مجلة الرسالة/العدد 63/فصول مدرسية في الأدب الدرامي

مجلة الرسالة/العدد 63/فصول مدرسية في الأدب الدرامي

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1934


6 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن

بقلم أحمد حسن الزيات

المأساة في خلال القرون

لعلك تذكر أنني أشرت عند الكلام عن منشأ الرواية إلى أن أصل المأساة هو تلك الأناشيد التي كان يغنيها القيان (الخورس) إجلالا لباكوس إله الخمر يوم عيده. وكلمة (تراجيدي) اليونانية لا تزال تحمل دليل هذا الأصل. فمعناها غناء الجدي، وهي مركبة من كلمتين: (تراجوس جدي، و (أودي غناء. وذلك لأن الجدي كان مخصصا للقربان في ذلك اليوم، ولأن القيان كن ينشدن تلك الأناشيد أثناء ذبحه. وقلت إن (إبيجين) وضع الحجر الأول في بناء المأساة، ولكن اسحيلوس (525 - 456 ق م) هو الذي صورها وسواها بخلقه الحوار؛ ثم أبقى على القيان، وبث في المأساة الرعب على الأخص، وجعل تصريف الأشخاص بيد القدر. وجاء سوفو كليس (495 - 405 ق م) فقلل من عمل القيان، وأضعف من شأن القدر، وعزا جزءاً من العمل إلى أهواء الإنسان وحريته، وأحكم العقدة الروائية. وأشهر مآسيه أنتيجون، وإلكتر، وأوديب الملك، وفيلو كتيت. ثم كان أوريبيذس (480 - 420ق م) فكاد يلغي القيان، وأخفى أثر القدر من رواياته، وجعل الأمر كله لتصارع الأهواء، وبث فيها الرحمة على الأخص. وأطلق عليه أرسططاليس اسم أمير المأساة. ولكنهم أخذوا عليه الإغراق في تعقيد العمل، والالتجاء إلى معونة الآلهة في الحل، وحشوه القطعة بالحكم الفلسفية. وأشهر مآسيه ألسست وهيكوب وإيفجيني وأوليس. ثم نضبت قرائح اليونان من المأساة بعد أوربيذس فلم ينبغ فيها منهم أحد.

أما الرومان فميلهم الغريزي إلى المشاهد الوحشية الدموية كمصارعة الوحوش والثيران أزهق فيهم روح الفن الروائي، وشغلهم عن إجادة المأساة. وما نسبوه من المآسي إلى سنيكا (61 - 30ق م) ليس إلا تطبيقات مدرسية صيغت في أسلوب روائي. ثم درست معالم المأساة، وانقضى أمرها في العصور الوسطى، فلم تعد ثانية إلى الظهور إلا مع النهضة العامة في القرن السادس عشر. ظهرت في فرنسا واستمدت موضوعاتها من الأساط اليونانية واللاتينية، واقتبست قواعدها من الأدب القديم، حتى جاء اسكندر هاردي فاستقاها من موارد الاسبان والطليان أيضاً. وظلت المأساة على هذا النحو من التقليد والفوضى حتى أدركها كرنيي زعيم المسرح الفرنسي، وخالق المأساة الحديثة، فزاد على غرضيها الأوليين وهما الرعب والرحمة، غرضاً ثالثاً وهو الإعجاب، وحصر أسباب هذه الأغراض الثلاثة في قلب الرجل وهواه، ووصف الناس كما ينبغي أن يكونوا، وجعل الخلق الغالب على أشخاصه النبل والبطولة، وضحى بالهوى على مذهب الواجب، وأضعف أثر الحب في رواياته ماعدا (السيد). ثم أعقبه راسين فحرك الرحمة في النفوس على ضحايا الأهواء، ولا سيما ضحايا الحب والغيرة، وأرخى عقدة الرواية إيثاراً لجاذبية التصوير الخلقي على جاذبية التعقيد الروائي، وجعل للحب المحل الأول في رواياته، ووصف الرجل كما هو لا كما ينبغي أن يكون كما فعل كورنيي. ثم يأتي فولتير في حسن الأثر وعظم الفضل ثالثاً لكورنيي وراسين، ولكنه دونهما في البراعة والإجادة. فقد أنكر النقاد عليه مزجه الحكاية بالفلسفة، وقصوره عن تصوير أخلاق أشخاصه، غير انهم يذكرون له حسن صنيعه في تقويته حركة العمل الروائي، وحرصه على حفظ اللون المحلي في المسرح.

ثم جاء القرن التاسع عشر، وظهر المذهب الابتداعي فهاجم المأساة وطاردها في المسارح حتى قضى عليها، واستبدل بها المأساة العصرية أو الدرامة، ولم يبق من أنصارها المؤلفين فيها والمناضلين عنها إلا تلما المتوفي سنة 1826، وراشيل المتوفي سنة 1858، ودلافني المتوفي سنة 1868 مؤلف لويس الحادي عشر وأطفال إدوار. ثم بنسار المتوفى سنة 1867 مؤلف لُكريس، وأنبيس دموراني، وشرلوت كردي. وقد ظل هذا الكاتب حينا من الدهر زعيم المعارضة لفكتور هوجو عميد المذهب الابتداعي.

أما أمر المأساة في غير فرنسا فقد كان ساقط الشأن قليل الجداء، اللهم إلا في إنجلترا فقد ألف شكسبير جملة من المآسي الخالدة كروميو وجوليت، وعطيل، والملك لير، ومكبث، وهملت، ويوليوس قيصر، وانطوان وكليوبطرة، وكريولان. وكلها ماعدا الثلاث الأخيرة مقتبسة من التاريخ الحديث.

تحليل موجز لأشهر الماسي

نريد بتحليل ما اخترناه من المآسي الرائعة الكشف عن هيكلها العظمي ليتبين القارئ فيها كيف يتوزع العمل في الفصول وتتدرج الجاذبية في الحادث، وتراعي الوحدة في الموضوع، وتسير الرواية على حكم ما قرأ من القواعد. وسنختار ما نحلله مما خلد على الدهر وعلق بالقلول من روائع كورنيي وراسين وفولتير وشكسبير عسى أن يكون في اختصارها له حادياً لقراءتها ودراستها.

مآسي كورني: (السيد

وقعت حوادث هذه المأساة في أشبيلية أواخر القرن الحادي عشر في ساحة من ساحات المدينة، ثم في دار كُنت جرماس، ثم في قصر الملك. وأهم أشخاصها: الدون ديبيج أبو رُدريج، والدون جوميز كنت جرماس أبو شيمين، وردريج حبيب شيمين، وشيمين خطيبة ردريج، والدون فردناند الأول ملك قشتاله، والدون سانش منافس ردريج في حب شيمين. وموضوعها زواج ردريج من شيمين، والحيلولة دونه بلطمة الكنت للدون ديبيج، وانتقام ردريج لأبيه من والد خطيبته.

ففي الفصل الأول:

بينما كانت أسرتا الأميرين (دون ديبيج) ودون جوميز على وشك الاتصال بالصاهرة أسند الملك إمارة (الانفانت) إلى الدون ديبيج، وكان الدون جوميز يرى نفسه أحق بها وأهلها. فيتمارى الأميران وهما خارجان من مجلس الملك وتتسعر بينهما نار الجدل حتى يلطم الدون جوميز صاحبه لطمة يريد أن يدفع عارها عنه بالسيف فيخونه عزمه ويظهر عليه خصمه. فليجأ إلى ولده ردريج يطلب منه أن ينتقم له. فيتردد ردريج هنيهة، ثم يقول: هما خطتا خسف لا معدى لي عن واحدة منهما: أما سمة الإهانة إلى الأبد، وإما الانتقام من أبي الحبيبة. ثم لا يلبث أن يغلب واجبه على هواه فيقبل.

الفصل الثاني:

يأبى الكنت أن يعتذر عن فعلته للدون ديبيج على الرغم من إلحاح الملك. ويدخل في أثناء ذلك ردريح فيدعوه إلى المبارزة ويقتله. ويعلم الملك فردناند بغزو العرب وقتل الكنت في وقت معاً، وينعى الناعي لشيمين أباها فترفض الزواج من ردريج القاتل وتطلب إلى الملك عقابه، ويتولى الدفاع عن ولده الدون ديبيج.

شيمين (للملك): أنا أطلب العدل.

دون ديبيج: اسمعي دفاعي.

شيمين: لقد كسر أيها الملك عضادة صولجانك، وهدم ركناً من أركانك. إنه قتل أبي.

دون ديبيج: انه انتقم لأبيه!

شيمين: إن من واجب الملك أن يحقن دماء رعيته.

فيسمع الملك لها وله، ثم يحيل الفصل في القضية إلى مجلسه.

الفصل الثالث:

وفي أثناء انتظار الحكم يدخل ردريج على شيمين يسألها أن تقتله هي بيدها، فتقف موقف الحيرة ملياً بين الحقد والحب، ثم يفوز الشرف فتصرفه من وجهها وهي مصرة على القصاص. ويلقى الدون ديبيج ولده فيهنئه بفوزه، ويمدحه على شهامته، ويرسله إلى قتال العرب وقد أوشكوا أن يفتحوا أشبيلية، عسى أن يكون بلاؤه الحسن في جهاد العدو وسيلة إلى عفو الملك وصفح شيمين.

الفصل الرابع:

يهزم ردريج العرب تحت أسوار أشبيلية ويعود مظفراً بالأسرى وقد لقبوه بالسيد - وهي كلمة السيد بالعربية محرفة - فيقص على الملك أنباء مجده ونصره، وتأبى شيمين مع ذلك إلا القصاص. فيجيها الملك ويأمر بالمبارزة القضائية، وهي أن تختار من تشاء ليبارز السيد على أن تكون زوجة الغالب، فاختارت الدون سانش.

الفصل الخامس:

يلقى السيد شيمين فيصرح لها أنه لن يدافع عن نفسه، وانه لم يجئ إلا ليودعها الوداع الأخير فتحاول صده عن عزمه، ويأبى هو إلا إنفاذه، فتقول له: (دافع عن نفسك وأنقذني من دون سانش، وإذا خرجت من المعركة فائزاً كنت لك).

فيخرج من عندها قويا بهذا الوعد وينقض على خصمه فيجرده من سيفه، ويحكم الملك عليه أن يحمل سيف السيد لشيمين، فينالها الجزع الشديد ظناً منها أنه قتل، ولكن الملك يطمئنها على حياته، ويعلنها أنها تستطيع أن تتزوجه متى كفكف من دموعها الزمن.

(هوراس

وقعت حوادثها في روما في غرفة من بيت هوارس عام 668 قبل الميلاد. وموضوعها انتصار روما على (ألب) في موقعة شعواء دامية نشبت بين بني هوراس وبني كرياس، ومغزاها إيثار محبة الوطن على محبة الأسرة، وأهم أشخاصها ملك روما، والشيخ هوراس فارس روماني، وهوراس ولده، وكرياس أحد أشراف ألب وحبيب كاميل، وفالير فارس روماني وعاشق كاميل، وسابين زوجة هوراس وأخت كرياس، وكاميل حبيبة كرياس وأخت هوارس، وجوليا نجية سابين وكاميل.

الفصل الأول:

أزف يوم المعركة الحاسمة بين الرومانيين والألبيين، فتجد سابين جالسة تشكو إلى نجيتها صرامة القدر الذي جذم الحبل بين ألب مسقط رأسها، وبين روما بلد زوجها، وتألم لحظها المنكود وهمها المتقسم. وتبثها كاميل إشارة من الآلهة، ولكنها ترى رؤيا تقلق بالها وتقلب حالها. ويقدم خطيبها كرياس فينبئها أن المعركة لن تكون، وأن قوميهما رأوا حقناً للدماء أن يقصروا المعركة على ثلاثة أبطال من كلا الفريقين، ويكون فوز الثلاثة فوزاً لقومهم.

الفصل الثاني:

يجتمع مجلس الشيوخ الروماني فيختار للمعركة أبناء هوراس الثلاثة. ويقبل كرياس خطيب كاميل فيهنئ صهره بما أحرز من ثقة وشرف. ويأتيه النبأ بعد قليل بان مدينة ألب اختارت عنها أبناء كرياس الثلاثة. يتأهب الأبطال للذهاب إلى المعركة، ولكن خطيب كاميل يكره أن يقاتل إخوة حبيبته، بينما زوج سابين لا يرى في أصهاره إلا أعداء لروما وأخصاماً للوطن. وتجهد كاميل وسابين في تخذيل الأبطال عن القتال، ولكن الشيخ هوراس يقبل فيشجعهم على الحرب ويبعث بهم إلى الميدان.

الفصل الثالث:

تدخل جوليا فتنبئ سابين وكاميل بأن الأقران برز بعضهم لبعض، وأن الجيشين أدركتهما الشفقة فعارضا في تقاتل الاخوة، وطلبا إما المعركة بين الجيشين، وإما الاختيار من غير هاتين الأسرتين. ولكن الشيخ هوراس يقبل وعلى لسانه الخبر المشئوم بأن الملك استشار الآلهة في هذا الاختيار فأقروه، وأن المبارزة بين الاخوة قد بدأت. وتطالع جوليا القتال عن بعد فترى اثنين من بني هوراس يسقطان مجندلين، والثالث يلوذ بالفرار، فتبادر القوم بإعلان هزيمة روما. ويتحدم الشيخ هوراس حنقاً وغضباً من جبن ولده. فتقول جوليا: وماذا يصنع واحد أمام ثلاثة؟ فيجيبها الأب في شدة وحدة: يموت! ثم يقسم الشيخ جهد اليمين ليغسلن عار الرومان بدم هذا الابن الجبان.

الفصل الرابع:

ولكن فالير وقد شهد نهاية المعركة يعود ويقول: استغفروا الآلهة فقد ظلمتم بطل روما! انه لما بقى وحده أمام بني كورياس الثلاثة، وهم مجروحون وهو سليم، رأى أنه أضعف منهم مجتمعين، وأقوى عليهم منفردين، فعمد إلى الخديعة وأوهمهم أنه يفر فطلبوه. حتى إذا انفرد كل عن الآخر كر عليهم واحداً بعد واحد فقتلهم، وبذلك انكسرت ألب! فتنساغ غصة الشيخ، ولكن كاميل تجزع على حبيبها جزعاً شديداً يفقدها الرشد فتنحى باللعنة والسخط على أخيها ووطنها. ويدخل حينئذ أخوها المنتصر فيسمعها، فينزو في رأسه الغضب. فيلطخ انتصاره بدم أخته.

الفصل الخامس:

يجعل هوراس حياته في يد أبيه تكفيراً عن الجريمة التي ارتكبها، ويجئ الملك مهنئاً هوراس بفوزه. فيتقدم إليه فالير متهماً الأخ بالقتل طالباً موته، ويستسلم القاتل لعدل الملك. ولكن الشيخ هوراس يتولى الدفاع عن أبنه فيقول: (معشر الرومانيين!! أترضون أن تقتلوا رجلا لولاه ما كانت روما اليوم؟ قل لنا يا فالير وأنت تريد قتل هوراس: في أي مكان يقتل؟ أبين هذه الجدران، ولا تزال آلاف الأصوات ترن في جنباتها بأعماله العظيمة؟ أم في وسط هذه الساحات ودماء بني كرياس لا تزال تدخن فيها؟ أم بين قبورهم الثلاثة في ميدان الوغى وكلها شواهد على شرف روما وشهامة هوراس؟. . . .) ثم تكون نتيجة هذا الدفاع البليغ البراءة.

ومما أخذه النقاد على كورنيي في هذه القطعة الخالدة أنه لم يراع وحدة العمل. فجعل فيها عملين مختلفين، الأول حرب روما مع ألب، وينتهي بالمنظر الثاني من الفصل الرابع.

والثاني قتل كاميل ومحاكمة هوراس وينتهي بالرواية.

يتبع

(الزيات)