مجلة الرسالة/العدد 634/عم يتساءلون؟
مجلة الرسالة/العدد 634/عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - التوازن بين الكتل الثلاث الكبرى التي تسيطر على العالم - نظرة شرقية. . .
كان النظام السائد في عالم الاقتصاد في المائة سنة الماضية التي أشرنا إليها في مقالنا السابق، هو نظام الباب المفتوح، وهو يتلخص في حرية التجارة والتكافؤ في المعاملة. فالبوارج الحربية التي فتحت موانئ الصين واليابان من مختلف الجنسيات، كانت تفرض نظام الباب المفتوح، واعتراف الدول بحماية فرنسا على مراكش المستقلة، كان يتضمن بقاء سياسة الباب المفتوح - وفي مصر كان تساهل الدبلوماسية الأوربية لبقاء الاحتلال البريطاني يلازمه اشتراط العمل بسياسة الباب المفتوح، ويأخذ الضمانات على الإنجليز (ألا يكون لهم مركز ممتاز)، أو أكثر رعاية من غيرهم. ولذلك بقيت حرية الحكومة المصرية في زيادة الضرائب الجمركية مقيدة كما كانت طول عهد الدولة العثمانية برغم وجود العامل الجديد، وهو الاحتلال البريطاني
وقد بقيت سياسة الباب المفتوح معمولا بها طوال القرن الماضي، لو كانت إحدى دعامات القوة البريطانية، ولكن حينما تقدمت الدول الأوربية في طرق استغلال أراضيها بالمستعمرات، تطورت علاقاتها مع ممتلكاتها إلى إيجاد نوع من الوحدة الاقتصادية بين الدولة الأوربية وما تملكه في القارات الأخرى. وأخذت كل وحدة تسير نحو الاستكفاء بما لديها - فالميزان التجاري الذي كان يعتمد على حرية التجارة، خضع لمقدرة كل دولة واستعدادها لتصريف الفائض من منتجاتها في المستعمرات التي تملكها - كما أن المواد الأولية التي كانت تحت تصرف الدول الأخرى، أخذت تنحصر رويداً رويداً بيد رجال الدولة الحاكمة، وتصبح مع مرور الزمن محتكرة وفوق متناول يد الدول الأخرى.
ولما كان كوكبنا الأرضي محدود المساحة، ولم تبق بقية من أنحاء العالم خالية، لا يرفرف عليها علم أحمر أو أزرق أو أخضر، ولم يبق شعب من الشعوب إلا وخضع لحكم الأوروبيين، كان من الطبيعي أن تتلاقى القوى على حدود مناطق لا تتعداها، وإلا تصادمت مع قوة لا تقل شأنا عنها.
ولقد انتهى كل هذا إلى تنافس بين الدول الاستعمارية ظهرت بوادره بداية القرن الماضي، فمشكلة فاشودة بين فرنسا وبريطانيا واتفاق سنة 1904 بين الدولتين، وهو الذي جعل مراكش من حصة الأولى، وجعل مصر من نصيب الثانية، جاء ليحد من أثر التنافس، وليوجد حلا للمشاكل الاستعمارية بين الدولتين، كذلك كان اتفاق سنة 1907 بين بريطانيا والروسيا، جاء ليقسم إيران، وليسد الباب على هذا التلاحق أو الاحتكاك بين قوتين تخشيان التصادم
ولقد وصل هذا التنافس بين المستعمرين إلى مداه قبل قيام الحرب العالمية الأولى، أي في سنة 1914، وكثر التحدث عن احتلال المراكز التجارية والمواقع الاستراتيجيكية التي تسيطر على طرق الملاحة والمواصلات
ولما وقامت الحرب العظمى الأولى، كانت أوروبا في عنفوان قوتها ومجدها وسلطاتها. وقد ورثت الأرض ومن عليها، وكانت حرباً قاسية ضروسا تحملتها أوروبا واشتركت المستعمرات فيها بأموالها وبرجالها، وكان الدور الذي لعبته الهند وأفريقيا الشمالية وغيرها هاماً، فبقدر أهمية الخدمات التي أدتها المستعمرات، بقدر ما زاد واستوثق اتصال الدولة الحاكمة بالبلاد الخاضعة لسلطنها ونفوذها
نتساءل بعد ذلك عما كان من أثر الحرب العالمية الأولى ونتائجها؟
ظهر جليا بعد الحرب أن أوروبا تحطم فيها أكثر ما خلفته المائة سنة الماضية من أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية
فلو قدر لمترنخ الوزير النمساوي أو لغيره من أساطين ونماردة الرجعية الذين خيل إليهم أن الأقدار بيدهم يوماً ما
نعم، لو قدر لهم رؤية أوروبا عام 1920 لصعب عليهم أن يجدوا أثراً من الأنظمة التي فرضوها على الشعوب في مستهل هذا القرن الماضي
ولكن أوروبا التي تحررت من أثار القرن التاسع عشر، عرفت - لأول مرة - عهداً من الفقر المادي والمعنوي، ودخلت في طور جديد من المشاكل، إذ كانت العشرين سنة التي أعقبت الحرب العظمى، كشريط سينمائي للحوادث، استمر يعرض علينا مشاكل الحدود والأقليات والثورات المتتابعة، ومسائل التسليح ومقاعد عصبة الأمم - فكانت ما أثارته الحرب من المشاكل والشكوك والريب والأطماع أضعاف ما عرفته أوربا قبل قيامها، بل استمرت هذه المتاعب تعمل في أوربا وجراحها بعد لم تلتئم، فكان من الطبيعي أن يلجأ السياسيون لكل الوسائل التي اعتادت الدبلوماسية الصامتة من قبل بأساليبها الملتوية
ولقد كانت أكبر متاعب أوروبا مسببة من الشعوب الصغيرة التي أوجدتها معاهدات الصلح بدون أن تستند على أسس تاريخية راسخة - فهذه الدول المرتجلة، أمضت العشرين عاما، تتأرجح بين التيارات المختلفة، فلم تثبت على مبادئ واحدة، ولم تنهج خطة معينة، وكان تنازعها على مقاعد عصبة الأمم مضحكا، كما كان اجتماع مجلس التحالف الصغير المكون من تشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا ورومانيا للتدخل في الشؤون الداخلية للمجر يدل على مهارة، ولكن تفكك هذا المجلس وانكماشه أمام المصاعب الكبرى مثل مهاجمة النمسا واحتلال تشيكوسلوفاكيا كان يدعو إلى السخرية والتهكم
فهذه الشعوب والدول الصغرى كانت تسبب الكثير من الضجيج، ولكنها لم تكن يوما ما مستقلة في سياستها، أو مخلصة للمواثيق والعهود التي قطعتها على نفسها، بل كانت أكثر الوقت ألعوبة في أيدي الدول الكبرى التي كانت تحركها
وفي وسط هذه الفوضى الأوربية كانت الدول الكبرى تسير بخطوات واسعة نحو تدعيم مستقبلها بالاعتماد على عوامل عالية أو كونية أكثر منها محلية أو أوربية - وكان التفوق الصناعي والمقدرة الرأسمالية والإنتاج الواسع كلها تمهد لهذا الاتصال أو الارتباط وتسير بالدول لاستعمارية وأراضيها ومناطق نفوذها نحو التركيز الاقتصادي، أو نحر أيجاد نوع جديد من الكتل الاقتصادية، أو الوحدات المكونة لمجموعة من الدول والأمم التي أن لم تكن مرتبطة سياسيا، فهي مرتبطة اقتصاديا وماديا، وهذه كانت أول خطوة نحو ظهور الكتل الكبرى التي نراها اليوم
ولم يكن هذا التوجيه في حلم أحد من الناس، بل هو النتيجة الطبيعية للعوامل التي سببها هذا التوسع الاستعماري الجارف وهذا التطور الذي صحب العالم - وبينما هذه الدول تسير بخطوات واسعة نحو تأكيد سيطرتها معتمدة على تفوقها - أي بينما هذا التحول في الحلقة الأولى من حياته - ظهرت المتناقضات والشروخ في هذه الأنظمة الاقتصادية
فالنظام الرأسمالي الذي بلغ اوجه، لم يكن يفكر في شئ من الانهيار والتفكك حينما دهمته أزمة سنة 1930 وما بعدها، ولم تكن هذه الأزمة أوربية حتى يمكن تلافيها، بل كانت عالمية، فهي أشبه الأشياء بالسنوات العجاف التي تحدثت عنها الكتب المقدسة.
كانت هذه الأزمة الواقعة بين حربين امتحانا قاسيا للأنظمة الاقتصادية ولقوة المقاومة بين الدول الكبرى، وكانت أكثر من ذلك، كانت الدافع الديناميكي الطبيعي الذي اقنع الكتلتين الكبيرتين الانجلوسكسو بأن مستقبل العالم يتطلب تفاهما وتعاونا وارتباطا بين أمريكا الانجلوسكسو وبريطانيا الانجلوسكسونية
ويحسن بنا قبل التكلم عن أثر هذه الأزمة أن نعطي فكرة أولى عن أحوال العالم الاقتصادية، أو نظرة لرجل على ربوة رصد يسجل حوادث تمر أمامه:
كان يبدو للناظر أن الدنيا يغمرها طوفان أو فيض هائل من خيرات الله، فلم يحدث في العالم أن وصلت مستخرجات المواد الأولية إلى الملايين من الأطنان من كافة الأصناف التي وصلت إليها في العشر سنوات الواقعة بين 1920 - 1930 وما يقال عن المواد الأولية، يقال عن المنتجات الزراعية والصناعية، ولكن يقابل هذا الفيض من الخيرات حالة أخرى بين سكان الأرض: فقد ذكرنا في البحث السابق كيف ازداد عدد سكان المستعمرات. وكيف أصبح ملايين من الناس يسكنون جهات لم تكن مسكونة ومأهولة. وهذا القسم من الإنسانية امتاز بشيء واحد اسمه (الحرمان)، أي أن الفقر والفاقة، وأحياناً المجاعات والأوبئة اختصت بأجزاء من الإنسانية قد تقرب من نصف المجموع الآخر أن لم تزد عليه
ففي الوقت الذي كانت فيه ثروات العالم وخاماته تنتقل بانتظام على البواخر بين القارات، وفي الوقت الذي وصل فيه استغلال الشعوب الآسيوية والأفريقية بل والأمريكية إلى درجة لم تعرف من قبل - كان سكان هذه المناطق أو غالبيتهم لا يصيبهم سوى النزر اليسير أن لم يكن أقل من اليسير من الفيض الذي تخرجه أراضى بلادهم، فهو يصدق فيهم أكثر من غيرهم قول الشاعر العربي:
كالعبس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
ولعل أكبر المتناقضات التي عرفتها البشرية منذ خلق الإنسان على الأرض، والتي لم يعرفها الحيوان في حياته قط هو ما يأتي: إذا كان سكان العالم يقدرون بـ 2000 مليون نسمة، وإذا أخذنا معدل المستوى في بلد آسيوي أو أفريقي، فلا أقل من نصف العدد من هم ونساؤهم وأطفالهم في حاجة للكساء، بل يمكن نصفهم عراة، ففي الوقت الذي فيه نصف، أو قل ربع الإنسانية عار، كانت ملايين الأطنان أو آلاف الأطنان من القطن الخام يحرق في مزارعه. لماذا يحرق؟ من أجل نصف ريال يرتفع به سعر القطن ليدخل في جيوب المنتجين!
هذه إحدى المتناقضات، فلننظر إلى مثل آخر:
لا تزال مشكلة الغذاء تشغل العالم، وهي مشكلة مخيفة إذا علمنا أن عدد سكان مصر في القرون الوسطى هبط إلى النصف وأحياناً إلى الثلث من أثر هذه المجاعات. أما قلة الغذاء ونقصه، فيعرفها أهل مصر أكثر من غيرهم، فإذا كانت مشكلة الغذاء نعرفها هنا، فما رأيك بملايين من بني آدم في بعض الجهات لا يلقون سوى وجبة واحدة وضئيلة في اليوم الواحد، أي مكونة من قليل من الأرز والماء، ففي عالم فيه الإنسان محتاج لشيء من العطف والرحمة، أو لقليل من الوعي الإنساني ولشيء من التنظيم والصبر. نعم في هذا القرن العشرين كانت ملايين من المواد الغذائية التي تصلح لتكون غذاء. أي نعم كانت تحرق في القاطرات أو البواخر. . . لماذا؟ لكي لا يخسر زارعوها ربع ريال فقط!
هذه صورة الدنيا وهي لعمر الحق سوداء، حينما قامت الدعوة لمؤتمر اقتصادي عالم يلتئم في مدينة لندرة، ولم يكن اجتماعهم إلا بعد أن توالت النكبات، وتفاقمت الأزمات، وشعر الرأسماليون بنقص في الأموال، وضعف في الأنفس، وإفلاس في بيوتاتهم، فقرروا أن يتجمعوا وإن يتداولوا وإن يتحادثوا، وإن يراجعوا الأرقام ويقارنوا الإحصائيات، وكان معهم الخبراء وغير الخبراء، وما التأم شملهم حتى أخذ كل فريق يكيل الاتهام لغيره ويحمل الأخطاء على كتف سواه!
وتعود بي الذاكرة لبعض ما وعته نفسي: فأنى برغم جهلي بالتفاصيل المملة وعدم أيماني بعبقرية الاقتصاديين والخبراء، وعيت ما ذكره بعض غلاة الرجعية في إذاعتهم: أن بقاء روسيا تحمل وحدها سبع المعمورة قد أخل بالتوازن الاقتصادي العالمي، فهي السبب الأول للازمة؛ وقال آخرون: أن علاج الأزمة هو رفع مستوى الجماعات البشرية وإعطاؤها الفرص لكي تبيع وتشتري، وكثرت المقترحات وتفرعت اللجان، ثم توزعت الأعمال، فكان المؤتمر كسوق قامت ثم انفضت، فقط لم يربح أحد فيها، وخسر فيها العالم كل شيء، إذ خرج وهو مريض وقد اشتد مرضه، وتسابقت الدول إلى التسليح، لأن مؤتمر لندرة لم يحل مشكلة المواد الأولية، فبقيت المواد الأولية وأصحاب المواد الأولية، أي سكان البلاد الأصليين، على الحالة التي وجدهم المؤتمر عليها، أي ينتظرون تنفيذ أحكام الأقدار فيهم!
أما الأقدار، فكانت في شغل عنهم، لأن الأقدار تحالف القوانين الطبيعية الملازمة لطبيعة الأشياء. نعم كانت في شغل عن تقارير المندوبين والخبراء، كان عملها بسيطا يتلخص في نتيجة منطقية: أن الفريق الغالب في عالم الاقتصاد هو الذي يملك من القوى الإنشائية والدعامات الاقتصادية أكثر من غيره، وهو الذي يزحزح الضعيف من طريقه وينتهي بأن يجذبه إليه، فإما أن يندمج فيه أو يزداد ضعفا على ضعف
وكان أن خطوات التكتل التي بدأت بعد الحرب قد أخذت تسير بسرعة عقب مؤتمر لندرة، فهولندة، والبرتغال أخذت كل منهما تتجه نحو المجموعة التي تلائمها، وجمهوريات أمريكا الجنوبية أخذت تلتئم في النظام الاقتصادي للولايات المتحدة. وفي وسط هذا التنازع السلمي أخذت تظهر على العالم قوات متكتلة تختلف قوة وضعفا وهي:
1 - بريطانيا العظمى وإمبراطوريتها وأصدقاؤها وحلفاؤها
2 - الولايات المتحدة وممتلكاتها وأصدقاؤها وحلفاؤها
3 - روسيا في أوروبا وآسيا
4 - فرنسا وإمبراطوريتها تحاول أن تستكفي
5 - اليابان والشرق الأقصى
6 - إيطاليا وإمبراطوريتها في المهد
أما بقية العالم، فاستمر حائرا ينظر إلى المستقبل بأساليب القرن الماضي. ألمانيا تحلم بمستعمراتها، وأسبانيا تؤمل في أيام الإرمادا، وإيطاليا تتحدث عن الإمبراطورية الرومانية، والتشك واليوجوسلاف يحاربون مشروع عودة النمسا والمجر، وكل بما لديهم فرحون، حتى دهمتهم الحرب العالمية الثانية، وسنرى ما كان من أمرها أن شاء الله.
(يتبع)
أحمد رمزي القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان