مجلة الرسالة/العدد 631/الحياة الأدبية في الحجاز

مجلة الرسالة/العدد 631/الحياة الأدبية في الحجاز

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1945



للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم

كتب الأستاذ (إبراهيم هاشم فلالي) مقالا تحت هذا العنوان في عدد سابق من (الرسالة) عرض فيه صورا جميلة من الأدب الحجازي الحديث، فرأيت إتماما للفائدة أن أتبع مقاله بكلمات عن النهضة الحديثة لهذا الأدب حتى يدرك قراء الرسالة شيئا من أسباب هذه النهضة والاتجاهات الأدبية في هذه البلاد المقدسة.

ولست أريد في هذه الكلمات أن أتتبع النهضة من لدن وجودها في الحجاز على يد أحمد بن زيني دحلان المتوفى سنة 886 م ولكني سأكتفي بالنهضة السعودية القائمة فإذا ما انتهيت من عرضها بسطت الكلام في الشعر والنثر وبينت خصائصهما واتجاهاتهما.

النهضة السعودية

الحجاز الحديث قطر متوثب للرقي مؤمن بقديمه العريق وواثق بالنجاح؛ فهو يبذل الجهد ويواصل العمل لمسايرة الأمم العربية التي سبقته في النهضة. وقد بعث فيه هذا الروح القوي ملك عربي واسع الآمال يجيد العربية ويطرب للشعر البارع والنثر البليغ ويستحث الأدباء للإجادة ويدفعهم إلى العناية، فهو يكافئهم على إحسانهم ويحلهم من نفسه منزلة سامية، ويكفي أن يقرأ الزائر لهذه البلاد ثبتا بأسماء المستخدمين في الإدارات والمصالح، فيؤمن بعد ذلك أن الحكومة السعودية لم تخترهم عبثا وإنما كشفت فيهم البراعة في الأدب فأرادت أن تكافئهم عليها بهذه المناصب ليعيشوا راضين مطمئنين منصرفين إلى الإجادة والإنتاج: فالشيخ محمد سرور الصبان، والغزاوي، وعلي حافظ، وعبد القدوس الأنصاري. كل أولئك وغيرهم من الأدباء يتولون كثيرا من مناصب المملكة وينهضون بأعبائها وينالون فوق ذلك عطف جلالة الملك وإحسانه، ولهذا وغيره من الأسباب الثقافية والقومية، رأينا الأدب الحجازي في هذه الفترة الوجيزة من الزمان يثب وثبة توشك أن تكون طفرة.

ومن أسباب النهوض في العهد السعودي العناية بالقومية العربية بعد أن أغفل الناس شأنها ردحا طويلا من الزمان؛ فقد جاء العهد الجديد يحمل الطابع العربي الخالص من كل شائبة ودخيل، ويحمل القوم على التعصب لكل مظاهر العروبة حتى لا تفنى شخصيتهم وتتضاءل ذاتيتهم، عندئذ أدركوا أن في الحياة الجديدة مغزى ساميا لم يدركوا إلا أوائله الثورة الحجازية، ولاشك أن ارتباط الأدب بهذه القومية ارتباط متين فهو يقوى بقوتها ويضعف بضعفها. ويكفي أن يشعر الناس أن مليكهم معنى بنهضة عربية تعيد إلى الحاضر سيرة عهود أجدادهم السابقين؛ حينئذ يعملون جاهدين ليسجوا على منوالهم ويتأثرون في كل شيء: في أخلاقهم ولغتهم ومظاهر حياتهم.

والقارئ للشعر الحجازي في النهضة السعودية يجد ظاهرة التعصب للقومية العربية واضحة جلية: فالشعراء كثيرا ما يذكرون ما كان للشرق والعرب من مجد سابق ويتحسرون على هذا المجد الذي ضاع واندثر وحل محله التأخر والجمود. وفي هذه المعاني يقول الشاعر الغزاوي شاعر الملك ابن السعود:

أجلْ. تقهقر هذا الشرقُ فانغمزَتْ ... قناته بعد أن صالت بها الأمم

واندكّ مجدُ بنيه منذ أن غفلوا ... عن الحياة وزلّتْ منهمُ القدمْ

وخالفوا فطرة الأخلاق واختلفوا ... فسامهم كلَّ خسف من رقي بهمْ

وهو يقول أيضاً في موضع آخر مبينا أن العرب قد عرفوا الحضارة وسبقوا إلى النهضة قبل الغربيين:

هل كان للغرب المصوّتِ نأمةٌ ... أيام كان الشرق لا يستسلمْ

أو كان للغرب المدل بعامه ... بَصرٌ بما أمسى به يتنعمْ

في هذه الأبيات وأمثالها نرى اعتدادا بالمجد التليد الذي تركه العرب باقيا على الزمان كما نرى اعتزازا به وحرصا على إعادته ففيه البطولة وفيه المجد والمعاني السامية. وقد قال أحدهم وهو عبد الوهاب آشي في هذا المعنى:

بلادٌ سمتْ بالآلي عرفوا ... طريقَ المعالي ومضمارَها

سعى المجدُ طوعا إلى بابهم ... وأولتهم الأرضُ أمصارها

إذا جَد جِدّ الوغى يمموا ... ميادينها وجلوا عارها

وما عن ونى يؤثرون السلام ... ولكن يربحون ثوارها

بهذا الإيمان الصادق بمجد الأسلاف يتدفق شعر الحجازيين المحدثين ويرون انهم لن ينجحوا في حاضرهم إذا لم يقتفوا آثار السابقين ويعملوا على غرارهم فإذا فعلوا ذلك كان المجد قريبا منهم لأنهم أهل له من قديم الزمان وفي ذلك يقول عبد الله بلخير: بوركتَ يا عزم الشباب وقدستْ ... روحُ الشجاعة فيك والإقدامُ

أملُ الجزيرة قد أنيط بعزمكم ... بغدادُ ترقب نورَه والشامُ

متطلعين إلى الحجاز فإنه ... في كل عصرٍ قائدٌ وإمامُ

ومن الخير في هذا المقام أن ننقل إلى القارئ ما كتبه معالي الدكتور هيكل باشا في نهضة الحجازيين عن طريق الالتفات إلى الماضي والاعتزاز بالقومية العربية فهو يقول: (وما دام شباب العرب قد بدءوا نشاطهم الفكري على هذه الصورة الواضحة في (أشعارهم) فمن حقهم وحق كل عربي أن ينفسح أمامهم ميدان الأمل في المستقبل، فالأدب نواة كل عمل وكل حياة بل هو رحيق الحياة وروحها، والروح ما قويت قديرة على كل شيء، ولقد أتيح لي أن أتعرف إلى كثيرين (منهم) فرأيت فيهم طموحا وأملا وحرصا على تحقيق هذا الأمل، أما وهذا شأنهم وهذه عزيمتهم الصادقة فلهم أن يصوروا مستقبل بلادهم كما يشاءون، فإذا جاء الوقت الذي تدوي في العالم صيحته كان هذا طليعة العظمة العربية المقبلة وكان المتقدم الذي يسير في أثر أمجاد يعيدون لبلادهم عظمتها ومجدها)

والحجازي خليق ببلوغ هذه الغاية التي يسعى إليها لأنه جلد صبور، قد أوحت إليه الحياة الخشنة في الصحراء كثيرا من أخلاق الصرامة والثبات والعمل المتلاحق الذي لا يدركه فتور ولا كلال.

ولاشك أن هذا الاتجاه العربي القومي قد أفاد اللغة والأدب أجل الفوائد، ولاشك كذلك أن هذه الآمال التي استمدوها من الماضي العريق قد دفعت الأدب دفعا قويا ظهرت ثمراته في عهد قليل، ولن يتوانى هذا الأدب عن تقدمه السريع وإمعانه في التجديد والرقي ما دامت القومية العربية طابعه وفسحة الآمال تستحثه وتنهض به. وتاريخ الآداب في الأمم المختلفة يوضح لنا هذا القول؛ فما قوى أدب أمة من الأمم إلا في ظلال قوميتها وعلى أساس من آمالها المتوثبة الجريئة، وما ضعف إلا في العهود التي تخاذل فيها الناس وتناسوا قوميتهم وفقدوا آمالهم؛ لأن الأدب يتمشى مع القومية والآمال ويستمد منهما معاني الحياة الباقية الخالدة

الثقافة

الثقافة عماد الأدب ومادته ولا ينهض أدب في أمة من الأمم ما لم يتهيأ لها من وسائل العلم ما يقدرها على إدراك الحق والجمال، وبهذه الثقافة يتسع أفق الأديب فإذا ما تناول موضوعا تناوله عن بصر به وعلم بدقائقه ونواحيه المختلفة.

وقد منيت الثقافة في الحجاز في العهد العثماني بما جعلها ضئيلة متأخرة ومحدودة تافهة لا تغني ولا تنفع في إعداد الأديب المثقف؛ فقد اقتصر التعليم في ذلك العهد على التعليم الابتدائي وهو كما نعلم لا يعد شاعرا ولا يخرج كاتبا، فإذا عرفنا مع هذا أن العناية باللغة التركية قد فاقت العناية باللغة العربية وأن المواد المختلفة في هذه المدارس كانت تدرس بالتركية؛ أمكننا أن ندرك إلى أي حد ضعفت العربية في هذه البلاد.

نعم كان في الحجاز الحرمان الشريفان يقوم فيهما العلماء بتدريس الدين واللغة العربية على الطريقة التي كانت تتبع في الأزهر الشريف وهي طريقة لم يظهر فضلها إلا في حفظ العلوم اللسانية والدينية من الضياع ولكنها لم تجد في تخريج الأدباء والشعراء.

لهذا كله أشفق المصلحون في الحجاز من ذوي المروءة على اللغة العربية ومصيرها فهبوا لإنشاء المدارس التي تنهض بالدين والأدب وكان أسبقهم إلى هذا العمل السيد محمد زنبيل فقد أنشأ مدارس الفلاح في جدة ومكة سنة 1326 للهجرة وجاهد في سبيل نهضتها وبقائها على الرغم مما أثير حولها من الشكوك والأوهام، وكان لهذه المدارس الحرة الفضل الأكبر في تخريج طائفة من الشبان هم الآن حملة لواء النهضة الأدبية والفكرية في البلاد الحجازية.

(البقية في العدد القادم)

أحمد أبو بكر إبراهيم