مجلة الرسالة/العدد 623/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 623/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1945


6 - الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

إن ما يعيب بعض المصورين المعاصرين عندما يريدون تصوير خيول تعدو أنهم يمثلونها في أوضاع أخذت في لمح البصر.

انتُقِد جريكول لأنه صور بلوحته الموجودة باللوفر وهي (سباق إبسوم) خيوله تعدو وقد تمطَّطتْ جسومها حتى لتكاد تلامس بطونها الأرض، رامية بقوائمها الأمامية إلى قدام وبالخلفية إلى وراء في نفس اللحظة. ويقال إن لوح الفوتغرافية الحساس لا يعطي مثل هذه النتيجة. وحقيقة ما نرى في التصوير الفوتغرافي هي أنه عندما تكون قوائم الحصان الأمامية إلى قدام يكون للقوائم الخلفية التي دفعت الجسم إلى الأمام بطبيعة وضعها وقت للتجمع تحت الجسم لإعادة الكرة، فتكون بذلك القوائم الأربع متجمعة مع بعضها في الهواء في وقت معين، ويبدو الحيوان كأنه يقفز من على الأرض وكأنه بغير حَرَاك وهو في ذلك الوضع.

(وأعتقد الآن أن جريكوك هو المصيب وأن العدسة هي المخطئة لأن خيوله تظهر كأنها تعدو. ويتبين ذلك عندما يتتبع الناظر اللوحة من اليمين إلى الشمال، فيرى أول ما يرى القوائم الخلفية تنجز ذلك الجهد الذي تنشأ عنه القوة الدافعة العامة، ثم يرى بقية الجسم ينبسط ويتمطط، وأخيراً يرى القائمتين الأماميتين ممدودتين وهما تهويان إلى الأرض. وهذا خطأ في الواقع، لأن هذه الحركات لا يمكن أن تحدث في وقد واحد، ولكنه صواب إذا ما لوحظت الأجزاء على التتابع، وهذا الصدق وحده هو الذي يعنينا لأنه هو الذي نراه ونتأثر به.

لاحظ إلى ذلك أن المصورين والمثالين الذين عندما يؤلفون بين الأوجه المختلفة لحركة ما في صورة أو تمثال معين لا ينزلون في ذلك على حكم العقل أو المهارة الفنية ولكنهم يعبرون بكل بساطة عما يشعرون به فترى عقولهم وأيديهم كأنما تنساق في اتجاه الحرك فيعبرون عن تطورها بالغريزة.

ونرى هنا - كما هو الحال في كل ميادين الفن - أن الإخلاص وحده هو القاعدة الوحيدة)

صمتُّ برهة طويلة أفكر فيما قاله لي إلى أن قطع صمتي بسؤاله: (ألم أٌقنعك؟)

نعم، بالطبع. ولكني عندما أتأمل تلك المعجزة، معجزة التصوير أو النحت التي يمكنها أن تجمع في جسم واحد حركة تدوم عدة لحظات، أقول عندما أتأمل ذلك أسائل نفسي إلى أي حد يتسنى للتصوير والنحت أن ينافسا الأدب - والمسرح بوجه خاص - في تسجيل الحركة. ولا يسعني إلا أن أقول في صراحة إنني أميل إلى الاعتقاد أن مثل هذا التنافس لا يمكن أن يجري لشوط بعيد، وأن رجال الريشة والإزميل لأشد قصوراً في هذا الميدان من رجال القلم، فقال رودان:

ليس قصورنا كبيراً كما تظن. وإذا كان باستطاعة التصوير والنحت أن يهبا الأجسام الحركة ففي مقدورهما أن يأتيا بأكثر من ذلك؛ بل ويستطيعان في بعض الأحوال أن يجاريا الفن الدراما طيقي في إظهار عدة مناظر متتابعة في نفس اللوحة أو مجموعة التماثيل) فأجبته:

(نعم. ولكنهم يدلسون بعض الشيء. لأنني أظنك تتكلم عن تلك الصورة القديمة التي تعرض تاريخا شاملاً لشخص معين فتظهره عدة مرات في أوضاع مختلفة على نفس اللوحة. فمثلاً توجد بمتحف اللوفر لوحة زيتية إيطاليا صغيرة يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر تقص علينا تاريخ أوربا على هذه الوتيرة. فترى فيها أول ما ترى الأميرة الصغيرة تلعب في حقل نضير مع أترابها للواتي يعاونها على امتطاء صهوة الثور (جوبيتر)، ثم نراها بعد ذلك مروعة وقد اختطفها الإله وغاص بها في لجج اليم). فأجاب رودان:

(هذه طريقة بدائية على الرغم من أن بعض الفحول من الفنانين مارسوها. فمثلا عالج فيرونيز قصة أوروبا هذه بنفس الطريقة كما يتضح من لوحته الموجودة بقصر الدوقية بمدينة البندقية. ولكن على الرغم من هذا النقص فلوحة كالياري معجبة. وأنا لن اشر بشيء إلى مثل تلك الطرق الصبيانية لأني لا أوافق عليها كما يمكنك أن تدرك ذلك. ولكي أجعل نفسي أكثر جلاء ووضوحا يتحتم علي أن أسألك أولاً عما إذا كنت تذكر لوحة واتو المسماة

(ركوب السفينة إلى جزيرة سايتيرا) فقلت:

(إني لأذكرها تمتمت كما لو كانت نصب عيني الآن).

(إذا فسوف لا أجد صعوبة في الإفصاح عن نفسي. فإذا تذكرت رأيت أن الحركة في تلك اللوحة الفذة تبدأ في الأمام إلى اليمين وتنتهي في الخلف إلى اليسار. وتلاحظ أول ما تلاحظ في مقدم اللوحة شخصين هما سيدة فاتنة وعشيقها المتيم جالسين تحت الظلال الوارفة قريبين من تمثال نصفي لساببريس منمق بأضافير الورد وإكليله، يشتمل الرجل بعباء مطرزة عليها قلب نفذ فيه سهم. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى ما سوف يتجشمه في هذه المرحلة الغرامية. تراه راكعاً بجانبها يستميلها ويستعطفها في حرارة ولكنها تقابل ضراعاته بفتور ربما كان مصطنعاً، وتتظاهر كما لو كانت متشاغلة عنه بمعاينة التهاويل التي على مروحتها. ويجلس بالقرب كيوبيد صغير فوق كنانته وقد تعرى أكثره. يرى أن المرأة قد أمعنت في التدلل والتمنع فيجاذبها قميصها ليستلين فؤادها وإلى هنا لا تزال المرحلة الغرامية في مبتداها. هذا هو المشهد الأول. وهاك الثاني: ترى إلى اليسار من ذلك زوجاً آخر. أما السيدة هنا فتقبل يد حبيبها الذي يعاونها على النهوض، وقد أدارت ظهرها إلينا وتدلت من رأسها ذؤابة من تلك الذوائب الشقراء الذهبية التي يصورها واتو برشاقة ساحرة. أما المشهد الثالث فيقع إلى ابعد من ذلك بقليل. ففيه يضع المحب ذراعه حول خصر مالكة لبه ليجذبها إليه ويسير بها فتتلفت إلى قرنائها اللذين يحيرها تخلفهم، ولكنها لا تلبث أن تنقاد في غير ما تأب.

والآن ينزل المحبون إلى الشاطئ ويندفع الجميع إلى السفينة ضاحكين ولم يعد الرجال بحاجة إلى التوسل والتضرع، وقد تشبثت السيدات بأذرعهم.

وأخيراً يعاون المحبون فاتناتهم على الاستواء على ظهر السفينة الصغيرة التي تتأرجح على صفحة الماء كأنها الحلم الذهبي وقد زينت بالأزهار وشارات خافقات من الحرير الأحمر. أما الملاحون فمكبون على مجاديفهم وهم على وشك التجديف وثمة آلهة الحب الصغيرة تتقدمهم محمولات على أجنحة النسيم كأنما تقود المحبين إلى الجزيرة اللازوردية التي تلوح في الأفق).

(ألاحظ يا أستاذ أنك تحب هذه اللوحة لأنك تذكر كل دقائقها).

(أنها لمتعة لا يستطيع المرء أن ينساها. ولكن هل لاحظت تطورات هذا التمثيل الصامت؟ خبرني بربك الآن: أيها أصدق في تسجيل الحركات أهو المسرح أم التصوير؟ حقاً إنه ليصعب على المرء أن يقطع بقول في هذا الأمر. فها أنت ترى أن الفنان لا يستطيع - إذا ما أراد - أن يصور الحركات العارضة فقط بل ويمثل فصلاً طويلاً على حد تعبير الفن الدراماطيقي.

وليس عليه لإدراك سوى أن يضع أشخاصه بحيث يرى الناظر أول ما يرى منها أولئك الذين يبدءون العمل، ثم الذين يمضون به ويستمرون فيه. وأخيراً يرى أولئك الذين ينهون ذلك العمل. أتريد مثلاً في النحت؟) وعند ذلك فتح كتاباً أخذ بحث فيه هنيهة ثم سحب منه صورة فوتوغرافية وقال:

(هاك المارسليز الذي نحته رود ليوضع في جانب من نصب (قوس النصر)، ترى (الحرية وقد لبست درعاً نحاسية تشق الهواء بأجنحة منتشرة وترعد في صوت هائل: (إلى السلاح أيها المواطنون). ترفع يدها اليسرى عالية تستحث بها الأبطال من حولها، وتمسك بالأخرى سيفاً تصوبه نحو الأعداء. إنها بلا ريب أول ما تشاهد إذ أنها تسود المجموعة كلها. أما ساقاها المنفرجتان اللتان تجعلانها تبدو كأنها تجري فتخالهما نغمة أضيفت إلى هذه الأنشودة الحربية السامية. وكأني بصوتها القوي المنبعث من فمها الحجري يشق صماخ الأذن، فما لك من سماع صوتها من بد، ولم تكد ترسل دعوتها إلى الحرب حتى تدافعت الأبطال إلى الأمام. فهذا غوطي كأن شعره لبدة الأسد يلوح بخوذته عالياً كأنه يحي الآلهة وقد وقف ابنه الفتى الصغير إلى جانبه ممسكاً بقبضة سيفه يستعطفه ليرافقه إلى ساحة الوغى وقد بدا عليه كأنه يقول: (أنا قوى كما يا أبتاه، إنني رجل، أريد أن أذهب معك، فيقول له أبوه وقد حدجه بنظرة عطف وخيلاء: (تعال).

أما المشهد الثالث فيتكون من محارب قديم يترنح تحت أعباء عتاده ويجهد للحاق بهم، إذ يتحتم على كل من يشعر من نفسه القوة أن يذهب إلى ميدان القتال. ثم هذا رجل همُّ قوست السنون ظهره يتبع الجند بأدعيته وصلواته، وتدل إشارة يده على أنه يعيد عليهم نصائحه التي استخلصها لهم من تجاريبه الخاصة.

ويتكون المشهد الرابع من قواس يثنى ظهره المتعضل ليشد عليه سلاحه، ومن بوق يرسل نداءه المثير إلى الجحافل ومن بنود تخفق ورماح مشرعة إلى الأمام. لقد صدر الأمر وابتدأ الكفاح فعلا.

ونرى هنا أيضاً رواية مثلت أمام أعيننا؛ ولكن بينما لوحة (ركوب السفينة إلى سايتيريا) تذكر المرء بهزليات ماريفو فإن المارسلييز يذكره بمآسي كورنيل وإني لا أدري أي الاثنتين أفضل، إذ أرى في إحداهما من الروعة والعبقرية بقدر ما أراه في الأخرى) ثم قال بعد أن حدجني بنظرة تحد ما كرة:

(أعتقد أنك سوف لا تقول بعد الآن بأن لا قبل للتصوير والنحت بمنافسة المسرح) فقلت له: (طبعاً كلا).

وفي تلك اللحظة لمحت في الكتاب الذي أعاد صورة المارسلييز صورة شمسية أخرى لتمثاله البديع المسمى (رهائن كاليه) ثم قلت:

(ولكيما أبرهن لك على أني أفدت من تعاليمك دعني أطبقها على عمل من أجل أعمالك؛ لأني أرى أنك أنت نفسك تطبق تلك القواعد التي كشف لي عنها. فهنا في تمثالك رهائن كاليه، أستطيع أن أرى منظراً متتابعاً كالذي ذكرت من أعمال واتو وروود. فالشخص الذي في الوسط هو أول ما يسترعي النظر. وما من إنسان يشك في أنه (يوستاك سنت بيير). إنه يحني رأسه الجليل يكلله شعر أشيب طويل. ليس متردداً ولا خائفاً، يتقدم بخطى ثابتة وقد أسبلت عيناه في صلاة صامتة. وإن كان يترنح قليلاً فإنما ذلك من جراء الشدائد التي عاناها أثناء الحصار الطويل. إنه هو الذي يلهم الآخرين. إنه أول من تقدم من الرهائن الستة الذين يتوقف على إعدامهم إنقاذ أبناء بلدتهم من المذبحة المنتظرة، وذلك حسبما شرط الغزاة. أما المواطن الذي إلى جانبه فليس أقل منه شجاعة. ومع أنه لا يجزع لمصيره الخاص إلا أن شروط تسليم المدينة يسبب له ألماً ممضاً. وفي حين يقبض بيده المفتاح الذي يتحتم عليه تسليمه للإنجليز نراه يصلب كل جسمه كيما يجد من نفسه القوة على احتمال هذا الذل المحتوم. وإلى جانب هذين. وفي مستواهما، تجد رجلا أقل شجاعة منهما لأنه يسرع في مشيته فتقول عنه: أما وقد وطن نفسه على التضحية فإنه يتوق إلى تقصير الوقت الذي بقي على استشهاده.

ومن وراء هؤلاء يأتي رهينة آخر ممسكا رأسه بيديه ومسلماً نفسه ليأس عنيف، ربما كان يفكر في زوجه وأولاده في أحبائه أو فيمن سيشقي برزئه من مماته.

وثم رهينة خامس يحرك يده أمام عينية كأنما يحاول بذلك أن يبدد كابوساً مرعباً أناخ على روحه. . . إنه يتعثر، ولا غرو فقد روَّعه الموت.

وأخيراً نرى الرهينة السادس وهو أصغرهم جميعاً. تراه كأنه متردد غير مستقر، يقبض أسارير وجهه همٌ ناصب. أهو طيف حبيبته الذي يستحوذ على أفكاره؟ ولكن رفقاءه يتقدمون وها هو ذا يتبعهم ماذا عنقه كما لو يسلمه إلى سيف القدر.

ومع أن هؤلاء الثلاثة أقل شجاعة من الثلاثة الأول فإن نصيبهم من التقدير والإعجاب لا يقل بحال من الأحوال عنهم، لأن إخلاصهم أدعى إلى التقدير والثناء. ويكلفهم أكثر مما يكلف الآخرين.

وهكذا يتسنى للمرء ان يتابع بدقه تمثيلياً في رهائن كاليه، ذلك التمثيل الذي هو نتاج شعور وتأثر كل فرد منهم بنفوذ يوستاك دي سنت بيير ومقدار إقتدائه به والنسخ على منواله فيراهم المرء وقد اسلموا قيادهم إليه رويدا قرر الواحد تلو الآخر أن يتقدم معه إلى الموت ليدفع ثمن مدينتهم.

ولا ريب أن فيما ذكرت أعظم إثبات وتعضيد لرأيك عن قيمة الحركة والمناظر في الفن) فأجاب رودان:

لو لم يكن فيما تراه في عملي شيء من المغالاة لجزمت بأنك أدركت ما هدفت إليه تمام الإدراك. لقد قدرت (رهائني) كل التقدير ورتبتهم بحق تبعاً لمقدار بطولتها. ولكيما أظهر هذه الحال بأجلى مظهر أبديت رغبتي التي ربما تعلمها بأن تثبت تماثيلي الواحد وراء الآخر على بلاط الميدان قبالة سراي بلدية كاليه لتكون أشبه بحلقة حية من الآلام والتضحية. لو أنها وضعت كذلك لبدت كأنها تخطو من دار البلدية إلى معسكر أدوار الثالث، ويشعر سكان كاليه اليوم عندما يخالطونها في غدوهم ورواحهم شعوراً عميقاً بالتضامن أو الاتحاد التقليدي الذي يربطهم بأولئك الأبطال، ولكان أثر ذلك بالغا فيما أعتقد. ولكنهم رفضوا مقترحي وأصروا على وضع التماثيل على قاعدة قبيحة بقدر ما هي غير لازمة. إنهم كانوا مخطئين، وأنا متأكد مما أقول). فقلت (وا أسفاه. كأنما قدر على الفنان دواما أن يجاري الأفكار السائدة. وما أسعده لو استطاع أن يحقق طرفاً من أحلامه الجميلة).

دكتور محمد بهجت