مجلة الرسالة/العدد 639/رسالة إلى (الرسالة)

مجلة الرسالة/العدد 639/رسالة إلى (الرسالة)

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1945


للأستاذ عباس محمود العقاد

في رحلتي إلى السودان، سمعت حديث (الرسالة) في أول مكان طرقته من السودان، وسمعته في الساعة الأولى بعد الفراغ من مراسيم الجوازات وتسجيلات الوصول

ثم لبثت أسمعه في أندية البلاد كلما دار الكلام على الأدب والأدباء، ولا سيما الأدب العربي وأدبائه المعاصرين

ولم تتغير العادة في فلسطين

فقد سمعت حديث (الرسالة) في كل ناد من أندية الأدب، وحملت إليها رسالة علنية في أحفل جلسة من الجلسات الأدبية شهدتها في مدينة يافا، وهي مركز الحركة الصحفية والكتابية في شواطئ أرض الميعاد

كانت الدعوة باسم اتحاد الأندية في المدينة، وهي تتسع منها لسبعة على ما أعلم، تختلف أغراضها بين الثقافة والرياضة البدنية ومطالب الإصلاح والاجتماع

وكانت الدعوة إلى سهرة في الهواء الطلق بفناء النادي الأرثوذكسي، وهو على ما سمعت أوسع فناء للأندية هناك

واتفقنا على أن تدور السهرة على المساجلة بالأسئلة والأجوبة في الموضوعات التي يعنى بها الأعضاء، وكلهم من الشبان المتعلمين أو الشابات المتعلمات.

ويظهر أن الأديب الموكل بأمانة الاتحاد قد بسط على الأسئلة شيئاً من الرقابة الفكرية التي تخليها من كل شائك أو محرج من موضوعات الجدل والخلاف. فمرت الأسئلة الأولى بين سؤال لي عن أحب كتبي أليّ، أو سؤال عن الفرق بين فلسطين كما رأيتها في زيارتي الأولى، كما أراها في زيارتي الآن، أو أسئلة متعددة من هذا القبيل

ثم انتهت الأسئلة المكتوبة وبدأنا في الأسئلة المرتجلة، فما شككت في أنني سأسمع على الأقل سؤالا عن الحب وسؤالا عن المنافسات الأدبية في الأقطار العربية، لأن الشبان كانوا أصحاب الكثرة الغالبة على الاجتماع

فأما السؤال عن الحب، فقد كان محرجاً بعض الإحراج، لأنه كان يتناول (الحب العذري) ورأيي فيه، وكان في الجمع سيدات وآنسات، وكان فيه شيوخ من رجال الدين، لهم وقارهم المرعي في كل مكان

قال السائل: يعتقد صديقك المازني أن الحب العذري غير موجود وغير معقول، فما اعتقادك أنت في هذا الموضوع؟

فأردت التخلص وأحلت السائل إلى واجب الصداقة الذي يأبى عليّ أن أعرض لرأي أخينا المازني بتفنيد أو تجريح! وقلت له في عجلة ولهوجة: إن الحب الجنسي ينتهي إلى غاية جنسية، وأما ما عدا ذلك من ضروب الحب فليس لها غاية غير الصداقة والولاء

ثم جاء دور المنافسات الأدبية في البلاد العربية، فكان لها نصيب في أكثر من سؤال واحد، وكان أهم الأسئلة فيها رسالة إلى (الرسالة)، أو عتباً على المجلات المصرية - وفي مقدمتها (الرسالة) - لأنها تضن بالنشر والتنويه على القصائد والفصول التي تأتيها من أدباء فلسطين

وكان صاحب السؤال خطابياً في لهجته، عنترياً في حماسته، مؤمناً بصوابه في عتبه، ولعله كان ينطق بألسنة غيره ممن يعتبون مثل عتبه، ويؤمنون مثل إيمانه

فأردت أن أصحح هذا الوهم الذي يغلو فيه بعض الدعاة إلى التفرقة من أذناب الدول الأجنبية في الأقطار العربية، وقلت ما أعتقد في هذا الصدد، وهو أن الديار المصرية - بقرائها وأدبائها ومجلاتها - أبعد الناس عن الأثرة العنصرية في مسائل الثقافة، أو مسائل المفاضلة بين الأدباء والمؤلفين، وذكرت للسامعين شاهداً من الشواهد التي يلمسونها في فلسطين، وهو تفضيل (مفكرات دجاجة) للأديب الفلسطيني الدكتور إسحاق الحسيني على سائر الأجزاء التي ظهرت من سلسلة (اقرأ) لكثير من الكتاب المصريين، وهي لم تنل هذا التفضيل بأصوات القراء من أهل فلسطين نفسها، ولا بأصوات القراء من أبناء البلدان العربية الأخرى، وهي تربي في عدتها على كل ماعداها من الأصوات

ثم قلت: إن الديار المصرية هي الميدان الذي اشتهرت فيه مؤلفات اليازجي وصروف وزيدان والشدياق والحداد وأديب إسحاق والمعلوف وغيرهم من فضلاء سوريا ولبنان والعراق، وأنها هي الميدان الذي طبعت فيه - أو راجت فيه - مؤلفات الريحاني ونعيمة وجبران، وسائر كتاب العربية في المهاجر الأمريكية. فليس أسرع من المصريين إلى تقدير الأدب العربي الذي يصل إلى أيديهم وأسماعهم، وليس عليهم من عتب إذا قامت العوائق دون وصول هذا الأدب إليهم، فقد يكون المرجع في ذلك إلى نظام النشر والتوزيع

ثم أردت القضاء على مظنة الأثرة العنصرية فقلت: وبعد هذا ينبغي أن نذكر أن نصيب الأدباء المصريين والأدباء السوريين من تنويه الصحافة العربية في مصر سواء، وإن كثيراً من الصحف العربية في مصر يديرها أناس من السلالة السورية، فلا يتهمون في هذا الصدد بالإجحاف والمحاباة

ولاح لي أن السامعين عارفون بمكان الصدق والصواب من هذا الجواب على ذلك السؤال، ولكن صاحبنا السائل الخطابي لم يقلع عن عتبه، ولم يزل مصراً على حقه هو في نشر كل ما يبعث به إلى (الرسالة) و (الثقافة) من المنظوم والمنثور، فعاد يقول: أننا هنا لا نحفل بصحف الأخبار ولا بآراء الدهماء، ولكننا لننظر من أمثال الأستاذ الزيات والأستاذ أحمد أمين غير ما ننتظره من أصحاب تلك النشرات

وختمت الجواب واعداً بالتبليغ، مزكياً موقف (الرسالة) و (الثقافة) فيما تنشران، معتذراً من توجيه إليهما فيما لم تنشراه، لأنني لم أقراه ولم أعرف مدى حقه من النشر والإهمال. فلعلل اللوم على المرسل لا على المرسل إليه!. . . ولعل الصحيفتين المنصفتين قد أخلصتا للقراء فاستهدفتا لهذا العتب من بعض الكتاب!

وانتهت السهرة بحادثة طريفة لا تخلو من دلالتها الأدبية. فإننا خرجنا من النادي بعد ختام الأسئلة والأجوبة، فإذا بسيارة من السيارات التي وقفت على بابه ضائعة، وإذا بها سيارة الكاتب المعروف الأستاذ عيسى العيسى صاحب جريدة فلسطين وشيخ الصحافة الفلسطينية

قال الأستاذ: سأعود عليك بطلب التعويض، لأنك أنت المسؤول عن ضياع السيارة، فقد ترك السواقون سياراتهم ودخلوا النادي ليسمعوك، وكانت سيارتي مطلقة الدواليب، فوقع عليها اختيار اللصوص دون غيرها من السيارات

قلت: بل أنت المسؤول عن محبة اللصوص إياك، واختصاصك أنت بالسرقة دون سواك، فلعلهم طمعوا في مالك إكراما لأدبك، ولعلهم كافئوك بما استطاعوه على تعصبك للأدب، حتى في اختيار السواق!

ولطف الله بعض اللطف في مشكلة التعويض، كائناً من كان المطالب بالعوض، لأن الشرطة عثرت على السيارة في اليوم التالي مزوية في بعض الطريق. . . ولكن بغير إطارات

ومما يذكر لفلسطين بالحمد والرجاء أن السياسة لا تشغلها كل الشغل عن مطالب الأدب والثقافة في وقت من الأوقات

فهي اليوم لا تني تتحفز وتتطلع ولا تكف عن التدبر في مصيرها المنظور بعد الحرب العالمية: بين الصهيونية والانتداب والاستقلال والوحدة العربية، وقلما تغشى مجلساً من المجالس لا يدور فيه النقاش على مسألة من هذه المسائل، ولكنهم لا يستغرقون وقتهم في مسألة منها إلا وجدوا بين فجواتها متسعاً لحديث اللغة العربية والأدب العربي والأدباء العرب في مختلف الأقطار، وما أخالهم يبعدون الشقة بين موضوعات اللغة وموضوعات السياسة، فإنما مستقبل فلسطين مستقبل العربية على أية حال

كنا نتحدث عن تقرير المصير وحرية الاختيار في السياسة الوطنية، فقلت: إن الله الذي حباكم بحرية الاختيار في الجو والمناخ كفيل بأن يحبوكم بحرية الاختيار في الحكم وشئون السياسة:

إننا في مصر ننتظر الربيع أشهرا، حتى نصل إليه، ولكنكم هنا لا تنتظرونه غير ساعة واحدة تنقلكم حين تشاءون من قيظ الصيف إلى نفحات الربيع

عندكم (أريحا) التي تذكر الناس بالمظلات في صبارة الشتاء، وعندكم رام الله التي تذكركم في لياليها بالمعاطف، ولو كانوا في أيام المصيف

وكنا في طريق (رام الله) هذه حين استطرد بنا حديث المصير إلى حديث المصيف، فسألنا: أي معنى يا ترى لهذا التركيب الذي لا نعرف معناه بالعربية؟ أهي كلمة عبرية أو آرامية؟

ورجح الأستاذ السكاكيني أنها مخففة من (رام اللات)

وقال الأستاذ عادل جبر: أنهم جمعوا رامة على رام وأضافوها إلى الله، وكأنها بذلك عربية أو آرامية تشبه العربية

والرامة في اللغة العربية معروفة للمكان الذي يجتمع فيه الماء، ولا سيما الروابي والهضاب، وعندهم اليوم في طريق بيت المقدس مواقع على هذه الصفة تعرف بالرامة على ألسنة السواد

بقي أنهم يعرفون الجمع في الآرامية كما يعرف العرب جمع ساحة على ساح وراحة على راح وساعة على ساع وحانة على حان.

أما الدكتور موسى الحسيني، فيرجح - على ما أذكر - أن أصل الكلمة (رام ايل)، ثم تداولتها الألسنة العربية حتى صارت في اللفظ الشائع (رام الله)

وهو رأي راجح، لأن المواقع التي تنسب إلى (إيل) هناك غير قليلة، ومنها (بيت إيل) الذي ينطقه العرب اليوم بيتين.

وكان القول الفصل أننا نستطيع أن نرجئ البت في هذا الخلاف دون أن يفوتنا شئ ما من متاع الهواء الطلق والأصيل الجميل في رام الله!!

فأرجأنا البت في الخلاف على ثقة من ذاك، وتركناه حتى يفصل فيه أصحاب اللغات السامية، إن راقهم أن يفظوه ولا يعلقوه مع غيره من أوجه الخلاف المعلقة في أرض الميعاد

عباس محمود العقاد