مجلة الرسالة/العدد 622/شخصيات ومذاهب فلسفية
مجلة الرسالة/العدد 622/شخصيات ومذاهب فلسفية
من مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
من طبيعة الأدب شعره ونثره أنه سهل الدخول إلى النفس في يسرولين لا عنف ولا مشقة. وأن النفس تقبل عليه بدافع منها، راضية عنه مقبلة عليه مستأنسة إليه.
أما الفلسفة فلا يقبل عليها من الناس إلا من رزُق الصبر عليها والأنس بها. وقلما كانت الفلسفة أنيسة إلى النفوس لأنها كالسباع من الحيوان لا يقدم عليها إلا من رزق القدرة على ترويضها وتأليفها.
والفلاسفة والمشتغلون بالفلسفة مسئولون عن هذا النفور الذي يعانيه الجمهور من القراء. ولا أدري ماذا كانت حجتهم في الأبهام وعذرهم في التعمية. وهل فعلوا ذلك عن قصد حتى تبقى للفلسفة رهبة الغموض وهيبة الخفاء؛ وحتى يكون لهم مفتاح الأسرار والاستئثار بالأستار، أم جاءهم ذلك الغموض من طبيعة الفلسفة نفسها لأنها تبحث وراء (المجهول) (وما بعد الطبيعة) وما إليهما مما أبديء الكلام فيه وأعيد ولا يزال المجهول مجهولا؟
والحق أن كثيراً من موضوعات الفلسفة - وخاصة عند المسلمين لا يفيد القارئ أكثر مما يتعب ذهنه ويحير عقله - كالكلام في النفس ووحدتها وبقائها؛ وكالكلام في الكون وهل هو حادث أم قديم، وكالكلام في معرفة الله للجزئيات أو الكليات، وكالكلام في البعث وهل هو لأجسام الدنيا بأعيانها أم بأمثالها.
وقد ظل الفلاسفة يبحثون في هذا وأشباهه فما أراحونا ولا أراحوا أنفسهم، ولا أزاحوا الستار عما تتحرق نفوسنا إلى معرفته وتتطلع إلى كشفه. حتى لقد مات الرازي وهو لا يدري إلى أين. . . وعبر عن ذلك بقوله في بيتين يعبران عن سؤال كل نفس من عهد آدم إلى أن يشاء الله، وهما:
لعمري ما ادري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجها ... من الهيكل المنحل والجسد البالي
ولقد أراح - والله - خطيب أياد وحكيمها (ابن ساعدة) نفسه حينما قال قبل الإسلام:
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يَمْض الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر. . .
ولقد ألهم الله الجمعية الفلسفية المصرية صوابا في القول حين قالت في تصدير أول كتاب من كتبها (وإذا أراد الله بالفلسفة خيراً ألهم أهلها أن يسلكوا سبيلاً أخرى، فيعنوا بالشئون الإنسانية، وبالأمور التي يتجه إليها التفكير في كل زمان ومكان، ويعالجوا بحوثهم في أسلوب سائغ جذاب يفتح باب الفلسفة على مصراعيه لجمهور المثقفين).
أما العناية بالشئون الإنسانية فنجد أن الدكتور علي عبد الواحد وافي قد هدف إليها في رسالته الجليلة (الأسرة والمجتمع) التي تعد بحق تحفة في المكتبة العربية. ونجد أن أساتذة آخرين سيكتبون في سلسلة هذه الجمعية عن الحياة الأخلاقية، والتشريع والإصلاح الاجتماعي. وأمثال هذه الموضوعات التي تتناول الواقع والحياة، ولا تطير وراء الغيبيات والمجهولات. . .
ولكن الدكتور عثمان أمين - وهون شريك الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه تصدير هذه السلسة - ترك العناية بالشئون الإنسانية من أخلاق وسياسة واجتماع وراح إلى الفلسفة يلتمس عندها سدَّ النقص في القوة الإصلاحية والروحية. لأنه يرى أن (كل إصلاح تم في الماضي أو سيتم في المستقبل إنما هو أثر من آثار الفلاسفة وأحرار المفكرين).
وما كان الأنبياء يا صديقي فلاسفة ولا أحرار تفكير ولكنك لا تنكر الإصلاح الذي تم على أيديهم:
على أن اكتفاءك بالكلام في الشخصيات الفلسفية وترك التأليف في الشئون الإنسانية - كما صنع الدكتور علي عبد الواحد - يُعدُّ ركونا إلى أهون الحملين وأخف العبأين. . .
إلا أنني لا أكتمك أنني وجدت في كتابك لوناً من المتعة واللذة عرفتُه من قبل في كتابك عن (محمد عبده). ووجدت في أسلوبك الواضح السائغ أخذا بما عاهدت أنت ورئيس الجمعية في تصديركما لأول كتاب.
وما أنا بقائل هنا لك جديداً؛ فقد كنت أقرأك في مجلة (المقتطف) من سنوات فأجذ فيك من الوضوح ما صارحتك به من حين إلى حين. وهأنذا اليوم أقرأك فأجدك سائغ الأسلوب في سقراط، وفي الثلاثة الفلاسفة المسلمين الذين شئت أن تكتب عنهم، وفي ديكارت وهيوم من الغربيين.
ولا أدري يا أخي السر في اختيارك هؤلاء الثلاثة من المسلمين بأعيانهم مع كثرة ما كتب عنهم ونشر فيهم. فهلاَّ كتبت عن أبن زهر والرازي وابن بطلان أو غيرهم مما لا يعرف الناس عنهم إلا قليلا. ولم تختار طريقاً معبَّداً وأنا ما عرفتك إلا مجتاز الصخور والوعور؟؟
وهل بين الذين كتبت عنهم غرض يؤلف بينهم، أو غرض أتفق لك في الكتابة عنهم؛ أم هي أشتات من الشخصيات لا يؤلف بينها غرض ولا يجمع بينها إلا كلمة الفلسفة؟؟
ولا يزال (ميزانك) يا أخي في تقديم الكتاب وحفظ النَّسب بين فصوله فيه كثير من السخاء في موضع، والشح في موضع. فإن الفصل الذي كتبتَه عن آثار الفلسفة الإسلامية في الفلسفية المسيحية واليهودية لا يشفي غليلاً. فقد أوجزتَ فيه إلى حد لا تغفره لك عربيتك وإسلامك، ولا يغفره لك الإنصاف العلمي التاريخي، على الرغم من إعلانات أنك لا تنتحل الأسباب للإشارة بفضل المسلمين على غير حق. فقد كتبته في صفحتين ونصف صفحة على حين خصصتَ (ديكارت) بأربعين صفحة من الكتاب.
وما كنتَ يا أخي منصفاً للعرب حين قلتَ في هذا الفصل (ولعل أسبينوزا عرف شيئاً من نظريات العرب عن طريق موسى ابن ميمون). وإيراد الخبر على هذا الأسلوب يورده موارد الشك على حين أن يورده مورد اليقين في كتابه:
ولقد ذكرت يا أخي أن (هيوم) نشر كتابه (رسالة في الطبيعة البشرية) سنة 1740. وليس الحق كله معك في هذا. . . فإن (الطبيعة البشرية) ظهرت في يناير سنة 1739. في مجلدين؛ أما الذي نشر سنة 1740 فهو المجلد الثالث وموضوعه مبادئ الأخلاق.
وذكرت أن (هيوم) بعد رحلته في فرنسا عاد إلى أدنبره فقضي فيها آخر سني حياته. وهنا طفرة في التاريخ لا أظنها خفيت على علمك. فقد عاد من فرنسا إلى أدنبره - كما تقول - ولكنه تركها إلى لندن موظفاً كبيراً في وزارة الخارجية فقضي فيها سنتين ثم أستقر آخر الأمر في أدنبره سنة 1769
أما السياسة عند ابن سينا وكتابه فيها فلم تتعرض لها ولا له!! وأنا أعرفك يا أخي بعيداً عن السياسة المصرية بطبيعة وظيفتك وطبيعة نفسك التي ترسل الابتسامة المرة لما تقع علية من أمورنا. . . ولكن سياسة ابن سينا يا أخي تستحق الإعجاب ولا تستحق مرير الابتسامات. وقد كتب عنها الأب بولس مسعد فصلا لطيفاً في كتابه الصغير عن (ابن سينا الفيلسوف)
وبالرغم مما ذكرته لك فأن كتابك قد ترك في نفسي الأثر الطيب الذي تتركه عندي آثارك. وقد نزل مني مكتبتي المنزلة التي أنت أعرف الناس بها. فأهنئك على كتابك وأهنئك على جهدك في الجمعية الفلسفية التي وقعت أعمالها من نفوسنا مواقع الماء من ذي الغلة الصادي.