مجلة الرسالة/العدد 62/في تاريخ الأدب المصري
مجلة الرسالة/العدد 62/في تاريخ الأدب المصري
أيدمر المحيوي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
1
في عصر الدولة الأيوبية، حينما كانت مصر زعيمة العالم الإسلامي ترفرف رايتها عليه، وتقف في وجه المغيرين من الصليبين وتصد هجماتهم، وتدفع عن بيت المقدس وتذود عن حياضه، وتحمي مدينة الشرق وتحوطها بسياج من المناعة والقوة، وحينما كانت مصر تقف أمام أوربا مجتمعة، يريد الأوربيون أن ينالوا منها منالاً، فتأبى مصر أن ينكسر عودها أو تلين قناتها، في ذلك العصر المليء بأسباب القوة، المفعم بالعظمة المصرية والمجد المصري، عاش الشاعر أيدمر المحيوي، وربى في أرض مصر، وفوق ثراها المخصب الندي، وهو في أصله ينتسب إلى الترك، وإن كنا نجهل ما يتعلق بأسرته وآله، ويظهر أن التاريخ يجهل كذلك أسرته، ولا يذكر إلا أنه كان مملوكاً للأمير محي الدين محمد بن محمد بن سعيد، ثم أعتقه وأصبح حراً، غير أنك إذا ذهبت تبحث عن السنة التي ولد فيها شاعرنا بله الشهر واليوم، فإنك غير مهتد إلى شيء، اللهم إلا أنه نشأ في عصر الدولة الأيوبية في منتصف القرن السابع الهجري، نستنبط ذلك استنباطاً من قصائده التي مدح بها بعض سلاطين تلك الدولة، وإذا أنت سألت التاريخ عن تربيته وتعليمه فإنك سوف تجد غموضاً وإبهاماً لا تستبين خلالهما إلا ما قد ينم عنه شعره من أنه درس اللغة، واطلع على كثير من شعر الشعراء السابقين والمعاصرين، فتثقف به وتأثره، وعارضه أحياناً كما فعل ذلك مع ابن المعتز وابن النبيه ومسلم بن الوليد والمتنبي - وإلا ما قد يكون قد تثقف به من علوم اللغة العربية على يد ولي نعمته محي الدين الذي نسب إليه والذي ظل أيدمر حافظاً لنعمته عليه يذكرها، ويمدح سيده بغرر القصائد والموشحات.
2
ليس لنا اليوم إلا أن نحدثك عن شعره الذي بين أيدينا، وقبل أن نصفه لك أو نحدثك عنه حديثاً مسهباً، يحسن بنا أن نخبرك أن ما سوف نتحدث عنه ليس بكل شعره، بل هو منه أبقته لنا الأيام، ولسنا ندري إن كنا سنعثر على كل شعره أو أن الزمن بذلك ضنين؟
أول مميزات شعر شاعرنا طول نفسه، فقصائده أغلبها طويلة، وقد يبلغ بها الطول إلى أن تقارب المائتين، وذلك إن دل فإنما يدل على تمكن في اللغة، واطلاع واسع يهيئه لأن يطيل كما يشاء حق يوفي ما بنفسه ويستوفيه. ثانيها الرقة وجمال الأسلوب مع متانته، فلست تحس بالتنافر أو نبو الألفاظ أو أن تركيباً قلق في موضعه غير مستقر، أو إنك تجد عسراً في فهمه، أو تحتاج إلى وقوف طويل حتى تستبين معناه، فهو سلس سهل، يسبق معناه إلى قلبك قبل أن يسبق لفظه إلى سمعك، وإنك لتجد نفسك مسوقاً إلى قراءته متى بدأت أول القصيدة لطلاوته وعذوبته، وهو يذكرنا بالبحتري حينما نجذ الألفاظ منقادة متخيرة، مع السهولة والعذوبة. ولا يذهبن بك الوهم إلى أنه لم يستعمل ألفاظاً غريبة في شعره، فإنه قد استعمل منها طائفة صالحة، غير أنه كان حكيماً في استخدامها، حصيفاً في استعمالها، لا يكثر منها ولا يضعها في غير موضعها. ثالثها استعمال بعض المحسنات البديعية من غير إكثار منها ولا تكلف، بل إنها تجيء سلسة سهلة، لا تذهب برواء القصيدة، ولا تضيع من بهجتها، ولقد استخدم في شعره التورية والجمع والجناس، وحسن التعليل، والطباق، والاقتباس، فهو يقول:
في جوده السفاح أم في عزمه المنصور، أم في غيبه المأمون
ويقول:
قضت لك الشيمتان: العدل والكرم ... أن تخضع الأمتان العرب والعجم
وشرف الدين والدنيا بدولتك ال ... غراء، والأشرفان العلم والعلم
ويقول:
ملك إذا امتدت يداه إلى العدا ... يوم الوغى تتقاصر الأعمار
ويقول:
هو الناهب الأرواح والواهب اللهى ... وباني العلا والناسك المتورع
ويقول واصفاً حماماً أحمر العين والرجل:
وأليف غصن لا يفارقه ... صب الفؤاد به متيمه
يدعو بصوت أستبين به ... معنى الحنين، ولست أفهمه فيميل بي طرباً تمايله ... ويهزني شوقاً ترنمه
يبدي أسى الباكي ورقته ... في نوحه، والدمع يكتمه
نحر الأسى إنسان مقلته ... فجرى فخضب رجله دمه
ويقول من موشح:
أنت يا موسى رجائي آنساً
نار جدواه فوافي قابساً
رحت في حضرة قداس دائساً
في طوى السؤدد، فأخلع نعلكا ... وادعه يأت بكبرى يوشع
وكان أكثر ما أتى به من شعره حسن التعليل، على أن كل المحسنات التي أتى بها قليلة، فهو غير مغرم بها، ولا ملزم نفسه كغيره السير على منهاجها.
3
شعر المحيوي ينضوي تحت لواء واحد وفن واحد من فنون الشعر الغنائي، هو المدح، فهو الغرض الأول في شعره، يقصد إليهقصداً ويلم بغيره عرضاً من غير قصد، يبدأ به قصيدة المدح أو يختم به الموشح، وكان ما أتى به عرضاً يدخل في الوصف أو في الغزل، ولنقف وقفات قصيرة لدى كل غرض من هذه الأغراض التي طرقها واصفين ودارسين.
أول ما نلمسه في شعره المدحي أنه قد خلا من الغزل في أوله حينما يمدح سلطاناً من سلاطين الدولة الأيوبية، بينما هو يبدؤه بالغزل عندما يمدح ولي نعمته محي الدين بن سعيد أو غيره من الوزراء، فأي شيء تستطيع استنباطه من تلك الملاحظة؟ وعلى أي شيء تدل؟ لقد قلبنا الأمر على وجوهه، ثم خرجنا بنتيجة قد تكون قريبة من الصواب: تلك هي أن هؤلاء السلاطين لم تكن عنايتهم موجهة للغواني والحب والغرام حتى يأسرهم الحديث عن الحب ويسترعي انتباههم، وإنما كان كل همهم موجهاً إلى الحرب والقتال، وقهر الأعداء، ورد العادين من المغيرين على دولتهم، فقد كانوا كما قال أيدمر في أحدهم:
متفرغ للمجد، لا هو من دد ... يلهيه عن كرم ولا منه دد
البيض من صنع القيون لدى الوغى ... يطربنه، لا البيض مما يولد
والأسمر الخطار يبهج نفسه ... ويسرها لا الأسمر المتأود وإذا كانت عنايتهم متجهة نحو ميادين الحروب فماله يشغل نفسه بشيء لا يملك عليهم نفوسهم، ولا يأسرها؛ حقاً لقد كانت لهم مواطن لهو ولذة، ولكنها لذة العظمة وأبهة الملك
كذلك يسترعي نظرك في شعره كثرة مدحه لسلاطين هذا العصر بذبهم عن حياض الدين وحياطته بسياج من العزة والمهابة فهو يقول للملك الصالح:
ملك يلوذ الدين منه بمعقل ... أشب، سطاه سوره والخندق
فالدين بعد تفرق متجمع ... والكفر بعد تجمع متفرق
ويقول له:
فأسلم لدين قد هديت إليه من ... لا يهتدي، وجمعت ما لا يجمع
وحميت حوذته، فأصبح وهو في ... أيام دولتك الأعز الأمنع
ويقول للملك الكامل:
فالله يشهد أن دين محمد ... بمحمد، وله الخليفة تشهد
ويقول له:
لولاه كان الدين سرحاً ما له ... راع، وزنداً ما عليه سوار
وذلك نتيجة طبيعية لهذا العصر الذي صبغ بالصبغة الدينية وكان القتال يدور فبه باسم الدين، فليكن الشعر كذلك مصبوغاً بهذه الصبغة، مثنياً على السلاطين لأنهم خدموا الدين وقاموا على صيانته.
تلمس في شعره المدحي كذلك قوة ملوك مصر في هذا العصر حتى لكثيراً ما يسميهم ملوك الملوك وكثيراً ما تسمعه يقول لهم:
من ألقت الدنيا مقالد أمرها ... بيديه وهو بها أحق وأليق
ذو صورة تنبيك عنه أنه ... ملك الملوك الحق حين يحقق
إلى أن قال:
فجلست حيث جلست منه تزينه ... شرفاً فطاف بك الملوك وأحدقوا
كل يغض من المهابة طرفه ... فتراه، وهو لغير فكر يطرق
هيهات جزت مدى الملوك إلى مدى ... رجم الظنون إليهلا يتطرق
ويقول: منح رآك الله أهلاً أن تقل ... دها فقلدك الذي تتقلد
ذكرت مفاخرها الملوك وخير ما ... ذكرته منها أنها لك أعبد
ذكراك فيهم سجدة مسنونة ... فلذا متى تذكر لديهم يسجدوا
فإذا هم نظروا إليك فأعين ... حسرى، وأفئدة تقوم وتقعد
ملك الملوك وخير من عقدت له الت ... يجان في قدم الزمان وتعقد
وإذا علمت أن ملوك مصر في ذلك الحين كانوا حقاً زعماء الملوك في العالم، وكانوا أكبر رؤوس تطأطأ لها هام الملوك، وتنخلع من هولها قلوب الأعداء؛ وإذا أنت علمت أن مصر في تلك الأزمان كانت أكبر مملكة في الشرق والغرب، وأقوى دولة يقصدها الأوربيون بجموعهم، فلا ينالون منها إلا ما ناله الوعل من الصخرة، وإذا أنت علمت أن الجيش المصري هو الذي حمى الشرق وحفظه من الأجنبي الذي يريد أن يتحكم فيه وإذا أنت علمت أن الإسلام وحرية الأديان كانت تسهر عليهما مصر وملوك مصر، ويحيطونهما بسياج الحفظ والمناعة، إذا أنت علمت كل ذلك أيقنت أن هذا الذي مدح به هؤلاء الملوك لم يكن بالكذب ولا المغالي فيه، وأمامك كتب التاريخ فاقرأها تعد مؤمناً بصدق ما قاله في قوة مصر وملوك مصر.
شعر شاعرنا المدحي يعطيك صورة عن بعض نواحي الحياة المصرية في ذلك الحين، فهو يحدثك عن النزاع الذي كان قائماً بين المصريين والصليبين حينما وجه هؤلاء تيار حروبهم إلى مصر نفسها قلب العالم الإسلامي؛ فأغاروا على دمياط، ولكنهم فشلوا أيما فشل، واستطاع المصريون أن يخلصوا دمياط من حوزتهم ويرجعوهم بخفي حنين، وهو يحدثك عن هذه الجموع الكثيرة التي كانت أوربا تمد بها الجيش المحارب لدمياط، والذي يريد الغلبة عليها، قال أيدمر:
أيام قال الشرك بغياً للهدى ... دمياط لي، ولك الغداة الموعد
وأتى بما ملأ البسيطة كثرة ... والله ربك هادم ما شيدوا
جيش إذا مسحت يداه بقعة ... جف المياه بها، وذاب الجامد
كالسيل إلا أنه لا ينقضي ... والليل إلا أنه يتوقد
وأتى بك الإسلام وحدك موقناً ... أن سوف تهزم جمعهم وتبدد حتى إذا التقيا طلعت عليهما ... بالنصر تشقى من تشاء وتسعد
فرددت شخص الشرك، وهو مسربل ... خزياً، ودين الله وهو مؤيد
حكمت بأسك فيهم: فمكلم ... ومجدل، ومشرد، ومصفد
كما يحدثك عن هذا النزاع الذي كان قائماً حول جلق (دمشق) أتبقى في حوزة المصريين، أم يحكمها غير المصريين، وكانت الغلبة غالباً في جانب المصريين، وهو حين يحدثك عن هذا الفتح يشعرك بما في نفوس المصريين من حب لأن تبقى دمشق ضمن حدود مملكتهم، وأن يخفق عليها علم الإمبراطورية المصرية. حتى إنه حينما كان يأتي البشير بفتح دمشق يزين المصريون دورهم، ويرفعون الأعلام على شرف الجدران تخفق كما تخفق قلوبهم بالفرح والسرور، واستمع إليهيقول:
قد قلت إذ جاء بالفتح البشير به ... الله أكبر هذا غاية الأمل
ترنح الدهر، واهتزت معاطفه ... وراح يسحب ذيل التيه والجذل
والأرض قد أخذت للناس زخرفها ... وازينت، فهي في حلي وفي حلل
مسرة في قلوب الناس قد ظهرت ... حتى على شرف الجدران والقلل. إلخ
وهو يؤمن بأن دمشق سوف تنال الخير والسعادة، وسوف تصبح في دعة وأمن ما دامت ضمن المملكة المصرية:
فليهن جلق أنها قد أصبحت ... في مستقر الملك، لا تتحول
وأنا الضمين بأن سيسلي جلقاً ... عما مضى من غمرها ما يقبل
ونختم حديثنا عن مدحه بتلك القطعة الصغيرة لتكون نموذجاً لبقية مدحه، قال يمدح الملك الكامل:
الله جارك، والورى أنصار ... فانهض، ونل بهما الذي تختار
خضعت لهيبتك الأقارب والعدا ... وجرت بوفق مرادك الأقدار
ملك إذا امتدت يداه إلى الظبا ... يوم الوغى تتقاصر الأعمار
من وجهة قمر ينير، وسخطه ... قدر يبير، وحدسه إبصار
وإذا القلوب تطايرت في موطن ... نزلت عليه سكينة ووقار
ملك له من باسه وغنائه ... حصن أشم، وجحفل جرار ملك يميل إلى المكارم لا الدمى ... وتهزه العلياء لا الأوتار
ملك تهيم به بنات قلوبنا ... حباً وتعشق مجده الأشعار
لولاه كان الدين سرحاً ما له ... راع، وزنداً ما عليه سوار
فأنت تحس حقاً بأنك تقرا أسلوب البحتري وتحس جماله وعذوبته، مدحه لغير الملوك يبدأ بالغزل، وهو وإن لم يكن مقصوداً لذاته لا بأس بجماله وعذوبته، حتى لتتمنى حين تقرأ غزله أن لو كانت القصيدة كلها غزلية، وإن كنا نؤكد أنه في غزله مقلد آخذ معاني من سبقه من الشعراء، واستمع إليهيقول من موشح:
قال لي العاذل لما نظرا
من غدا قلبي به مشتهرا:
أكذا تعشق؟ ماذا بشراً؟
حاش لله؟ أراه ملكاً ... مثل ذا فاعشق، وإلا فدع
هز عطف الغصن من قامته
مطلعاً للشمس من طلعته
ثم نادى البدر في ليلته:
أيها البدر تغيب ويحكا ... ما احتياج الناس للبدر معي؟!
فأنت لا شك تحس بالعذوبة في ألفاظه وإن كان الكثير من معانيه مقتبساً، وكم كان بودنا لو أطال الحديث في الغزل أو لو قصد إليهقصداً وظل يروي لنا عاطفتنا الظامئة إلى غزله.
البقية في العدد القدم
أحمد أحمد بدوي