مجلة الرسالة/العدد 634/على هامش (حادث الشام)

مجلة الرسالة/العدد 634/على هامش (حادث الشام)

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1945



دموع. . . دموع!

يا أيها العرب جميعاً!

خلدوا (يوم 24 تموز)، فانه كان لنا يوم البؤس، وأنه كان لنا يوم النعيم!

للأستاذ علي الطنطاوي

كنت تلميذا في الصف الأدنى من الدراسة الثانوية، وكان لي رفاق لهم على حداثة أسنانهم قلوب فيها إيمان وفيها حماسة وفيها وطنية، وكنا نحس وقد ولى حكم الأتراك، وغاب عنا شبح الذعر والهول: جمال باشا. . . واختفت المشانق، وبطل الهمس، والتلفت كلما ذكر هذا الاسم المرعب، وجاء الشريف فيصل، وجاءت معه الأفراح، وقامت الأعراس، ودقت طبول البشائر. . . كنا نحس أننا نعيش في دنيا من الأحلام، في أيام كلها أعياد، وكنا إذ نجول كل خميس في المدينة ننشد (مرسلييز العرب):

أيها المولى العظيم ... فخر كل العرب

ملكك الملك الفخيم ... ملك جدك النبي

فيردده معنا التجار في دكاكينهم، والباعة من وراء دوابهم، والمارة في دروبهم، وتردده منازل دمشق ودورها، ومساجدها وقصورها، وقلعتها وسورها، وتردده الأرض والسماء. . . أو هكذا كان يخيل إلينا، فيشد هذا الخيال من عزائمنا، فننتفخ ونتطاول، ونمد أصواتنا، ونقويها لنشعر أنفسنا أننا صرنا رجالا، وصرنا جندا كالرجال الذين كنا نراهم يصرخون في المظاهرات ويلوحون بالسيوف والبنادق، ويطلقون النار من مسدساتهم كلما أخذت منهم الحماسة وهزهم الطرب، بعد أن مضت علينا أيام ما كنا نرى في دمشق رجلا إلا فارا من الجيش مختبئا يمشي مشية المذعور، يخاف أن يلمحه رسول الموت (أبو لبادة) فيقول له الكلمة التي حفظناها، ونحن صغار لا ندري معناها، ولكنا ندري أنها كانت تخيف وترعب، ويصفر منها الوجه، وترتجف الأضلاع، كلمة: (نرده وثيقة)؟

وأنا لسادرون في أفراحنا، ممعنون في مسيراتنا، مزهوون باستقلالنا، وإذا بنا نسمع الصريخ في الحمى، ونرى الخطباء يقومون في الأسواق ينذرون الناس خطبا داهما، وشرا مقبلا، ولم ندر نحن الفتية الصغار ماذا جرى؛ فسألنا: هل عاد جمال باشا؟ هل رجعت مشانقه؟ قالوا: لا، جاء ما هو شر منه وأمر، غورو، قلنا: وما غورو؟ قالوا: الأعور. . . فاعتقدنا أنه الأعور الدجال الذي يظهر في آخر الزمان!

ورأينا الدنيا تقوم وتقعد، ففي كل مكان حشد، وعلى كل منبر خطيب، وعجت الشوارع بالناس، ولم نكن نفهم ما يجري من حولنا، وإن كنا نسعى في أعقاب الناس متسائلين مشاركين ما استطعنا، ثم رأينا الجموع تمضي إلى النادي العربي. . .

النادي العربي الذي كان مثوى الوطنية، وكان لنا نحن لصغار المنار الهادي، من خطبه تعلمنا الخطب، ومن بيانه قبسنا البيان، ومن رجاله عرفنا الرجال، هذا النادي الذي خان أهله عهده، وهدروا مجده، وقعدوا به بعد العز، ونسوه بعد أن كان هو الذي يذكرهم أوطانهم، فغدا ويا خجلتاه حانة، أو شيئاً يشبه الحانة، يقال له شهرزاد!

مضت الجموع إلى النادي يموج بعضها في بعض، ومضينا نتبعهم، حتى إذا وقفوا اطل عليهم من شرفته اخطب خطيب عرفته، وأطلقه لسانا، وأشرفه بيانا، واشده على القلوب سلطانا شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي الشاعر الفقيه رحمة الله وسير في الناس طيبة ذكراه، اطل على بحر من البشر يزخر بأقوام برزوا للموت، يدفعون الغير عن الحمى، ويحمون الذمار، فامتلأ بهم ما بين المستشفى العسكري، ومحطة الحجاز، وميدان الشهداء، وحديقة الأمة، ولم يبق في تلك الرحاب كلها موطئ قدم، اطل فلما رأى الناس استعبر وبكى، وخطب خطبة إذا قلت زلزلت القلوب أكون قد أقللت، وإن قلت ألهبت النفوس أكون قد بلغت، خطبة لو كانت بلاغة بشر معجزة لكانت من معجزات البلاغة، خطبة ما سمعت مثلها، وقد سمعت ملوك القول، وفرسان المنابر، حملتني هذه الخطبة إلى آفاق المستقبل، فنسيت أني تلميذ صغير، ورأيتني رجلا، ثم صبت البطولة في أعصابي، فأحسست أني كفولغورو، وجيشه العادي أرده وحدي، وكبرت في نفسي حتى صغر الأعور الدجال، الذي خافوه وخوفونا منه، فلم يعد شيئا، وإني لا أزال احفظ منها قوله عليه رحمة الله، وقد سكت لحظة وهو يخطب، وسكت الناس حتى لو أنك ألقيت إبرة على بساط لسمعت لها صوتا، ثم ولى وجهه تلقاء المغرب، وصرخ من قلبه الكبير صرخة لا تزال إلى اليوم تدوي في مسمعي: (غورو! لن تدخلها إلا على هذه الأجساد)! وأعقبتها صرخة أخرى، تقلقل لها الفلك، ورجف الكون، تكبيرة واحدة انبعثت من أربعين ألف حنجرة مؤمنة!

ومضى الناس قدما إلى ميسلون!

أما نحن فمضينا إلى بيوتنا، فما كان فينا من بلغ سن القتال

ولم يكن إلا يوم وبعض يوم حتى رأينا الدنيا تتبدل غير الدنيا وأبصرنا كل شئ قد تغير، وإذا الناس في جمود كأنهم في مآتم، وإذا الخطباء الذين كانوا ملء الأسماع وإلا بصار قد اختفوا، وإذا الأعلام ذوات الألوان الأربعة قد طويت، وإذا فيصل الذي كنا نهتف باسمه ونعتز به، ويشعر كل واحد منا أنه يملك فيه ملكا إذ يكون له مكان، قد سافر وخلا منه قصره في (العفيف)، فاحتله عدوه، ونام فيه على فرشه، واستوى على عرشه، فخرنا وسألنا: ماذا جرى يا ويحكم حتى انهار الصرح في يوم واحد. وضاع البشر، وتبدلت الدنيا، قالوا: اذهبوا لا تسألوا، أننا خسرنا، ورجعنا من (ميسلون)، وقد خلفنا فيها استقلالنا الوليد، وقائدنا الشهيد، وصارت الغلبة لهذا العادي العاتي الذي اقتحم علينا بلد اقتحام الغاصب، وغورو! قلنا: الأعور الدجال؟ قالوا: اسكتوا، اسكتوا، لا يسمعكم أحد

وذهبنا نستطلع حقيقة الخبر، فقادتنا الخطأ إلى (الثكنة الحميدية)، فوجدنا عندها جندا غرباء عنا، سدواً برابرة، وسمراً مغاربة، وشقراً فرنسيين، وإذا هم يخفضون علمنا، ويلقونه، ويرفعون علما فيه ثلاثة ألوان. . . وتلفت فإذا رجال منا واقفون ورائي، ودموعهم تسيل على خدودهم في صمت وحرقة وألم خفي يأكل الأكباد، وكان ذلك يوم 24 تموز سنة 1920، وكانت تلك هي (الدموع) الأولى!

ومر ربع قرن، خمس وعشرون سنة كاملة لا تنقص يوما ولا تزيد يوما، حملنا فيها ألوان الأذى، وذقنا فيها الموت من كل طبق، وعلى كل خوان، ورأينا النار تآكل دورنا، والقنابل تهدم على رؤوسنا منازلنا، فتهدمت بيوت من أبهى وأغلى وأحلى بيوت دمشق، وقضى فتية من اجمل واكمل وأنبل فتيتها، وأبصرنا أياما سودا، ومصائب شدادا، ولكنا ما جبنا ولا خفنا، وكنا عزلا قلة، وكانت قريعتنا فرنسا القوية العظيمة ذات الحول والطول، فقارعنا فرنسا، ولقينا بصدورنا الرصاص، وهجمنا بالخناجر على الدبابات، وقابلنا بالحجارة الرشاشات، وصبرنا فانتصرنا

وكان يوم 24 تموز سنة 1945، ورأيت بعيني العلم ذا الألوان الأربعة يرتفع مرة ثانية على (الثكنة الحميدية) في دمشق، ورأيت رجالا يبكون، ولكنهم يبكون هذه المرة من الفرح، وكانت تلك هي (الدموع) الأخرى!

اللهم لك الحمد أن أحييتني حتى رأيت هذا المشهد، اللهم لك الحمد فما أبالي بعد اليوم أن أموت، لقد أبصرت وطني حرا مستقلا له راية ترفرف، وعلم يخفق، وجيش كان عليه فصار له، وجند كانوا يحاربونه فصاروا يحمونه، لقد غدت الآن أقدر أن أقول مباهيا مفاخرا: أن لي وطنا!

اللهم علم قوى كيف يحفظون استقلالهم، وسدد خطاهم نحو وحدتهم، التي لا حياة لهم إلا بها، ولا اعتماد بعد الله عليها!

اللهم وارحم أولئك الأبطال الذين سقوا بدمائهم هذه النبتة الكريمة حتى صارت دوحة، شهداء الاستقلال من لدن يوسف العظيمة شهيد ميسلون، إلى حسن الخراط شهيد الغوطة، إلى أخي ورفيق مدرستي شهيد الواجب، الطبيب مسلم البارودي، الذي اقبل أمس يسعف الجرحى من أبناء الوطن، فقتله أعداء الوطن. . . رحمة الله على الجميع

علي الطنطاوي