مجلة الرسالة/العدد 623/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 623/القضايا الكبرى في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1945


15 - قتل الوليد بن يزيد

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

في سنة ست وعشرين ومائة ثار يزيد بن الوليد المُلَقَّبُ بالناقص على الوليد بن يزيد فقتله، وكان الوليد بن يزيد من فتيان بني أمية وظرفائهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكاً في اللهو والشرب وسماع الغناء، وكان يزيد بن الوليد يظهر النُّسُكَ ويتواضع، وهو الذي يقال فيه وفي عمر بن عبد العزيز: الناقص والأشج أعْدَلاَ بني مروان. أي عادِ لاُهمْ، ولا يجرون أفعل التفضيل على بابه، لأنها تقتضي نسبة العدل إلى غيرهما من بني مروان، ولم يكن في بني مروان عادل سواهما. وهكذا يقرن التاريخ ذلك الناقص بعمر بن عبد العزيز في العدل، مع أن عمر بن عبد العزيز لو عاش إلى زمانه ما فعل فعله في قتل أبن عمه من غير تحقيق في أمر ما نسب إليه، ولم يقم حول الوليد من الأخبار التي لا تمحيص فيها ما يسوغ الإقدام على قتله، وما يُشَكّكُ الناس في دينه من غير روية ولا تثبت، والقضاء أدق من التاريخ نظراً، وأقوى منه تثبتاً، لأنه لا يحكم إلا بالنية العادلة، والأصل عنده البراءة ما لم تقم أدلة قاطعة على الإدانة، فيجب أن يدرس ما نسب إلى الوليد درساً قضائياً، وأن يرجع إلى تحقيق ما نسب إليه من تهم، ليتبين أمر الوليد في ذلك بياناً عادلاً، ولا ينزل به إلى ذلك الحضيض الذي نزل به التاريخ إليه، وليتبين أمر ذلك الناقص الذي يشبهه الناس بعمر بن عبد العزيز، ولم يكن من ذلك الملك العادل في شيء، وإنما كان الذي يشبهه في زمنه أخ له لم يطمع في الملك طمعه، وسيكون قوله في هذه القضية هو القول الفصل.

كان يزيد بن عبد الملك قد جعل الأمر من بعده لأخيه هشام ابن عبد الملك، ثم جعل الأمر من بعد هشام لابنه الوليد، وكان سن الوليد في ذلك الوقت إحدى عشرة سنة، وقد عاش أبوه يزيد ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، فكان يقول له: الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك. وكأنه كان يعرف ما سيلقاه ابنه من أخيه هشام، فإنه لم يكد يتولى الملك بعد أخيه يزيد حتى أراد الوليد على خلع نفسه من ولاية العهد، ليجعل الأمر من بعده لابنه مَسْلَمةَ فأبى الوليد ذلك كل الإباء، فتنكر له هشام وأضرَّ به، وجعل يشيع حوله أخبار السوء لتسقط منزلته عند الناس، وكان يزيد يقول الشعر في الخمر والغزل، وله في ذ أشعار جياد كان أبو نواس يأخذ منها، ويحذو حذوه فيها، وهذا إلى شغفه بسماع الغناء، وانصرافه عن الناس إلى مجالسه بين أرباب ذلك الفن، فوجد هشام في ذلك مرتعاً خصيبا للتزيُّد على الوليد، وتنقيصه عند الناس بما يشيعه حوله، حتى جعل كثيراً منهم ينظرون إليه نظرة سوء، ويتهمونه في دينه وعرضه، ولكنه على اجتهاده في ذلك لم يقدر أن يثبت عليه شيئاً يمكنه من خلعه من ولاية العهد، مع أن ملكه استمر من سنة خمس ومائة إلى سنة خمس وعشرين ومائة.

فلما ملك بعده الوليد بن يزيد لم ينس ما فعله معه عمه هشام، فأساء إلى أولاده، وأخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمَّان من أرض الشام، وكذلك أساء إلى أولاد عمه الوليد بن عبد الملك، ففرق بين روح بن الوليد وامرأته، وحبس عدة من إخوته، فأخذوا يرمونه بالكفر، ويشيعون بين الناس أنه يغشى أمهات أولاد أبيه، إلى غير ذلك من التهم إلى ستأتي بعد، وكان أشدهم في ذلك يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، فإذا أردنا تحقيق ذلك على الأجمال وجب أن نرجع فيه إلى رجل من بني أمية كان له خطره بينهم في ذلك الوقت، وهو العباس ابن الوليد أخو يزيد بن الوليد، وكان أمر أصدق، ولم يكن في بني أمية مثله، لأنه كان يتشبه بعمر بن عبد العزيز فرأيه في ذلك يرجع كل رأى، لتلك الصفات التي تحمله على قول الحق، ولأنه أخو يزيد بن الوليد فلا يتهم في شهادته عليه.

وقد مشى إليه أخوه يزيد فشكا إليه ما يجري على الناس من الوليد بن يزيد، فقال له: يا أخي إن الناس قد مَلوُّا بني مروان، وإن مشى بعضكم في إثر بعض أكِلتم، ولله أجل لا بد أن يبلغه، فانتظره.

ثم مشى إليه مرة أخرى هو وأخوه بِشر بن الوليد، فكلمه بشر في أن يخلع الوليد بن يزيد، فنهاه عن ذلك ثم قال له: يا بني مروان، أظن أن الله قد أذن في هلاككم، ثم قال:

إني أعيذكمُ بالله من فِتنٍ ... مثل الجبال تَسَامى ثم تَندفعُ

إن البرية قد مَلَّتْ سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تُلْحِمُّن ذئابَ الناس أنفسكم ... إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا

لا تُبْقِرُنَّ بأيديكم بطونكم ... فَثَمَّ لا حسرة تُغْني ولا جَزَع ثم عاوده يزيد مرة أخرى وكان قد أجمع أمره، وعزم على الدعوة لنفسه، فشاور يزيد بن عمر الْحَكميَّ فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك، فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته بينهم، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزجره وقال له: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملنك إلى أمير المؤمنين فخرج من عنده فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.

ولما قامت الحرب بين الوليد ويزيد كتب العباس إلى الوليد إني آتيك، فلما علم بذلك جيش أخيه أرسل من وقف له في الطريق، فأخذوه قهراً إلى جيشهم. وأكرهوه على البيعة لأخيه يزيد، ونصبوا له راية وقالوا هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: إنا لله، خدعة من خدع الشيطان، هلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد حين رأوا راية العباس وتم الأمر ليزيد بهذه الخدعة الماكرة.

فلما رأى الوليد ذلك ظاهر بين درعين، وركب فرسه السناي، وقاتلهم قتالا شديداً، فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قِتلة قوم لوط. ارجموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب، فأحاطوا به من كل باب، وضيقوا عليه، فدنا من الباب وقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ فقال يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني. فقال: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطيانكم، ألم أرفع المؤن عنكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم. فقال يزيد بن عنبسة: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. فقال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت.

ثم رجع إلى داخل القصر وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه، وقال: يوم كيوم عثمان. فصعدوا على الحائط ونزلوا إليه فاحتزوا رأسه، وكان آخر كلامه: الله يرتق فتقكم، ولا يَلُمُّ شعثكم، ولا يجمع كلمتكم. ثم ساروا برأسه إلى يزيد بن الوليد فأمر بنصبه، فقال له يزيد بن فروة مولى بنى مُرَّةَ: إنما تنصب رؤوس الخوارج، وهذا ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن رتِقَّ له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه، ونصب الرأس على رمح فطافوا به دمشق.

وقد أكبر الناس قتل الوليد بن يزيد بهذا الشكل، وثار لقتله أهمل حمص وأهل فلسطين وغيرهم، واضطرب أمر بني مروان اضطراباً كبيراً، وعجل بأيام يزيد بن الوليد، فلم يدم له ملك إلا خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً، ولم يدم أمر بني مروان بعده إلا سنين تعد على الأصابع.

فإذا أخذنا في قصة الوليد بن يزيد بهذا السياق، وهو قائم على وقائع تنطق بنفسها، وجدنا أنه لم يزد أمره عن غيره من بني مران، وأنه كان سائراً على سنتهم في الملك، آخذا بطريقتهم في سياسة الناس، ووجدنا أن يزيد بن الوليد لم يخرج عليه لأخذه بسنة آبائه، لأن الناس كانوا قد ألفوها على ما فيها من إرهاقهم، فلم يكن في أخذ الوليد بها ما يثيرهم عليه، وقد سار عليها يزيد بعد قتل الوليد، فتَشَفَّى من رأسه ذلك التشفي، وعسف بأولاده وأنصاره كما كان يعسف الوليد وغيره من بني مروان، ولو أنه خرج عليه لأنه يريد تغيير تلك السياسة كما غيرها عمر بن عبد العزيز، لكان له في ذلك بعض العذر، ولكان له فيه غرض شريف، ولكنه كان يريد الملك لا أكثر ولا أقل، فسلك إليه ذلك الطريق الشائك، ولم يجد إلا أن يغالي في أمر الوليد، ويلصق به من أشنع التهم ما يلصق، ليثير العامة عليه، ويصل بذلك إلى غرضه في الملك. ولقد كان عمه هشام اشرف منه خصومة، وأقل منه حرصاً على ذلك المنصب الزائل، فلم يستبح لنفسه أن يخلع الوليد من ولاية العهد على غير إرادته، وخشي من ذلك ما لم يخشه يزيد، وقد نصحه أقرب الناس إليه فلم ينتصح، وحذر مما يقدم عليه فمضى فيه ولم يلتفت إلى نصح ناصح.

فهل بعد هذا نصدق شيئاً من تلك التهم الشنيعة التي ألصقها أشياعه بالوليد ليصلوا بها إلى مآربهم، وليرضوا الناس بعد أن غضبوا لقتلهم إياه؟ وهل نصدق ما يرونه من أنه فتح المصحف يوماً فخرج فيه (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فألقاه ورما بالسهام وقال:

تُهَدَّدُ كل جبار عِنيدٍ ... فهأنذاك جبارٌ عَنِيدُ

إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ ... فقل ياربِّ مزَّقني الوليدُ

وهل بعد هذا نصدق ما رواه العلاء بن البندار من أنه كان زنديقا، وأن رجلا من كلب كان يقول بمقالة الثَّنَوِيَّة، فدخل عليه العلاء وعنده ذلك الكلبي، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه، فإذا ما يَبْدُو له منه حرير أخضر، فقال الوليد: ادن يا علاء. فدنا فرفع الحرير فإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه، فهو يطوف كأنه يتحرك، فقال له الوليد: هذا ماني، لم يبتعث الله نبياً قبله، ولا يبتعث نبياً بعده. فقال له: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ولا يغرنك هذا الذي ترى عن دينك. فقال الكلبي: يا أمير المؤمنين، ألم أقل لك أن العلاء لا يحتمل هذا الحديث.

وهناك تهم أقبح من هذه التهم تلصق بالوليد، يحجم القلم حياء عن ذكرها، ولا يرى أن يلوث بها صفحات مجلة الرسالة الغراء، وكلها تهم إذا فتح لها التاريخ بعض صحائفه، لأنه يروي كسمين وغث، فإن القضاء لا يمكن أن يؤاخذ الوليد بها، لأنه لا يؤاخذ الشخص في دينه بما يقوله غيره عنه، وإنما يؤاخذه بما يقربه على نفسه، وقد تبرأ الوليد من هذه التهم الشنيعة التي تلصق به، فلا يمكن القضاء أن يؤاخذه بها، لأنه يتحرج مما لا يتحرج منه التاريخ، وقد وضعت في يده رقاب الناس، فلا يمكنه أن يجازف فيها، ولا يستبيح أن يحكم فيها إلا بما يراه يقيناً. ولو أن هذه التهم التي تلصق بالوليد قدمت إليه لعاقب أصحابها عليها، لأنه ليس عندهم ما يثبتها، فيعدها من القذف الذي يعاقب عليه، حفظاً لأغراض الناس، وصونا لأصحاب المروءة والشرف.

ويكفي في براءة الوليد من تلك التهم الشنيعة وقوف العباس أبن الوليد ذلك الموقف منه، وهو ذلك الرجل التقي الصادق، وقد كان أشبه بني أمية بعمر بن عبد العزيز لا أخوه يزيد الناقص، وهو الذي كان يجب أن يقرن إليه في ذلك القول المشهور - الناقص والأشج اعدلا بني مروان - لأن الناقص لم يكن أمره في شيء من أمر عمر بن عبد العزيز.

وقد أنكر قوم ما قيل في حق الوليد من ذلك، وقالوا إنه قيل عنه وألصق به وليس بصحيح. قال المدائني: دخل ابن للغمر ابن يزيد أخ الوليد على الرشيد، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من قريش. قال: من أيها؟ فأمسك، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مرواني. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال الرشيد: رحم الله عمك ولعن يزيد الناقص وقتلة عمك جميعاً، فإنهم قتلوا خليفة مجمعا عليه، أرفع إلي حوائجك. فرفعها إليه فقضاها.

وقال شبيب بن شبه: كنا جلوساً عند المهدي فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام أبو عُلاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشر به عنه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة يطرح ثياباً كانت عليه من مطيَّبة ومصبَّغة، ثم يتوضأ فيحس الوضوء، ويؤتي بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه، أهذه أفعال من لا يؤمن بالله؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة.

عبد المتعال الصعيدي