مجلة الرسالة/العدد 620/القصص

مجلة الرسالة/العدد 620/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 05 - 1945



أقصوصة من لانقيا القديمة

الرسالة

للكونتيسة هر ميانازر موهلن

ترجمة الأستاذ فيصل عبد الله المحامي

لشد ما راعني من مارتا حين لقيتها أول مرة دمامة وجهها الذي خلعت عليه أربعون عاما شر ما كان لديها.

لقد لاح وجهها آنذاك كما لو أن مثالا مجنونا نحته بأزميل مثلم الحد. وكانت تنوء في دنياها بأنفها الغليظ وجيدها المترهل، ووجهها المعروق الذي برزت فيه عظام خديها وبفمها الواسع العريض. . . على أن عينيها كانت على نحو آخر. فلم يكن ثمة غلو في القول بأنهما على شيء من الحسن - لولا - ما تعبران عنه وتنطقان به من جوع ونهم

وبرغم ذلك كان من العجيب أن لم تتزوج مارتا، فإن فتاة من الفلاحين يتيمه من الصغر تملك حقلا ممرعا وثماني بقرات سمان وزوجي خيل من الفصائل، وكنِّ دجاج واسع يندر أن تبقى بكراً في ريف لا تفيا القديمة، حيث لا يكون الزواج فيها عقداً بين فتى وفتاة وإنما يكون بين حقل وحقل؛ ولكن مارتا لم تتزوج، ولا يبدو أنها معنية بأن تتزوج. على أن عجائز القرية كان لهن - بالطبع - ما يلغطن به. فلقد كن يهمسن بحديث حب كان قبل عشرين عاماً عن فتى وسيم الطلعة من الروس جاء هذا البلد كغيره يسعى لرزقه من جني البطاطس.

ولقد روت لي عجوز درداء منهن ذات يوم حديث مارتا والروسي ذاك، فقالت وقد دلت لهجتها تخفيه لمارتا. . . (. . . لقد شغفها حباً، ثم كان ذلك أن أعلنا خطبتهما. وكان مقدراً أن تزف إليه في عيد القديس ميخائيل لولا أن أصر (بوريس) على أن يرحل إلى أمريكا أولاً؛ فلقد كان يقول إن له أقرباء سراة هناك لا يضنون عليه بالمال إن سمعوا برغبته في زواج صالح، وهذا كما كان يقول سيعينه هو ومارتا على أن يبتاعا الحقول الثلاثة التي تحيط بحقلها والطاحونة التي شاخ راعيها وشح رزقه.

وبرغم أن مارتا لم تكن لتأبه بأن تملك الحقول أو الطاحونة فإن (بوريس) قد أصر على دعواه تلك ولج فيها فلم تستطيع مارتا بالطبع لرغبته رفضاً. . .)

ثم سعلت العجوز وبصقت على الأرض بذوراً كانت تمضغها واسترسلت في حديثها وقد سرها أن تجد من لم يسمع بعد بما ترويه ويسعدها أن ترويه.

ثم قال بوريس: إنه ليستحي أن يفد على أقربائه معدما حقير الهيئة رث الثياب، فكان أن باعت مارتان حقلين مما تملك وخمس بقرات وسواراً ذهبياً وحليا أخرى مما كانت لأمها وقدمت ثمن ذلك كله لبوريس الذي راح بعد ذلك ينفق منه على أقرانه في إلحان وهو يحدثهم ساخراً هازئاً بحديث مارتا الدميمة الخلق الدنيئة الُخلق التي صدقته في كل ما ادعاه. . . ثم لبث بعد جني البطاطس حيناً على نهجه ذاك حتى أقبل الشتاء فعاش كالسادة على ما تدره الأرض. ولما أقبل الربيع ذهب. . . ولم يعد

ومنذ ذلك الحين قل أن تتحدث مارتا إلى أحد. . . فلم يعد لها في دنياها من شيء غير العمل والأمل، تعمل في حقلها وترعى ما لديها وتنتظر بوريس أن يعود. . . وترتقب ذلك اليوم الذي فيه سيعود

ولقد يكون محتملا أن تحس مارتا بغتة برغبة في أن تتحدث إلى أحد، وقد يكون محتملا أيضاً أنها قد أدركت أن من السهل أن تروى قصتها لغريب من أهل قريتها فيصدق كل ما ترويه ويأنس به وبها، وقد يكون غير ذلك، فلست أدري ما الذي أوحي إلى مارتا أن تستوقفني ذات يوم وقد مررت بحقلها على فرسي فطلبت إلي أن أترجل وأدخل مثواها لشرب قدحاً من اللبن؛ ثم راحت بعد ذلك تحدق في بعينيها الزرقاوين، وقد لاح عليها أن لديها ما تريد أن تقوله وما لا تريد أو ما لا تقوى على أن تقوله، فلقد لاح عليها تردد بينّ ثم تنهدت وهي تقول:

- ربما بلغك عني ما يلغط به القوم هنا. . . إن ذلك كله هراء محض، وقمين بك ألا تصدقيه. كلا. . . إنه لم يهجرني وسيعود. . . أجل سيعود.

ثم نهضت متثاقلة كأنما تحس على كاهلها عبء سنيها وانحنت على صندوق مزركش وأخرجت منه ورقة مطوية. كانت تلك الورقة رسالة تحمل تاريخا قديماً واسم مدينة (بروكلين) ثم قالت وهي ممسكة بها: لقد كتب إلي هذه الرسالة. كتبها بلغة الحب الصادق.

لقد أذاب قلبه في رسالته هذه يناجيني فيها بأعذب الألفاظ. ثم عادت تحدق فيَّ كأنما استقر خاطرها على رأي فجأة وقالت: إنني أعرف بالطبع أنها رسالة غرام. ولطالما تمنيت أن أطلع على ما فيها فأعرف كل كلمة حبيبة كتبها إلىَّ.

وإنك لتعلمين أنني أمية لا أقرأ.

وليس في القرية من أثق به فأطلب منه أن يقرأها لي؛ والنساء يحدقن علىَّ لأن زين الشباب أضحى أسير حبي؛ والرجال يمقتونني لأنني لم أرض بأحد منهم زوجاً؛ إذ كل ما يبغونه من زواجي لو تم ذلك لا يعدو الحقل. ذلك احتفظت برسالتي فلم يطلع عليها أحد. على أنني غالباً ما أخرجها من الصندوق ثم أعدو بالفكر في مجالي الخيال أحاول أن أتصور ما يعبر عنه من العواطف ويزدان به من المعاني، وأنه ليسعدني أن تقرئيها أنت عليَّ إذا سمحت بذلك.

فأخذت الرسالة، وقد كان واضحاً أن كاتبها ليس على شيء من العلم، ثم أخذت أقرأها لنفسي قبل أن أتلوها عليها. ولقد جلست إلى جانبي، كأنما تلوذ بي مما تحسه وتفيض به من تلك العاطفة الجموح. كانت عيناها الظامئتان المترقبتان لا تتحولان عني.

ولقد قرأت رسالتها مرة ثانية وثالثة، وقد أفزعني أن أجدني أرتعش، وأخذني دوار حاد، إذ لا بد أن يكون الرجل ثملا حين أنشأ هذه الرسالة؛ فلا يمكن لمخلوق بغير الخمر أن يثور في نفسه كل هذا الحقد وكل هذه القسوة مما لا يمكن تصوره في حنايا إنسان. كان ما في الرسالة سخرية من هذه البلهاء الدميمة التي صدقته في تظاهره بالحب، ولم تعجز منشئها دقة الوصف وسعة العلم بما يزري بمارتا ويحزنها، ولم يفته مظهر من دمامتها يتهكم به ويسخر منه. كان يسخر من أهداب عينيها كأنما هي شعرات خنزير، ومن جسدها كأنما هو كتلة واحدة من العظم، ومن فمها الواسع كأنه فم ضفدعة أو أوسع وابشع. وحين ينتهي من وصفه اللاذع لمارتا وتهكمه بها يتحدث مزهواً عن فتاته الأميركية الحسناء التي تجلس إلى جانبه وهو يكتب رسالته. هذه الفتاة التي يقول عنها إنها مشرقة كالزهر، منيرة كالبدر، تبتسم فتبدو كزهرة الربيع.

ثم يروي لمارتا أنه حدّث فتاته بحديها، حدثها عن امرأة بلهاء جُنَّت به ووهبته كل مالها لكيما يبلغ هذا البلد السعيد الذي يعج بالنساء الفاتنات.

ولقد ألحت عليّ مارتا بعد ذلك، تسألني في لهفة وتحرق، ماذا يقول؟ لماذا لا تقرئين؟ ماذا تنتظرين؟

لقد كذبت عليها، وماذا كان في طوقي أن افعل؟ رحت أحدثها ويدي ترتجف وقلبي من الغيظ يتلوى، أن بوريس يذكرها أبداً ولا يملَّ ذكراها، وإنه ليذكر طول عمره ذلك الزمن الذي قضياه معاً. ثم رحت أصف لها شدة شوقه إليها وانه سيعود ذات يوم حينما يفرغ صبرها وتيأس من رحمة الله، ليفوز بها ولن يتركها بعد ذلك العمر كله.

لقد كنت أجد الكذب شاقاً على نفسي مجهداً لها، فلقد أمضى الرثاء الذي أحس به لهذه البلهاء حقاً، والاشمئزاز الذي أفيض به لذلك الذي عبث بها وتنعم بمالها ثم راح يسئ إليها قدر ما أحسنت إليه. على أنني وجدتني بعد بضع جمل أتقن الكذب وأجيده. فرحت أجهد خيالي وأعنت ذاكرتي لتسعفني بما تعي من شهيرات رسائل الحب التي قرأت.

ثم ألقيت بالرسالة بعد ذلك على المنضدة، فأمسكت بها مارتا وهي على حال شديدة الاضطراب. كانت كهيكل من الخشب بعثت فيه الحياة فجأة، فلم يعد يبدو عليها ذلك العبوس، وتلك البشاعة. كل ذلك أنقلب الآن في وجهها إلى عذوبة وإشراق وحياة.

ثم راحت تتحدث إلى بخفوت حتى لكأنها تحدث نفسها. كتب ألي كل ذلك؟ كل ذلك؟ كل هذه الألفاظ الحلوة العذبة!! كل هذا الحب. . . لي أنا!؟ ثم تنهدت وقالت: على أنني لسوء الحظ لا أستطيع أن اقرأ كل هذا بنفسي. لماذا لا أتعلم القراءة؟. . . أرني بالله أي سطر منها يؤكد شدة حبه وإياي وشوقه إلى، وأين كتب يقول أنه سيعود حينما يعييني الصبر.

ولقد أريتها بعض السطور في أول الرسالة وأخرى في آخرها. . فهزت مارتا رأسها وقالت: لو كان لي علم ذلك. حينما كربني الهم وأمضني اليأس وأضناني الانفراد. لو أنني كنت أستطيع أن أقرأ على نفسي هذه الرسالة الحبيبة كل يوم. . . ثم راحت تحدق في كطفل يستجدي حلوى وتقول: يا صديقتاه أخبريني. هل يستطيع من في سني أن يتعلم القراءة؟. . .

ولقد راعني قولها هذا حقاً. على أنني قلت لها: إن هذا لغاية في الصعوبة. ولكن ما الذي يدفعك إلى هذا وأنت تعلمين الآن ما كتب إليك؟ فقالت: هذا صحيح. ومع ذلك فإنني أحس رغبة ملحة في أن أقرأ الرسالة بنفسي لكي أتملى بكل حرف منها. . . على أي حال لا بد أن أكلم معلم القرية في ذلك.

ثم غلبها الصمت فراحت تحلم. وقد فاضت عيناها بالدمع غبطة. واستسلمت لأمانيها وأحلامها، فلم تفطن إليَّ وأنا أنسل من جانبها فزعة كأنما ارتكب إثما.

منذ ذلك اليوم حرصت على ألا أمر بحقل مارتا كلما امتطيت جوادي خيفة أن تبصر بي فتطلب إلى أن أقرأ الرسالة مرة أخرى فأتلوها على غير ما تلوتها أول مرة، فيبعث هذا في نفسها الشك.

على أنني عرفت مما تثرثر به عجائز القرية أن مارتا تقصد المدرسة مساء كل يوم فتمكث فيها ساعة أو تزيد، تتلقى على مدرسيها دروساً في القراءة. ولشدة ما كان نساء القرية يضحكن وهن يلغطن بحديث مارتا ويقلن إنها تتعلم القراءة. . . تتعلم القراءة في سنها هذه! ترى أكان هذا لأنها ستصبح عما قريب سيدة؟ لقد ابتاعت كتاباً للأطفال وإنها لتجلس على مقعد أما بيتها كل يوم ممسكة به وهي تردد حروفاً منه: ألف - باء - جيم - قاف - طاء - هاء - قطه. . . وإن الناس لا يقوون على كظم ضحكهم مما يرون، ثم يسترسلن في ضحكهن ساخرات. أما أنا فقد وجدت في الأمر غير ما وجدنه. لقد كان فيه ما يبعث على البكاء رثا لها وفزعا مما ينتظرها.

ولقد خرجت أتنزه ذات يوم فضللت سبيلي. ثم ألفيتني بعد حين في غاب خلف حقل مارتا. وكان الوقت خريفاً والهواء البارد يهب من البحر قارساً، فلذت بالأشجار محتمية بها، ثم رحت أزحف بين أفنانها، فبلغ أذني بغتة صوت أجش قوي النبرات يردد ألفاظاً بجد وقوة: بيت - حقل - كلب - بقرة. . . وما شاكل هذه الكلمات البسيطة الرقيقة التي كانت برغم ذلك تمهد السبيل الذي سيقود مارتا يوم من النعيم إلى الجحيم.

وكان الصوت لا يزال يردد. . . حقل. . . الله. . .

الله! أجل. . . إنه هو وحدة القادر على أن يبعث إلى مارتا بكسف من السماء يودي بها قبل أن تجد نفسها قادرة على أن تقرأ الرسالة. . . الرسالة التي تفيض بالحقد والمقت والسخرية. . . الرسالة القاتلة. . . إنه القادر على أن يرحمها فيعمى عينيها الظامئتين المترقبتين قبل أن تستطيعا قراءة حرف.

وكانت ليلة. . . أرخت فيها يد الخريف سدول الوحشة والكآبة على الكون ودوّت فيها العواصف القاصفة بالسهول. . . وهدير البحر يتعالى مضطرباً صاخباً، والأشجار العارية تمد أيديها كأنها تسأل النجدة أن تستغيث مما ترى وتسمع. . . وأوراق الشجر تتناثر على الأرض فتلوح مما علاها كبساط مزركش زاه. . . ثم أرسلت السماء بعد ذلك ثلجاً أبيض ناصعاً رقيقاً، فكسا كل شيء رداءً أبيض ناصعاً رقيقاً، فكسا كل رداء أبيض يشف عن طهر وروعة، مبدلاً بؤس الخريف وعبوسه دنيا بيضاء. . . ناصعة البياض، وكان هذا قبل عيد الميلاد بيومين. . . حين تلجأ الساهرات إلى مثواهن يخشين الأشباح التي تطوف في الكون كلما حان هذا الحين. . . وعلى حين فجأة تبدى الكون الأبيض في وشاح قرمزي اللون يضطرب ويلتهب، فلقد اندلعت نيران، نيران هائلة، أضاءت من تلظيها الغابة التي كانت تجاورها. ولقد أهرع رجال القرية وعمال المقاطعات الأخرى ليطفئوا النار. . . ينير لهم السبل وهجها الأحمر. ولما بلغ القوم بيت مارتا ألفوا حقلها يشتعل، والريح الشمالية تقذف بالسنة ناره إلى كل جهة. وكانت الأبقار تخور فزعاً فيملأ خوارها الأرجاء؛ والخيول مسَّها خبل فأخذت تقمص حتى وجدت مخرجاً فاندفعت منه إلى السهل الأبيض كأنها أشباح تطوف.

وأمام البيت الملتهب تقف امرأة. . . كان شعرها الأغبر الأشعث المنفوش يحيط بوجه كالح وعينين متحجرتين. . . وكانت تقهقه ضاحكة. . . فتعلوا قهقهتها على خوار البقر وفرقعة الخشب المحترق، ولقد لبثت حيناً بعد ذلك وهي تشهد ما حولها وتقهقه.

لقد قرأت مارتا الرسالة أخيراً. . .

القدس

فيصل عبد الله المحامي