مجلة الرسالة/العدد 62/من الأدب الإغريقي

مجلة الرسالة/العدد 62/من الأدب الإغريقي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1934



الشاعر الصائم

بقلم بسام كرد علي

لقد أطبق شفتيه ولم يرد - بعد أن قضى الأيام الطوال ينشد أهل أثينا شعره الرائع العذب - أن يظل مثابراً على ما بدأ به، فألقى نفسه في داره والتزم حياة العزلة، وانقطع ذلك الصوت الذي كان يغذي جميع سكان أثينا، وسكنت تلك العواطف الثائرة وخليق بها ألا تسكن، وتشرق بأنوار الجمال لكل من يريد الجمال

فدخل عليه هوبول وكان من أصدقائه الملازمين، فوجده مستلقياً على فراشه النابي، وصاح به هوبول وقتئذ:

يا قيثارة الأرض! ويا عندليب السماء. هل حبست صوتك انتقاماً منا نحن أهل الأرض الذين أصمت آذاننا كلمات الحسد، وأعمت عيوننا ترهات النعيم، وشغلت عقولنا سفاسف الملذات، فلم يبقى منا إلا هذه الأجسام المركبة من عظم الكبر ولحم الفرائس، ودم نجس كالخمر المسكوبة في مجلس الدعارة.

فقام هايكلوس من مكانه وحمل جسمه المنهوك وحاول إخراج جملة قصيرة من صدره المتهدم قال: إني لا أزال أرى في نومي ويقظتي ملائكة أبولو تحاسب أهل أثينا عما حفظته من أشعار هوميروس، وعما تعي من كلم زيوفراست، وهيراقليط، وسقراط، فلا تجد غيرك يا هوبول، وتصرخ في أعلى السماوات بصوت موحش مهول لقد نسى أولئك الطاغون أشعار اليونان وكلمها، وتركوا عبادة آلهتها، فدعهم يا هايكلوس في ظلمات الجهل يعمهون.

دعهم فقد عبدوا البطون والقدود، وأضحوا قوقعات نجسة تدنس الأرض بسائلها اللزج، ما أشدهم طغياناً وفجراً، إنهم نسوك يا هايكلوس فثابر على صومك ولا تعد تنشدهم شيئاً، وإن الثلاثين يوماً التي انصرمت على انقطاعك لا تكفي، بل ثابر على صمتك فهؤلاء قوم قد نسوا ماضيهم وحاضرهم، وعليك أن ترحم نفسك. لأني أرى أن كل كلمة من أشعارك الباهرة قد سلبت خلية من جسمك الغض.

إني يا هوبول رأيت الملائكة تخاطبني غضبى: (سنترك المدينة طمعاً للشياطين، وسنحرسك فقط بعنايتنا)

(وكان هوبول جاثياً على ركبتيه بجانب الشاعر هايكلوس مصغياً لما يفسر له من أقوال الملائكة) فوخزه هايكلوس وأشار إليهليرى المدينة، فأبصر الشياطين تمرح في أسواقها وقد خيمت عليها السحب الربداء، وأعقبها قصف الرعود الصاخبة، فصرخ الأهلون. . . وجزعوا، وهرعوا إلى الجبال والآكام ومنهم من فر واختفى في الغابات. . . ومنهم من رضى بالاستسلام للشياطين، فلم يستطع هوبول أن يبقى صامتاً ساكتاً، فألقى نفسه من النافذة، وركض نحو القوم صائحاً:

ألم أذكركم بصوم هايكلوس، ألم أبين لكم غضب الآلهة لعدم انقيادكم لصوت الحق.

إنكم لم تعوا الحكم المرسلة على ألسنة شعرائكم، ولم تعبئوا بما صاغ لكم خطباؤكم من الأقوال المأثورة.

إن هايكلوس قد بلغ به الإعياء حد النزع، وأضحى لا يستطيع مقاومة مرضه الممض، وإن جوبيتر يرثي لحالكم الأسيفة بعد أن فقدتم كل ما في الحياة من معنى، وأصبحتم في حياة لا روح فيها، فإن أثينا بعد اليوم ستقفر من الفن، ستقفر من مواهبها السماوية، ستقفر من بلابلها الغريدة. لم يعد يخرج بين ظهرانيكم شعراء وحكماء يفنون أجسامكم لتغذيتكم، وينشرون الرائحة لتعطيركم، ويصوغون الحكمة لإرشادكم.

وما زال هوبول يجول في أحياء المدينة ويقص ما سمع من هايكلوس عن جوبيتر وأبولو والملائكة، حتى فزع القوم، فانتدبوا من يذهب إلى هايكلوس ويرجو وساطته بينهم وبين الآلهة، لئلا تستمر الشياطين في تمردها، فانتدبوا أشخاصاً من كل طبقة وتوافدوا مستجدين أشعاره صائحين: لقد أيقنا بحكمة الحكماء، وآمنا بحاجاتنا لأمثالكم الرفقاء. . . .

فخرج هايكلوس من داره وأخذ ينشد دعاءً يعيد لأثينا حياتها الأولى. . . . .

بسام كرد علي