مجلة الرسالة/العدد 630/أحمد محرم

مجلة الرسالة/العدد 630/أحمد محرم

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1945


لصاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا

أيها السادة الأماثل:

حباكم الله، فلقد اجتمعتم في هذا الحفل الحاشد لتكريم سيرة راحل خالد كنت أحب أن أشارككم في الاحتفاء بها، فأحضر بنفسي لأرد بعض الصنيع الأدبي الذي علي لفقيد الشعر العربي المغفور له الأستاذ أحمد محرم؛ فكم له من أياد خالدات على مصر والمصريين، سوف يذكرها له تاريخ الأدب الحديث. فقد أضاف الشاعر الكبير ثروة ضخمة إلى تراثنا الأدبي كنا في أمس الحاجة إليها منذ أن ألقى سامي باشا البارودي بأعنة القيادة إلى خلفائه الفحول: شوقي وحافظ ومحرم ومطران والكاشف. رحم الله من رحلوا، ومتع الباقين بالصحة والعافية

كان شاعرنا الكبير أحمد محرم بين هؤلاء الأعلام علماً بارزاً ساهم بأوفى نصيب في بناء صرح الشعر الحديث، فتجاوبت أرجاء وادي النيل بأصداء قصائده الجياد قرابة نصف قرن، وشعره يعتبر سجلا زاخراً بشتى ألوان السياسة والاجتماع، لم يفرط في صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من شؤون القومية الصادقة والوطنية الكريمة العاملة

وشيء واحد أريد أن أقرره لشاعرنا الكبير، كثيراً ما دار بخلدي، ولعله من خصائص شاعريته - رحمه الله - وهو بهذا الشيء يقف وحده بين سائر أئمة الشعر العربي الحديث، ذلك إنه شاعر الإسلام غير منازع في عصرنا هذا

فلقد توفر منذ حداثته على دراسة آثار الإسلام من علوم ومعارف، ولم يدرج في بيئة دراسية توجهه وتبصره بمناحي الدراسة والتحصيل

. . . فلم نسمع إنه درس في الأزهر أو أي معهد آخر، بل عكف وحده على المنابع الثرة للغة العربية من كلام الله وكلام العرب، يهديه وحي الفطرة النقية، وتدفعه نوازع المواهب الأصيلة، فشب نبتاً كريماً يرويه هذا الورد المورود حتى أينع وأخرج شطأه واستوى على سوقه

وكان لكل ذلك أعمق أثر اضطرب في نفس شاعرنا الكبير مما حداه في أخريات أيامه إلى نظم ملحمته الكبرى (الإلياذة الإسلامية) التي عارض بها (إلياذة هوميروس)، وهو بهذا العمل المجيد الذي جاء نتيجة موفقة لنشاط المواهب التي استوعبت أمجاد الإسلام ومفاخره وأزهى أيامه وعهوده. . .

هو بهذا العمل يقف وحده في الطليعة بين قادة الشعر الحديث. وليس هذا المجهود على ضخامته وفخامته لشاعرنا فحسب، بل أذكر أنني قرأت له في إحدى المجلات الأدبية الكبيرة ثلاث قصائد في موضوع واحد وغرض واحد متباينة في سمو معانيها، وصفاء ألفاظها، ودقة أساليبها، فلا تكرار في المعاني، ولا تشابه في الأساليب والألفاظ. . . تلك قوة منقطعة النظير، لا تواتي إلا من هو في مواهب شاعرنا الممتازة، وعبقريته النادرة، التي تعاونت في تكوينها أسباب الثقافة الإسلامية، وكان ذلك الموضوع الذي أحدثكم عنه هو (غزوة بدر الكبرى)

تلك ناحية باقية تكفي وحدها لتخليد ذكره بين عظماء الفكر الحديث، فهو الشاعر الإسلامي العربي في كل ما ينتجه ذهنه الخصب وخياله الواسع

ديباجة مشرقة، وأداء محكم، وأسلوب أنيق، كل ذلك يصدر عن طبع أصيل في نفس شاعرة تستلهم أصدق مصادر الشعر العربي، وكان يتجلى ذلك حينما تستثار شاعريته الفياضة في موضوع يتصل بمذخوره العربي الخالص

فمشاهد الحركة الإسلامية الأولى ومجالي طبيعتها الشاعرة في عصورها الناصعة تسيل لها نفسه معاني وأخيلة في كثير من الدقة والجمال. تلكم الصحراء، يزورها الشاعر مع رفقة من أصدقائه وأحبائه، فتجري على لسانه قصيدته الرائعة التي حلت بها جريدة الأهرام جانباً كبيراً من صفحتها الأولى أستهلها رحمه الله بقوله:

هي الدنيا التي تسع الجمالا ... فسر إن شئت أو ألق الرحالا

هي الدنيا التي وسعت خيالي ... مررت بها فظننتني خيالا

هذا، ولقد مر شاعرنا الكبير يعبر دنياه كما يقول كالخيال الخاطف، لم يخلف من آثاره العديدة شيئاً مذكوراً، وأرجو أن أوفق في رجائي زميلي صاحب المعالي وزير المعارف ليصدر أمره بطبع أثره الفني القيم الماثل في (الإلياذة الإسلامية)

وبذلك تكون الحكومة قد أدت بعض الحق للشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد محرم، عوض الله اللغة العربية عنه خيراً، وأجزل له بقدر ما أدى إلى وطنه العزيز في نهضته الفكرية الحديثة إنه سميع مجيب.

إبراهيم دسوقي أباظة