مجلة الرسالة/العدد 621/هرموبوليس مدينة الحج

مجلة الرسالة/العدد 621/هرموبوليس مدينة الحج

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1945



- 2 -

للأستاذ فوزي الشتوي

(انتهينا في المرة الماضية عند وصف سراديب التحنيط ونختم في هذا المقال بوصف بعض الآثار الأخرى)

حياتنا لم تتغير

وإلى جوار السور معبد حاكم المنطقة الديني بوتوزوريس. وهو معبد فخم تبدو ونقوشه بالألوان الطبيعية والصور المنحوتة في الأحجار فترى في تقاطيع أصحابها سمات المصريين، وسمات السوريين والصينيين. ترى فيها تعابير الحزن كما ترى فيها علامات الفرح. وتدرك من نظرات أصحابها ما تنم عليه من إعجاب أو ازدراء، فعلى حوائط هذا المعبد سجلت صور الحياة المصرية في مراحلها المختلفة.

فهنا لوحة أو لوحات تمثل الفلاح يزرع أرضه من حرث وسقي وإنبات ثم حصد وتدرية، وفي لوحة ثانية ترى الصانع يحتضن أدواته ويحركها في خزفه أو نحاسه ليخرج منها تلك الأواني التي تشاهدها في دار الآثار، أو أن أردتها حية مجسمة تجدها في خان الخليلي، فصناعه وأدواتهم وطرقهم يتبعون طرق أسلافهم ونادراً ما تجد أداة تغيرت ولكن ما تغير هو مرور تلك الحقبة من الزمن

ونظرت دقيقة إلى تلك اللوحات وما شملت، ثم نظرة أخرى إلى تلك البقعة وما بين توضح لك أننا لا نزال نعيش على حساب تلك العقول، فهناك نرى صحاف النحاس تنقش ثبتت على قواعد من القار فترى منها نسخة أخرى في خان الخليلي.

وما قيل عن صناع الصحاف النحاسية ينطبق على النجارين والخراطين وصناع الفخار. تراهم كلهم منهمكين في عملهم في تلك الأوضاع المختلفة التي لم يترك منها الفنان تعبيراً إلا نجح في آدائه وإجادته طبقاً للحقيقة الحية.

كاهن ورع

وهكذا خصص من كل حوائط المعبد واحدة أفردت الأولى للزراعة وبينت الث الصناعة وعرضت الثالثة لحياة الكاهن وموته. وعلى هذا الحائط تظهر عظمة صاحب المعبد. فهو لم يكن كاهنا عادياً، رجلاً تقياً ورعاً يحج إليه الناس من كل مكان فيأتيه اليونانيون والرومانيون ليحصلوا على بركته وليعبروا له عن إعجابهم بسجاياه، يمتدحون جليل أعماله، ويطنبون في حسن معاملته لأعوانه.

ومن الظواهر الجديرة بالتسجيل على ذلك الحائط منظر أولاده الأربعة وبناته السبع وقد احتلوا أماكنهم في صف واحد مرتين تبعاً لأعمارهم فلا يسبق الغلام الفتاة ولا الفتاة الغلام. ففي المقدمة الابن الأكبر وفي النهاية الابن الأصغر وإنك لتلحظ فيهم اختلاف التقاطيع وتشابهها كما تلحظه في أبناء أية أسرة. وإنك لترى في تلوين البشرة سمارها في الذكور وبياضها في الفتيات، كما تلمس أماراة الرجولة في الشبان وعلامات النعومة في الفتيات وإن امتياز الجميع بقاماتهم الفارغة الممشوقة.

ومات الكاهن الورع، فقدمت الوفود من كل مكان. وسار الكهنة في موكب جنازته يسحبون العربة التي تحمل جثته وترفرف فوق رؤوسهم أعلام بلادهم، فهم لم يأتوا كأفراد فحسب، بل قدموا كممثلين لبلادهم وليعبروا عن مكانة الرجل في ديارهم.

يوم الحساب

والموت في عرف المصريين القدماء مواصلة الحياة ولكن في الدنيا الآخرة أو عالم الخلود. وليس الوصول إليه من الأمور الهينة ففي طريقه حساب عسير لا يكتفي فيه بالمظاهر بل يوزن فيه الإنسان ومبعث خيره وشره.

فإذا انتقلنا إلى الحائط الأخير وجدنا روح الميت بين أيدي الآلهة تقدم حسابها فتذكر أربعين سيئة لم يعملها الميت في حياته ثم يترافع أمام مجمعهم مبيناً حقه في الحياة الأبدية. إلا أن الآلهة لا تؤخذ بالأقوال فيزنون ما في قلبه من شر. فان وازن ريشة (معان) إلهة العدل أدخل الجنة. وإن زاد عنها ألقي إلى حيوان ضخم يلتهمه ثم يندفع به في حياة الظلمة.

ويربط هذا المعبد بين الفن المصري والفن اليوناني. فهو مصري في جميع نقوشه وتفاصيله إذا استثنينا طريقة الدفن. فالمتبع في المقابر المصرية أن يكون مرقد الميت إلى اليمين. فكان في هذا المعبد في بئر عميقة في وسطه طبقاً لطقوس ذلك العصر. وفي سقف المعبد فوق البئر فتحة صغيرة لوحظ أن الشمس تسقط منها إلى اسفل البئر فتضيء المكان وتبارك صاحبه في وقت الظهر من شهر بؤونة.

فن التصوير القصصي

وتمثل الحفريات الأخرى كثيراً من الفنون اليونانية. ونجد فيها أول مراحل فن التصوير القصصي. ففي أحد المنازل، ويظهر أن صاحبه كان من رجال العلم، صور الفنان قصتي أوديب الملك والكترا. ففي الأول يبين الرسم ذلك الحيوان الضخم وهو يسأل أوديب عن الشيء الذي يسير على أربع في الصباح، وعلى أثنين في الظهر وعلى ثلاث في المساء.

ويجيبه أوديب بأنه الإنسان عندما يحبو طفلاً، وعندما يمشي رجلاً، وعندما يتوكأ على عصاه شيخاً. ولأهمية هذه الصورة نقلت إلى متحف الآثار واستبدلت في مكانها نسخة حديثة الصنع.

وعلى حائط آخر مثل الفنان أخلاق الرجل والمرأة فرسم، الأول على شكل ديك هادئ وديع، وصور المرأة على شكل هرة ثائرة متحفزة للشر.

ومدينة الحج بعيدة عن موارد الماء. ولهذا احتاج إمدادها به إلى بناء ساقية تدل على رقي فن الهندسة. يبلغ عمقها 34 متراً حتى يصل عمقها إلى مستوى ماء بحر يوسف. وهي مبنية على درجتين: عمق الأولى 20 متراً، وعمق الثانية 14 متراً يرفع منها الماء بالطرق المعروفة عندنا ليخزن على سطح الأرض فيأخذ منه السكان حاجتهم ويستقي منها الطير. ثم يتسرب ما يفيض ليروي أشجار الدوم التي كانت مزروعة حولها.

والمنطقة عامرة بكثير من الآثار التي تربط بين مختلف العصور المصرية، ففيها معبد وجدت في بعض أنحائه أدوات يظن بعض المشتغلين بالآثار أنها من العهد المسيحي ويرى أنها من أدوات عماد الأطفال في الكنائس.

والمنتظر عندما يتم كشف هذه المنطقة ويدرس علماء الآثار محتوياتها أن تكشف لنا عن كثير من غوامض التاريخ فقد كانت المنطقة كما قلنا على جانب كبير من الأهمية الجغرافية، وكانت في أكثر أحوالها مقصد الناس، ونعتقد أن فائدتها لا تكمل إلا بإتمام كشف المنطقة الأخرى المعروفة الآن بالإدارة فقد وجدت هناك مباني ضخمة تدل على عظمة وفن وروعة؟

فوزي الشتوي