مجلة الرسالة/العدد 639/القصص

مجلة الرسالة/العدد 639/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1945



دوامة الحياة

للكاتب الأمريكي الكبير ا. هنري

بقلم الأستاذ وديع فلسطين

عند باب مكتبه جلس (بناجا ويدب)، القاضي، يدخن غليونه الضخم ويرسل نظراته إلى جبال كمبرلند التي كساها ظلام الأصيل لونا أغبر يميل إلى الزرقة، ومن الطريق العام المنحدر بالمقاطعة، جاءت دجاجة رقطاء تختال وتصيح صياحا أحمق.

وانبعث من أعلى الطريق صوت صريف عجلات، وامتلأ الجو بغبار حجب ما وراءه من مشاهد الطبيعة ومجاليها، ثم بدت مركبة يجرها بغل تحمل (رانسي بلبرو) وزوجته. وقفت المركبة بدار القاضي، فترجل عنها الرجل وزوجه. وكان رانسي أهيف القد، شاحب البشرة داكنها، ذهبي الشعر، يبلغ طول قامته ستة أقدام، تجلله مهابة سكان الجبال فتضفي عليه كساء شبيهاً بحلة من حلل الحرب المدرعة. وكانت المرأة ساذجة ضجرة، تخامرها رغبات غامضة لا تنفك تضايقها ولا تفتأ تقض مضجها. وبدا من خلال تصرفاتها نوع من الاحتجاج الطفيف على الشباب الزائف الذي تفطن إلى فقدانه وبسرعة دس القاضي قدميه في نعليه ليزداد وقاراً؛ ثم تحرك ليفسح لهما الطريق. وقالت المرأة بصوت كصوت الريح حينما تداعب فروع الأشجار: (نريد الطلاق). ثم رمقت رانسي بنظرة فاحصة لتتبين هل لاحظ في تصريحها هذا عيباً أو غموضاً أو مراوغة أو تحيزاً أو مشايعة لنفسها فأومأ رانسي برأسه مؤكداً وردد: (طلاق. . . لم نعد نستطيع أن نعيش معاً، الحياة في الجبال مقفرة وتقتضي أن يعني كل من الرجال والمرأة بشؤونهما. ولكن متى شرعت المرأة تموء كالقط الوحشي، وتنعق كالبومة النمس في كوخ زوجها، فلن يجد الرجل سبباً يحمله على معاشرتها).

وقالت المرأة دون اكتراث: (حين لا يعبأ الرجل بنفسه ويقضي وقته في شرب الخمور واحتساء الويسكي ومعاشرة مقطريها، ويعني فضلا عن ذلك بعدد من كلاب الصيد. . .). فقال رانسي: (حين أن تدأب المرأة على أن تبعثر أغطية الطعام، وعلى صب الماء على أحسن كلب في كمبرلند، وعلى إعادة طهي مأكولات زوجها، وحمله على السهر ليلا متهمة إياه بتهم شتى. . . . .!). (حين يدأب على تبديد دخله والتمتع بسمعة رديئة في الجبال والسهر ليلا. . .)، فانصرف القاضي إلى مهامه. وقدم مقعده الوحيد وكرسي مطبخ إلى زائريه. ثم فتح كتاب الأحوال الشخصية على المنضدة وألقى نظرة على محتوياته ومسح منظاره وأزاح المحبرة. ثم قال: (القوانين والأحوال الشخصية لا تقول شيئاً في شأن موضوع الطلاق. هذا فيما يتعلق باختصاصات هذه المحكمة. ولكن العدالة والدستور والقانون الذهبي تنطوي جميعها على مساومة من ناحية واحدة فقط. فبدهي أن القاضي الذي يستطيع أن يزوج رجلا وامرأة يستطيع أن يطلقهما، وهذا المكتب هنا سيصدر شهادة الطلاق تقرها المحكمة العليا). وأخرج رانسي بلبرو من جيب سرواله علبة طباق صغيرة ونثر منها ورقة من فئة الخمسين دولارات على المنضدة وقال: (لقد بعت جلد حيوان وفراء ثعلبين بهذا الثمن، وهو كل ما أملك).

فقال القاضي: (إن الرسوم العادية للطلاق في هذه المحكمة هي خمسة دولارات). وتناول الورقة المالية ودسها في جيب الصديري المنسوج في المنزل، وتصنع عدم المبالاة. وكتب شهادة الطلاق على نصف ورقة فولسكاب ثم أعاد كتابتها على النصف الآخر، وبلغ في هذا جهد جسمياً كبيراً وتفكيراً ذهنياً مبرحاً. وأنصت كل من رانسي بلبرو وزوجته إلى تلاوته للوثيقة التي سوف تمنحها الحرية: قال: (ليعلم الناس جميعاً بمقتضى هذه الشهادة أن رانسي بلبرو وزوجته أريلا بلبرو حضرا اليوم أليّ شخصياً وتعهدا ابتداء من اليوم بأنهما لن يحيا أو يحترما أو يطيع أحدهما الآخر سواء أكان ذلك للخير أم للشر. وأقر بأنهما يتمتعان بجسم وعقل سليمين وانهما قبلا شروط الطلاق حسب نظام الولاية ووقارها. فلا تعثرا وليعينكما الرب. . . الإمضاء. . . بناجا ويدب القاضي لمقاطعة بيد مونت بولاية تنيسي ومن أهلها)

وهم القاضي بتسليم إحدى الوثيقتين إلى رانسي حينما ارتفع صوت أريلا. فنظر كل من الرجلين إليها وفوجئا بما لم يكونا يتوقعان منها. فقد قالت: (مهلا يا سيدي القاضي، لا تسلمه هذه الورقة. لم نسو كل شئ بعد. ينبغي أن أنال حقوقي أولا. يجب أن أحصل على نفقتي أولا، ليس هذه هي طريقة طلاق رجل من امرأته دون أن يترك لها ما لا تعيش به.

إنني سأذهب إلى أخي (إند) في جبل هوجباك، وأريد أن أشتري زوج حذاء وبعض الأشياء الأخرى، وإذا كان رانسي يقدر على طلاقي، فدعه يقضي لي نفقتي). فصعق رانسي بلبرو وتملكته الحيرة ولم يتكلم. فلم يشر من قبل إلى موضوع النفقة. ومن عادة النساء أن يثرن مسائل عجيبة غير مدروسة. وأحس القاضي بناجا ويدب أن المسألة تحتاج إلى قرار قضائي. والتزم الطرفان الصمت في موضوع لنفقة، غير أن قدمي المرأة كانتا حافيتين والطريق في جبل هوجباك صخر وعر. فسأل القاضي في أسلوب رسمي: (يا أريلا بلرو - كم يعوزك من النفقة في القضية المنظورة أمام المحكمة؟).

فأجابت: (أريد أن أبتاع حذاء، فيلزمني نحو خمسة دولارات ليست هذه نفقة كبيرة، ولكني أعتقد أنها تكفي لأتوجه إلى منزل أخي (إيد). . .). فقال القاضي: (المبلغ معقول يا رانسي بليرو، المحكمة تأمرك أن تؤدي إلى المدعية خمسة دولارات قبل أن يصدر قرار الطلاق). فتنفس رانسي بصعوبة وقال: (ليس لدي مال. . . وقد أديت إليك ما كان معي). فحدق القاضي من وراء منظاره، وقال بعنف: (وإلا فأنت تزدري بالمحكمة).

واستأنف الزوج قائلا: (أعتقد أنه يمكنك أن تقرضني المبلغ وسأرده إليك غداً بأي كيفية. . . فإني لم أتوقع قط أني سأطالب بنفقة). فقال القاضي بناجا ويدب: (أجلت القضية إلى الغد حينما تأتيان أليّ معاً وتمتثلان لأوامر المحكمة. وعقب ذلك سنصدر الطلاق). ثم جلس إلى جانب الباب وأخذ يحل رباط حذائه. . .

فقال رانسي: (يمكننا أن نذهب إلى منزل (العم ريا) لنقضي الليل فيه) ثم ركب المركبة من ناحية وركبتها أريلا من الناحية الأخرى. وشد اللجام فتحرك البغل البني اللون ببطء ثم أخذت العربة تنهب الأرض حتى اختفت وسط الغبار المتصاعد.

وأشعل القاضي بناجا ويدب غليونه العتيق. واشترى جريدته الأسبوعية، فقد أوشك النهار أن ينقضي، وشرع يقرؤها حتى طمس الظلام سطورها. ثم أشعل قنديله على المنضدة، واخذ يقرأ حتى طلع القمر مؤذناً بحلول موعد العشاء. وكان يسكن كوخه الخشبي في المنحدر على مقربة من الغابة. وفي طريقه إلى منزله اجتاز منطقة تظللها أشجار الغار المتشابكة. وإذ ذاك برز من بين الأشجار شبح ملثم وسدد إلى صدره غداره، وهو يقول، (أريد أموالك، لا أريد كلاماً. أني عصبي وإصبعي على زناد الغدارة. . .).

فقال القاضي متلعثما: (ليس معي سوى خمسة دولارات). ثم أخرجهما من جيب الصديري. وصدر الأمر إليه: (إطوها وضعها في فوهة الغدارة). وكانت الورقة المالية جديدة رقيقة. غير أن الأصابع المرتخية المرتعشة وجدت بعض العناء في طيها ووضعها في فوهة الغدارة). فلما تم هذا مال اللص: (الآن تستطيع أن تمضي). فسار القاضي مهرولا، لا يلوي على شيء.

وفي اليوم التالي جاء البغل البني الصغير يجر المركبة ووقف بباب المكتب وكان القاضي بناجا ويدب منتعلا حذاءه، إذ كان يتوقع زيارة. وترحل رانسي بلبرو وزوجه، وقدم إليها في حضرة القاضي ورقة مالية من فئة الخمسة دولارات. فحدقت عينا القاضي في الورقة، وكانت مطوية كما لو كانت منتزعة من فوهة غدارة. غير أن القاضي التزم الصمت لأنه ليس ثمة ما يمنع من أن تطوى أي ورقة مالية. وسلم كلا منهما نسخة من شهادة الطلاق. ووقف كل منهما صامتاً يطوي قسيمة الحرية على مهل. وحدجت المرأة رانسي بنظرة خجولة مفعمة بالعواطف، وقالت له: (أعتقد أنك ستعود إلى الكوخ بالمركبة. ستجد الخبر في العلبة الصفيح الموضوعة على الرف. ووضعت الدهن في إناء الغلي حتى لا تصل إليه الكلاب. لا تنس أن تملأ ساعة الحائط الليلة).

وأستفهمها رانسي في شئ من الإهمال: (وأنت، هل تذهبين! إلى منزل أخيك (إيد)؟).

- كنت أنوي أن اذهب إليه قبل حلول المساء. لن أقول، لأني سأزعج أهل أخي، وأحملهم على الترحيب بمقدمي، ولست أعرف مكاناً آخر أقصده. على كل حال من واجبه أن يرحب بي أني ماضية. هل أقرئك السلام يا رانسي هذا إذا لم تمانع؟).

فأجاب رانسي بلهجة الرجل الذي ذهب ضحية: (ولم لا أقرئك السلام، إلا إذا كنت تواقة إلى الفرار مني دون انتظار تحية ما). فالتزمت أريلا الصمت. وطوت الورقة المالية من فئة الخمسة دولارات وقسيمة الطلاق ووضعتها في صدر ردائها. وراقب بناجا ويدب الورقة المالية وهي تختفي بعينين حزينتين تطلان من وراء زجاج منظاره. وهنا قالت أريلا: (ستكون وحيداً الليلة في الكوخ يا رانسي). وحدق رانسي بلبرو بعينيه في الأفق إلى جبال كمبرلند، فرآها وقد كساها ضوء الشمس لوناً أزرق فاتحاً؛ ولم ينظر إلى أريلا وقال: (لا ريب في أني سأكون وحيداً، ولكن ما العمل وقد ركب الجنون عقل البعير وطلب الطلاق؟ لا سبيل إلى حمل البعير على البقاء). فقالت أريلا وعيناها إلى كرسي المطبخ: (إنما طلب الطلاق غيري. وليس هناك من لا يرغب في البقاء) - (لم يقل ذلك أحد قط).

- (أعتقد أنه يحسن أن أتأهب لزيارة أخي إيد).

- (ولكن أحداً لا يستطيع أن يملأ ساعة الحائط؟).

- (هل تريدني أن أعود معك في المركبة لأملأ الساعة يا رانسي؟). وكانت ملامح رجل الجبال برهاناً ضد عاطفته. غير أنه مد يداً ضخمة إلى أريلا وقبض بها على يدها الرقيقة الداكنة. فانفرجت أسارير وجهها العبوس مرة ثانية.

وقال رانسي: (لن تعود الكلاب إلى إزعاجك. فقد أدركت أني كنت سافلا دنيئاً. ستملئين تلك الساعة يا أريلا).

فهمست له: (إن قلبي يدق في هذا الكوخ يا رانسي. هيا معك. لن أعود إلى جنوني ثانية. دعنا نرحل يا رانسي حتى نبلغ البيت قبل مغيب الشمس). وتدخل بناجا ويدب القاضي لما رآهما يتأهبان للرحيل وقد نسيا وجوده فقال: (باسم ولاية تنيسي أمنعكما جميعاً من العبث بقوانينها ونظمها. إن هذه المحكمة على استعداد كبير، بل ويسرها أن ترى سحابات الخصام وسوء التفاهم وقد انقشعت من قلبين شابين يتبادلان الحب، ولكن من واجب المحكمة أن تحرص على الأخلاق وعلى الاستقامة في الولاية. وتذكركما المحكمة أنكما لم تعودا رجلا وزوجته، وإنما أنتما مطلقين بقسيمة رسمية، فلستما إذن أهلا للتمتع بمزايا الشركة الزوجية). ومضى القاضي فقال: (غير أن المحكمة على استعداد لأن تلغي القيود التي فرضتها قسيمة الطلاق. فالمحكمة على استعداد أن تعترف بمراسيم الزواج الشريفة السامية التي يبغيانها. ورسوم مراسيم الزواج قدرها في هذه الحالة خمسة دولارات.

وتبينت أريلا في حديثه وميضاً من الأمل. فأسرعت بوضع يدها في صدر ثوبها وألقت بالورقة المالية على منضدة القاضي. وتلون خداها الشاحبان وقد وضعت يدها في يد رانسي بنصتان لحديث اللقيا. ثم ساعدها رانسي على ارتقاء المركبة، وركب جوارها، ودار البغل البني الصغير مرة أخرى، واتخذ وجهته شطر الجبال وقد التقت كفاهما وتعانقتا. وعاد القاضي بناجا ويدب إلى الجلوس عند باب مكتبه، وخلع نعليه. ثم تناول الورقة المالية مرة أخرى ودسها في جيب الصديري. ودخن غليونه العتيد مرة أخرى.

وللمرة الثانية جاءت من الطريق العام المنحدر (بالمقاطعة) دجاجة رقطاء تختال وتصيح صياحاً أحمق.

وديع فلسطين