ ولكن مدام دي فرنس تبدو لنا في صورتها وخلالها شخصية عادية، لا تخلق في ذاتها لأن توحي بشيء من مقومات العظمة أو البطولة؛ وكان مثولها في حياة روسو أيام كان فتى مغموراً شريداً لا قيمة له في مجتمع وطنه وعصره. على أن هذه الصلة طبعت نفس روسو وروحه بأعمق طابع، وأثرت في عواطفه وتفكيره أعظم تأثير، وأثارت من قلمه عن مدام دي فرنس وعن صلاته بها تلك الصحف المؤثرة البديعة التي نعتقد إنها أجمل ما في (الاعترافات).

كانت لروسو مع مدام دي فرنس قصة من أغرب القصص وأجملها، قصة (أم) وولد، ومربية وتلميذ، وحامية ومحسوب، وأخيراً قصة عاشق ومعشوق، وصاحب وخليلة؛ وكان اتصاله بها سنة 1728 وهو حدث في نحو السادسة عشرة من عمره؛ ففي ذلك الحين فر روسو من جنيف مسقط رأسه، وغادر أسرته بعد أن التحق حين كان صبياً بمكتب محام ولم يأنس ميلاً للعمل فيه، ثم بحانوت حفار لم يطق خشونته وسوء معاملته؛ وسافر على غير هدى إلى بلدة كفنيون من أعمال سافوا، وقصد قسيسها المسيو دي بونفير وكانت بينه وبين أسرته صداقة، فأرسله بتوصية منه إلى سيدة خيرة محسنة هي مدام دي فرنس، لكي تعاونه على البحث عن عمل يعيش منه.

وكانت مدام دي فرنس تقيم يومئذ في بلدة (أنسي)؛ فقصد إليها الفتى جان جاك، وقلبه يت بين الخيبة والأمل. ويقول لنا روسو إنه لما وصل إلى (أنسي) فكر في وسيلة مؤثرة يكسب بها عطف مدام دي فرنس، فكتب إليها خطاباً منمقاً ضمنه كل ما وسع من الكلمات والعبارات البليغة، ووضع معه خطاب المسيو دي بونفير. ثم ذهب إلى منزلها فلم يجدها هنالك، وقيل له إنها سارت تواً إلى الكنيسة على مقربة من المنزل، فهرول في أثرها ولحق بها وناداها. ثم يقول؛ (وإني لأذكر هذه البقعة بلا ريب. وكثيراً ما بللتها بعد بدموعي وغمرتها بقبلاتي. وإني لأود أن أسور هذه البقعة السعيدة بقضيب من الذهب، وأود أن ألتمس لها إجلال العالم. ومن يقدس آثار إنقاذ الإنسان فعليه أن لا يقربها إلا راكعاً). وشد ما كانت دهشة روسو حينما رأى مدام دي فرنس لأول مرة، وكان يتصورها عانساً مظلمة المحيى شديدة الورع، وما كانت المحسنة التي يختارها القس دي بونفير لتكون في نظره غير ذلك. ولكنه رأى بالعكس محيا يفيض بالسحر، وعينين زرقاوين نجلاوين تفيضان بالرقة، وبشرة ناصعة باهرة. فاستقبلته باسمة وتناولت الخطابين وقرأتهما. ثم طلبت إليه برفق أن ينتظرها في المنزل حتى تعود من القداس.

وهنا يحدثنا روسو طويلاً عن مدام دي فرنس؛ فهي لويزا لينور دي فرنس، سليلة أسرة نبيلة من لوزان؛ تزوجت صغيرة بالمسيو دي فرنس؛ وكان الزواج عقيماً، ولم يكن سعيداً؛ فعافت حياة الأسرة؛ وانتهزت فرصة وجود الملك فكتور أمدية (ملك سافوا) ذات يوم في أفيان، فغادرت أسرتها ووطنها واستغاثت به، فمنحها حمايته ورعايته ورتب لها نفقة حسنة. ثم ذاع بعد ذلك إنه يهواها، فأبعدها إلى (أنسي)، وهناك نبذت مذهبها البروتستانتي واعتنقت الكثلكة إرضاء لمليكها وكان كاثوليكياً متعصباً. وكان قد مضى عليها ستة أعوام في أنسي يوم وفد عليها روسو؛ وكانت يومئذ في الثامنة والعشرين من عمرها. وكانت حسناء (جمالها من ذلك النوع الباقي الذي يبدو في المحيى أكثر مما يبدو في التقاسيم، هذا إلى أن جمالها كان ما يزال في ذروته الأولى؛ وكانت ذات هيئة ناعمة جذابة، ونظرة ساحرة، وبسمة ملائكية. وكانت صغيرة القد، أميل إلى القصر، عبلة نوعاً ولكن دون قبح، بيد أنه لم يك أجمل منها رأساً، ولا أجمل صدراً ويدين ومعصمين).

وقد تلقت مدام دي فرنس تربية مضطربة متنوعة ترجع إلى أنها فقدت أمها عند مولدها، فتعلمت شيئاً من مربيتها، وشيئاً من والدها، وشيئاً من أساتذتها، وكثيراً من عشاقها. وتلقت بالأخص عن والدها قشوراً من الطب والسمياء، وكان للأفاقين من الأطباء والسميائين نفوذ كبير عليها، فكانت تقلدهم في عمل المركبات والأدوية، وتبدد في ذلك ذكاءها وسحرها اللذين كانا يخلقان بأرفع المجتمعات. بيد أنها لبثت خلال هذه الغمار محتفظة بطيبة قلبها، ورقة شمائلها، وبشرها وصراحتها، وحبها للبائس والمسكين، وكان جديراً بذكائها ورفيع خلالها أن تشغل مكانة غير التي وجدت فيها، وأن تؤدي عملاً أجل من ذلك الذي كانت تؤديه.

ولقي روسو مدام دي فرنس (فغزت لبه وحازت ثقته من أول مقابلة وأول كلمة وأول نظرة). ولا يستطيع روسو أن يدرك كنه هذه العاطفة العميقة التي بثتها إليه مدام دي فرنس منذ الساعة الأولى، ويتساءل إذا كانت هذه العاطفة حباً، فكيف اقترنت منذ البداية بسلام القلب، والسكينة، والبشر، والثقة؟ وكيف أنه وهو في حضرة امرأة رفيعة رائعة الحسن، يتوقف عليها مصيرمستقبله في معنى من المعاني، استطاع أن يشعر بمنتهى الحرية والطمأنينة، ولم يخالجه أي اضطراب أو وجل؟ هذا وهو الحدث الحيي الذي لا يعرف شيئاً عن العالم.

وسألته عن أحواله ورغباته، فقص عليها قصته، وبعد أن فكرت ملياً في أمره ولم تجد له حلاً موافقاً، اقترح أحد ضيوف المنزل على مضيفته أن يسافر الفتى الشريد إلى تورينو ليلتحق هنالك بمعهد لتخريج الكهنة، وفيه يلقى العون المادي والروحي، فوافقت مدام دي فرنس لأنها لم تجد حلاً آخر، وساعدت روسو ببعض المال، فسافر إلى تورينو بعد أن أقام لديها بضعة أيام أسرته فيها بساحر خلالها وبثت إليه شعوراً خالداً بالمحبة والعرفان؛ وهنالك قدم أوراق التوصية التي يحملها. وكان المعهد معهد تبشير للكثلكة، فلم يمض حين حتى حمل روسو على تغيير مذهبه البروتستانتي واعتناق الكثلكة، ثم أخرج على أثر ذلك من المعهد ونفح بمكافأة صغيرة فلبث حيناً يتجول في المدينة، وينتقل من مسكن إلى آخر، وهو شريد لا يدري ماذا يصنع، حتى ألقى به القدر إلى خدمة سيدة نبيلة تدعى الكونتة دي فرتشلي. وكانت أرمل متقدمة السن ولا ولد لها، وكانت أديبة قارئة، فكان روسو يكتب ما تمليه عليه من القطع والخطابات؛ ولكنها لم تلبث طويلاً حتى مرضت ثم توفيت؛ وغادر روسو المنزل آسفاً شريداً؛ حتى سنحت له فرصة أخرى، فألحق بتوصية من بعض الأصدقاء بخدمة الكونت دي جوفون أحد رجال البطانة، وتعرف عندئذ بالأب دي جوفون أحد أعضاء هذه الأسرة، وتلقى عليه دروساً في اللاتينية والأدب القديم، ولبث في عمله الجديد أشهراً أخرى، ثم أقيل منه فخرج خالي الوفاض مهموم النفس وكره البقاء في تورينو، وأعتزم العودة إلى أنسي وإلى مدام دي فرنس.

فغادر تورينو على قدميه، ووصل إلى أنسي بعد رحلة شاقة، وقصد إلى منزل المحسنة إليه؛ وآنس في الحال منها ذلك العطف القديم، فارتمى على قدميها وهو يلثم يدها فرحاً، وفاض قلبه سعادة إذ علم أنها أعدت له غرفة بالمنزل وأنه سيقيم إلى جانبها باستمرار. وهنا يفيض روسو في وصف عواطفه نحو هذه السيدة البارة الساحرة، فيقول إن علائقهما لم تثر منذ الساعة الأولى أية كلفة، فكانت تسمية (ولدها الصغير) ويسميها (أمه) وأن هذه التسمية كانت أصدق معبر عن بساطة هذه العلائق وسذاجتها، وبالأخص عن تجاذب قلبيهما، وأن الشهوة الجنسية كانت بعيدة عن ذهنه، ولكنه كان سعيداً إذ وجد (أماً) فتية حسناء تغمره مداعباتها وقبلاتها - أجل قبلاتها - سحراً، وإنه كان يشعر إلى جانبها ولدى نظراتها وأحاديثها بمتعة خالدة لا يستطيع أن يدرك كنهها، يقول روسو: (كان يأخذني سحر المقام معها، ورغبتي المضطرمة في أن أقضي حياتي إلى جانبها، فكنت أرى فيها دائماً، أكانت غائبة أم حاضرة، أماً رؤوماً، وأختاً محبوبة، وصديقاً ممتعاً، ليس غير؛ وكانت صورتها التي لا تفارق قلبي قط لا تفسح مجالاً لأية صورة أخرى، فلم أك أرى في العالم امرأة سواها، وكانت عذوبة المشاعر التي تبثها إلي تمنع حواسي من أن تنتبه إلى مشاعر أخرى، وتحميني منها ومن جنسها كله، وبعبارة أخرى كنت عفيفاً لأني أحببتها، فتأمل هذه النتائج التي لا أكاد أحسن عرضها، وقل لي من ذا الذي يستطيع أن يصف طبيعة شغفي بها. . .)

البقية في العدد القادم

محمد عبد الله عنان المحامي