مجلة الرسالة/العدد 629/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 629/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1945


11 - الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

عن الأمس وعن اليوم (تابع)

فقلت وأنا أطبق ما شرحه صديقي على التماثيل التي أمامنا:

(لابد وأن يكون صعباً على المرء أن ينفذ إلى أعماق نفوس الآخرين على هذا النحو).

(نعم لا ريب في ذلك) ثم عاود حديثه في شئ من التهكم:

(ولكن أكثر الصعاب التي تصادف الفنان الذي يمثل تمثالا أو يصور صورة لا تأتي من ناحيته ولكن من ناحية العميل الذي يعمل له الفنان. إن الإنسان الذي يطالب الفنان بعمل مثال له يشابهه تمام المشابهة لهو الذي يعنت الفنان عنتاً شديداً بقانون عجيب قاتل. إذ قلما يستطيع امرؤ أن يرى نفسه على حقيقتها، وإن هو استطاع ذلك فانه يأبى على الفنان أن يظهره على تلك الحقيقة. بل يريد منه أن يظهره بمظهر مبتذل تافه. أنه يود أن يبدو كاللعبة التي تحركها الخيوط، يسره أن يظهر بالوظيفة التي يؤديها أو بالمركز الذي يشغله في الهيئة الاجتماعية، وإن يمحى الرجل الذي فيه محواً تاماً. فيرغب الحاكم أن يرى ثوبه المنمق، والقائد عباءته الموشاة بالذهب ولكن قلما يعني أحد منهم بأن تقرأ أخلاقه ونفسيته من صورته.

وفي هذا ما يفسر نجاح الكثيرين من أوساط المصورين والمثالين الذين يقنعون بإبراز المظهر الذي لا يدل على شخصية عملائهم كملابسهم المزخرفة وهيئاتهم الرسمية. أولئك هم الفنانون الذين لهم الحظوة الكبرى لدى الجمهور لأنهم يسدلون على مثلهم ستراً من العظمة والأبهة. وكلما زادت تهاويل الصورة وتزاينتها كانت أقرب إلى اللعبة الجامدة المزوقة، وازداد ارتياح العميل إليها.

ربما لم يكن هذا كذلك في كل الأحوال. إذ يظهر أن بعض سادة القرن الثامن عشر مثلا كانوا يطربون لرؤية أنفسهم مصورين على هيئة ضباع أو نسور على ظهر أنواط من تلك التي كان يصنعها بيزانللو. كانوا ولا شك فخورين بشخصياتهم أو بالحري كانوا قد أحبوا الفن وأجلوه، واستساغوا صراحة الفنان الجافة النابية كما لو كانت جزاء موقعاً من رئيس روحي.

لم يتردد المصور تيتيان في إظهار أنف الباب بولس الثالث على هيئة فنطسية ابن عرس، ولم يحجم عن إيضاح غطرسة شارل الخامس الجافية، أو عن تبيان شهوانية فرانسوا الأول. ومع كل ذلك لم يفقد مكانته أو شهرته لديهم. كذلك كان شأن فلاسكويز الذي لم يملق الملك فيليب الرابع فصوره كرجل غفل خامل برغم ما يبدو عليه من الظرف وحسن الشمائل؛ ولم يتحرز من إظهار فكه المتدلي، ومع ذلك استبقى حظوته لديه فاستحق بذلك الملك الأسباني الإجلال والإكرام من الأجيال القادمة لأنه كان نصير العبقرية وملاذها.

أما رجال اليوم فقد أصبحوا يخشون الحق ويحبون الكذب. ويبدو منهم أنهم يمقتون رؤية أنفسهم على سجيتها في الصور والتماثيل. كلهم يريد أن تكون عليه سيما التجمل والتزين.

حتى أكثر النساء جمالاً ممن لهن قسمات مليحة ممتازة يستبشعن جمالهن وينكرنه عندما يبرزه مثال نابه. فتراهن يضرعن إليه أن يجعلهن دميمات بأن يضفي عليهن ملامح كالتي تبدو على عرائس الأطفال ودماهم.

وعلى ذلك، فعلى المثال الذي يشرع في عمل تمثال أن يخوض غمار معركة طويلة مضنية. وكل ما يهم في الأمر إلا ينكص على عقبيه أو يضعف أو يهن بل يظل ثابتاً مخلصاً لنفسه. فإذا ما رفض عمله زاد الطين بلة. وربما كان الخير في ذلك لأنه غالباً ما يكون لذلك العمل مزايا عظيمة.

أما العميل الذي يقبل قطعة طيبة على غير مشتهاة ورضاه، فانه لا يلبث أن يغير شعوره نحوها عندما يمتدحها الهواة، وينتهي به الأمر أخيراً إلى الإعجاب بها، وبعد ذلك يعلن في صراحة أنه كان يحبها ويقدرها دائماً.

وفضلا عن ذلك أن أروع التماثيل هي ما صنعت للأهل أو للأصدقاء بلا مقابل، وليس ذلك لأن الفنان يعرف مثاله معرفة طيبة من طول النظر إليه ومحبته له فحسب، بل لأن مجرد شعوره بإهداء عمله إليه يطلق له عنان الحرية في العمل.

ومع ذلك فقد رفضت أحسن التماثيل عندما وهبت للأصدقاء بغير مقابل، وعلى الرغم من أنها قطع خالدة، فقد أعدت إهانة للمهدى إليهم. ينبغي على الفنان أن يسير في طريقه قدماً، ويجد تمام لذته وحسن جزائه في أن يقوم بعمله على خير الوجوه وأحسنها)

لقد تابعت باهتمام كبير نفسية الجمهور الذي يتصل به الفنان ولكن يجب علي أن أثبت هنا أن كثيراً من المرارة كانت تمازج تهكم رودان، قلت له:

(ولكن يظهر يا أستاذ أنك أغفلت تجربة من تجارب حرفتك، وهي أنك تصنع تمثالا لعميل لا يحوي رأسه تعبيراً ما أو ينطوي على غباوة ظاهرة. فضحك رودان من قولي ثم أجب:

(هذا لا يمكن أن يحسب في عداد التجارب. ثم لا يجب أن تنسى مبدئي الذي أستمسك به دائماً وهو: أن الطبيعة جميلة أبداً. وليس علينا إلا أن نفهم ما تظهره لنا. أنك تتكلم عن وجه بلا تعبير. وفي الواقع لا يوجد مثل هذا الوجه لدى الفنان الذي عنده أن كل رأس يدعو إلى الاهتمام. دع مثالا يلحظ وجها غفلا ساذجا، أو دعه يظهر لنا معتوهاً منصرفاً إلى العناية بمظاهر دنياه فنرى منه تمثالا جميلا رائعاً.

(ثم أن ما يسمى (بالسطحية) غالباً ما يكون شعوراً غير مكتمل بالنسبة لنقص التعليم والتهذيب وفي تلك الحالة يتخذ الوجه مظهراً غامضاً جذاباً لعقلية تبدو كأنها مقنعة بقناع شفاف).

(وأقول أخيراً. . . ولا أدري وايم الله كيف أفصح عما أريد أن أقول - إن أحقر الرؤوس شاناً، وأقلها خطراً ما هو إلا مستكن لتلك القوة السحرية العجيبة - الحياة. وعلى ذلك فهو معين لا ينضب لعمل الطرفة الفنية الفذة).

شاهدت بعد عدة أيام بمرسم رودان في ميدون صبائب لكثير من تماثيله البديعة. وهناك انتهزت الفرصة وسألته أن يوقفني على الذكريات التي تبعثها تلك التماثيل. كان هناك تمثال فيكتور هوجو - غارقاً في بحار التأمل، جبهته المجعدة كأنها البركان، وشعره الأشعث كأنه ألسنة لهب أبيض تندلع من جمجمته. . . أنه تمثيل صادق للشعر الغنائي الحديث من حيث عمقه واصطخابه. قال رودان:

(إن صديقي بازير هو الذي قدمني لفيكتور هوجو وعرفني به. وكان بازير كاتم سر جريدة المارسيز ثم جريدة الانتران سيجان فيما بعد. وكان يعبد فيكتور هوجو. وكان أول من فكر في عمل حفل سنوي للشاعر العظيم بمناسبة عيد ميلاده الثمانين. وكان الحفل كما تعلم هادئاً رائعاً. فقد أشرف الشاعر من شرفة منزله يحي الجماهير الغفيرة التي قصدت منزله تطلب مشاهدته. فكان كأنه البطرك يبارك شعبه. ومن أجل ذلك اليوم احتفظ هوجو بامتنان عظيم لذلك الرجل الذي دعا إلى الحفل ونظمه. وهكذا استطاع بازير أن يقدمني إليه في غير مشقة. ولسوء الحظ كان فيكتور هوجو مبتوراً من مثال وسط أسمه فيلان اضطره إلى جلوس ثمان وثلاثين جلسة أخرج له بعدها تمثالا رديئاً. ولهذا فإني عندما تقدمت إليه متعثراً بأذيال الخجل، مبدياً له رغبتي في تخليد قسمات مؤلف (التأملات) قطب حاجبيه الأوليمبيين وقال: (أنا لا أستطيع أن أمنعك من العمل، ولكني أصارحك القول أنني سوف لا اجلس إليك وسوف لا أبدل عادة من عاداتي من أجلك، فدبر أمرك وتخير أداتك.

(يتبع)

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين