مجلة الرسالة/العدد 637/القصص

مجلة الرسالة/العدد 637/القصص

ملاحظات: الحذاء Сапоги هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1885. نشرت هذه الترجمة في العدد 637 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ: 17 سبتمبر 1945



الحذاء

لأنطون تشيكوف

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

قال (مركين) - ضابط البيان - وهو رجل ذو وجه حليق شاهب ساهم، وأنف ملوث بالسعوط، وأذنين محشوتين بالقطن. . . صاح في صوت أصحل وهو يغادر غرفته بالخان، ويطأ أرض البهو:

- (سميون. . . أيها الساقي). ولو أن إنساناً لمح وجهه الممتقع في تلك اللحظة لظن أن نظره وقع على شبح يتراقص في غرفته. وما كاد يبصر الخادم يخف مقبلا عليه حتى قال في هيعة وفزع:

- (سميون. . . بالله ماذا تعني بذلك؟ إني رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن، وقد جعلتني أسير حافي القدمين. . . أين حذائي؟ ولم لم تأت به؟!)

فولج سميون غرفة مركين، وراح يحملق في المكان الذي اعتاد أن يترك فيه الحذاء بعد تنظيفه. . . ثم جعل أنامله تعبث بشعر رأسه: فقد اختفى الحذاء! وأخذ يردد في صوت خافت:

- (كيف تأتي لتلك الأشياء اللعينة أن تختفي؟! يخيل إلي أني نظفتها في المساء، ووضعتها هنا. . . هه! إني لأصرح أني نهلت بعض الخمر البارحة، فلعلني تركت الحذاء في غرفة أخرى، وربما كان في غرفة (أفاناسي بجورتش). لقد كان أمامي كومة من الأحذية. . . تباً للشيطان الذي يزين للإنسان الشرب، ثم يجعله بعد ذلك يفعل ما ليس يدري. . . سيدي، لابد أن حذاءك في غرفة السيدة التي تليك. . . الممثلة)

(والآن تدفعني (سيادتك) إلى إقلاق سيده من أجلك. . . أأوقظ سيدة فاضلة لغباوتك وحماقتك؟). ودنى مركين من باب الغرفة التالية وهو يتنهد ويسعل. . . ثم طرق الباب في حذر. . . وبعد هنيهة سمع صوت امرأة تقول (من. . . هناك؟) فراح مركين يقول في توسل، وقد أتخذ في وقفته هيئة الفارس الذي يخاطب سيده أرقى منه طبقة (معذرة لإقلاقك يا سيدتي. . . ولكني رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن، وقد أشار علي الطبيب بتدفئة قدمي. . . هذا إلا أنه علي أن أذهب في الحال لضبط بيان قرينة الجنرال (شفليتسين) ولا يمكنني الذهاب حافي القدمين).

- (ولكن ماذا تبغي؟ أي بيان؟!).

- (ليس بيان يا سيدتي. . . إنما أشير إلى حذائي. فإن سميون - ذلك الخادم الغبي - نظفه وتركه خطأ في غرفتك. فأشفقي على ضعفي وناوليني حذائي) ثم تلا ذلك صوت خفيف، ثم نهوض من الفراش ووطئ نعال، وبعد ذلك انفرج الباب قليلا، وألقت يد نسائية مكتظة زوجاً من الأحذية إلى مركين. فشكرها (ضابط البيان) وانطلق إلى غرفته. ولكنه ما لبث أن دمدم وهو يدخل قدميه في الحذاء: (عجباً. . . يخيل ألي أن هذا ليس بحذائي. . . ومع ذلك فكلا الحذاءين لا يصلح إلا للقدم الشمال. . . سميون ما هذا بحذائي. . . فحذائي ذو لسان أحمر. . . وليس به ثقوب. . . أما هذا فخال من الألسنة الحمراء كما أنه ملآن بالثقوب!) فالتقط سميون الحذاء، وأخذ يقلبه في كفيه أمام عينيه. . . ثم لم يلبث أن قطب ما بين حاجبيه وقال في تذمر هذا حذاء (بافل ألكسندرتش)

- (أي بافل الكسندريسن؟!).

- (الممثل. . . إنه يحضر هنا كل ثلاثاء. . . لابد أنه تحذى حذاءك بدلا من حذائه. . . وأحسب أني وضعت حذاء كل منكما في غرفة الآخر).

- (وعلي بعد ذلك أن أغيره!. أليس هذا ما ترمي إليه. . . أيها الأبله؟). فقال سميون في سخط (أصبت. . . أمضي واسترد حذاءك إذاً. . . ترى أين يكون الآن؟ لقد خرج منذ حوالي ساعة. . . ومن العبث أن نبحث عن. . .). فقال مركين (ألا تدري أين يسكن؟!).

- (ومن الذي يمكنه أن يدلك على ذلك؟ أنه يأتي إلى هنا كل ثلاثاء. ولست أدري أين يقطن. . . أنه يمكث هنا ليلة واحدة. . . فما من مندوحة سوى أن تنتظر حتى الثلاثاء القادم). فتحوب مركين قائلا (هنا أتقول هذا أيها الوحش؟!!. ما عساي أصنع الآن وقد أزف الموعد الذي يجب أن أكون فيه بحضرة قرينة الجنرال (شفليتسين)؟. أفقهت أيها الحقير؟. آه تكاد قدماي أن تتجمدا. . .).

- (يمكنك أن تستعيد حذاءك قبل ذلك. . . احتذي هذا الزوج. وامض به حتى المساء، ثم اذهب إلى المسرح. . . وأسأل عن الممثل (بليستوف) وإذا لم تسارع بالمضي إلى المسرح فعليك باللبث حتى الثلاثاء القادم أنه لا يحضر إلا كل ثلاثاء. . .) فالتقط مركين الحذاء وأخذ يتساءل وهو ينظر إليه باشمئزاز ونفور (ولكن كيف تعلل أن كلا الحذاءين لا يصلح إلا للقدم الشمال). فقال سميون وقد نفذ صبره:

(أي قدر قذف بذلك الممثل؟ أنه لأفقر خلق الله قاطبة. . . وقد قال لي (أين الممثل الذي يمكنه أن يبتاع حذاء) فقلت له (ولكن من العار يا بافل الكسندرتش أن تحتذي ما لغيرك) فراح يصيح (أمسك لسانك ولا تجعلن أبطش بك. . . ألا تدري أني أقوم بتمثيل الأمراء والعظماء). ثم انصرف في حذائك. . . إنها لعمري شرذمة من الطغام. . . أولئك الممثلين. . . آه لو أني الحاكم بأمره أو أي شخص ذو سلطة (لجمعت هؤلاء الممثلين. . . وزججت بهم في أعماق السجون. . .).

وبين الزفير والأنين. . . التقط مركين الحذاءين الشماليين ولبسهما. . . ونهض وهو مقطب الجبين، كاسف البال يعرج في خطوته إلى دار الجنرال (شفليتسين). . . وأمضى يومه جله في المدينة ينتقل في أنحائها لضبط بيان كل من يود. وكان يتوهم أن الجميع يتطلعون إلى حذائه الذي عفا عليه الزمان. بلى كعبه، وذهب لونه. . . وقد أصيبت قدماه بالورم من جراء ما كان يعانيه من آلام شتى قاسية. . .

وما كاد المساء يشعل الكون، حتى أسرع مركين إلى المسرح حيث كانت تمثل رواية (الطائر الأزرق). وكان التمثيل يشرف على النهاية. . . فاتصل مركين بعازف الناي في الجوقة الموسيقية - وكانت بينهما صداقة - ليعينه على التسلل إلى ما خلف المناظر المسرحية. ثم لم يلبث أن دلف إلى (غرفة ثياب الممثلين) حيث وجد بعضهم بغير أرديته، والبعض يدهن وجهه، والباقي ينفث دخان لفائفه. . .

ووقف الطائر (الأزرق) يعرض على (الملك بوبش) غدارة في يده ويقول:

- (يجمل بك أن تشتريها، فقد ابتعتها من (كيرسك) كرهينة بثمانية (روبلات)، ولكني سوف أدعها لك نظير ست فقط. . . إنها رائعة بلا شك).

- (حذار. . . فهي محشوة بالبارود كما تعلم) اقترب مركين في تؤدة وقال:

- (هل لي أن أتشرف بمحادثة السيد بليستنوف؟!) فالتفت إليه (الطائر الأزرق) وقال: - (أنا ذا! ماذا تبغي؟!)

فأخذ ضابط البيان يقول في صوت شاع فيه التوسل:

- (معذرة لإزعاجك يا سيدي، ولكن صدقني، فأنا رجل منهوك مصاب بالنقرس المزمن، وقد أشار علي الطبيب بتدفئة قدمي)

- (ولكن أين ما تريد!).

فقال مركين يخاطب (الطائر الأزرق):

- (ألست تذكر!. . . أنك أمضيت الليلة البارحة في خان (بهتياف) في الغرفة رقم 64). . . فانفجر (الملك بويش) صائحاً في غضب كالح: (هه! ماذا تقول؟) إن زوجتي في الغرفة 64 فابتسم مركين: (زوجتك يا سيدي، هذا يسرني، إن زوجتك طيبة قد أشفقت على ضعفي، وناولتني حذاء ذلك الرجل الدمث، وبعد أن مضي ذلك الرجل). وأشار مركين إلى بليتنوف: (تفقدت حذائي، ولم أعثر عليه، فاستدعيت الساقي وسألته عن الحذاء، فأجابني أنه تركه في الغرفة المجاورة خطا على أثر ما جرعه من الخمر. تركه في غرفتك 64 يا سيدي). ثم التفت مركين موجهاً حديثه إلى بليستنوف: (وعندما خلفت زوجة هذا ذلك الرجل الطيب لبست حذائي). فصاح بليستنوف وقد اجتاحه الغضب: (عم تتحدث؟ أأتيت هنا لكي تخيل علي وتتهمني بافتراء باطل لا ظل عليه من الحقيقة؟)

- (لا. . . لا. . . يا سيدي! حاش الله، لقد أسأت فهمي، لست أتحدث عن شئ سوى الأحذية. . . ألم تمض ليلتك في الغرفة 64؟ خبرني ألم تفعل ذلك؟)

- (متى؟). فقال مركين: (ليلة أمس)

- (ما الذي جعل ذلك يدور بخلدك؟ أأبصرتني هناك؟) فجلس مركين وأخذ ينزع الحذاء من قدمه، ثم قال في اضطراب وتعلثم:

- (لا يا سيدي. . . لم أرك هناك، ولكن زوجة هذا السيد الفاضل ألقت إلي بحذائك بدلا من حذائي)

- (ما الذي يثبت زعمك هذا وافتراءك؟ لن أقول شيئاً عن نفسي، ولكنك تمس عفاف سيدة شريفة بالقذف والتجريح وفي حضرة زوجها أيضاً)

وارتفع من خلف المناظر المسرحية عجيج وضجيج. . . لقد أهوى (الملك بويش) الزوج الجريح في شرفه، وقد علا سحنته اللون القرمزي، بقبضته على المنضدة في وقذ بلغ من شدته أن ممثلتين في (غرفة ثياب الممثلات) سقطتا في غيبوبة. . . صاح الطائر الأزرق:

- (أو صدقته؟ أو صدقت ذلك الصعلوك الحقير؟! أتود أن البسط به الأرض؟ أترغب في أن أصرعه أمامك كالكلب؟ آه. . . سأجعل جسده كشرائح اللحم. . . سأهشم رأسه!)

راح كل من كان يسير في منتزه المدينة ذلك المساء بالقرب من (المسرح الصيفي) يذكر كيف أنه قبيل الفصل الرابع شاهد رجلا حافي القدمين، شاحب لون الوجه، تختلج عيناه بالرعب والهلع، وهو يهرول خارجاً من المسرح منطلقاً، يركض في الطريق الرئيسي، وكان في أثره شخص آخر مرتدياً ملابس الطائر الأزرق يحمل في يده غدار. . . ولم ير أحد ما حدث بعد ذلك

ولكن شاع بعد فترة من الزمن أن مركين (ضابط البيان) التزم فراشه لا يغادره مدة أسبوعين بعد أن قابل بلستنوف في المسرح الصيفي. . . وكذلك أضاف إلى عبارته المعهودة: (أنا رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن). جملة جديدة: (كما أني جريح منخوب الفؤاد). . .

(طنطا)

مصطفى جميل مرسي