مجلة الرسالة/العدد 627/في المقبرة. . .

مجلة الرسالة/العدد 627/في المقبرة. . .

مجلة الرسالة - العدد 627
في المقبرة. . .
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1945


2 - في المقبرة. . .

بقلم الأديب فيصل عبد الله

(الريح شرعت تهب، والكون قد غشيه الظلام، أفما آن أن نعود إلى بيوتنا؟)

لقد هبت الريح تعصف بأوراق الشجر الصفراء، وانثال علينا من السماء هاطل من البرد، فأنزلق قدم أحدنا وكاد أن يهوى على الأرض الموحلة لولا أن تدارك نفسه فأهوى بيده على صليب أغبر كبير كي يتقي به السقوط، ثم راح بعد ذلك يقرأ ما كتب عليه:

(إيغورغريازنوروكوف المشاور الخاص والفارس). . إنني لأعرف هذا الرجل، كأن كلفاً بزوجه ويتقلد وسام ستانسلاف ولا يزعج نفسه بقراءة شئ، أما ذوقه فكان جميلاً، إنها لحياة لا يأسى امرؤ على أنه حييها، ولطالما جال في خاطر الناس أن لم تكن بمثل هذا حاجة إلى أن يموت. ولكن للأسف، فإن حادثاً أليماً كان في انتظاره، فلقد خر المسكين صريع حبه للمعرفة، إذ بينا كان ذات يوم يختلس النظر من خصاص باب إذ صدم الباب رأسه بعنف فأفقده الوعي ثم. . . مات تحت هذا الصليب يرقد إنسان أبغض الشعر منذ المهد، وكأنهم يسخرون منه إذ ملأوا النصب كله بالشعر. . . ها قد أقبل بعض الناس!)

أقبل نحونا رجل بمعطف بال ووجه شاحب حليق، يتأبط قنينة من الفودكا، وقد برزت من جيبه رزمة من شرائح لحم مقدد، ثم سألنا بصوت أجش (أين موشكين الممثل؟!) فقدناه إليه، وكان موشكين هذا قد مات منذ عامين، ثم سألناه: (أأنت موظف حكومي؟) فأجابنا: (كلا إنما أنا ممثل، إن المرء لا يستطيع في هذه الأيام أن يميز ممثلاً من موظف حكومي، ولعلكم لاحظتم ذلك. إنه لشيء عجيب وإن لم يكن فيه ثمة حط من قدر الموظفين).

لقد كان عسيراً أن يجد المرء قبر موشكين، فلقد علته أعشاب فتبدي مما كسبه أبعد ما يكون عن المقابر. كان عليه صليب رخيص صغير ومائل، نمى عليه الطحلب وعلق به الثلج، فلاح قاتماً عتيقاً كتب عليه (الصديق المنسي موشكين)، ولقد أزال الزمن حرفين من النصب وأصلح ضجعة الرجل. ولقد تنهد المثل وجثا حتى مست ركبتاه الأرض الموحلة، ثم قال: (لقد أكتتب الممثلون والصحفيون بما لم ليقيموا به نصباً له، ثم شربوه، يالهم من صبية أبرار!)

- وماذا تقصد بقولك (شربوه)؟ - ذلك جد بسيط، لقد جمعوا المال، وخطوا الورق القوائم، ثم شربوا المال، أنني لا أقول ذلك لألحوهم على ما فعلوا ولكنه الواقع نخب صحتكم يا سادتي، نخب صحتكم ونخب ذكراها الخالدة. ليس ثمة صحة تنال من الإفراط في الخمر، والذاكرة الحافظة الدائمة أمر مؤلم. . . ألا فلنرجو من الله ذاكرة لا تعيش فيها الأحداث والرؤى، أما الذاكرة الواعية. . .

- حسناً. . . إن هذا لهو الحق، لقد كان موشكين رجلاً يعرفه الكل، ولكنه الآن منسي، نسيه أولئك الذين أحبوه، ويذكره أولئك الذين مسهم منه الضر والأذى وبخسهم أقدارهم أما أنا فلن أنساه، كلا، لن أنساه، فلم يصبني منه غير الضر والخسران، ولست أحبه.

ثم زفر الممثل فسألناه: وأي أذى نالك منه؟ فبان على وجهه ما كان يكابد من جراح في قلبه وقال: (إنه لأذى بليغ، لقد كان خبيثاً وسارقاً، ألا فلتسكن روحه ولتهدأ. . . لقد صرت ممثلاً بالإصغاء إليه، صرت ممثلاً بالنظر إليه. لقد أغواني بفنه وأغراني بكبريائه فزين لي أن أهجر الأهل. لقد وعدني بكل شئ ولكنه لم يهبني غير الدموع والأشجان، غير مصير الممثل ونهايته لقد خسرت كل شئ. . . الشباب. . . الوقار. . . محبة الله. . . ولم أعد أملك فلساً واحداً أعز النفس به. لقد رث حذائي وبلى وتهرأت ثيابي وانتشرت عليها الرقع، وبدا وجهي كما أن كلاباً قد تولته نهشاً وتمزيقاً، وامتلأ رأسي بالبالي الرخيص من الفكر. . . لقد سلبني إيماني ذلك السارق! على أن ذلك كله ما كان ليبلغ مني مبلغاً هذا لو كان لدي شبه ذكاء أتعزى به، قد خسرت كل شئ، للاشيء. إن الجو لقارس أيها السادة أفتأذنون بقطرة فإن لدي ما يكفينا، فلنشرب، ولتهدأ روحه إنني لا أحبه، إنه الآن ميت، ولكنه برغم ذلك كان الوحيد الذي كان لي على وجه الأرض، لقد كان لي كأصابع اليد، وهذه آخر مرة أراه فيها، فلقد أخبرني الأطباء بأنني سأموت قريباً لأدماني الخمر، ولذلك جئته اليوم لأودعه، فان علينا أن نصفح عن أعدائنا!

ولقد تركناه يناجي موشكين، وسرنا خارجين من المقبرة ثم انهال علينا رذاذ بارد ناعم من السماء، وعلى منحني الطريق الرئيسي لقينا جنازة يحملها أربعة رجال عليهم أنطقة بيض من القطن، وقد اتسخت نعالهم وناءت بحمل من ورق الشجر علق بها، كانوا يحملون كفناً رمادياً، وكان الظلام قد هم بالكون يغشيه بسدول منه سوداء رهيبة، فكانوا يسرعون بعبئهم يتعثرون ويتأرجحون. . . لم تمض علينا غير ساعتين مذ شرعنا نجول هنا وهذه ثالث جنازة يأتون بها، ألا فلنعد إلى بيوتنا. . .

القدس

فيصل عبد الله