مجلة الرسالة/العدد 64/أنالي
مجلة الرسالة/العدد 64/أنالي
موضوعها حادثة من تا بني أسرائيل وهي موت أتالي وتتويج جواس في القرن الرابع قبل المسيح. وذلك أن أتالي أن اتالي بنت آكاب، وأرملة جوارم ملك يهودا، ذبحت أبناء ولدها أوكزياس جميعا بعد موته ليخلو الطريق لها إلى العرش والسلطان، ولم تدر أن واحدا منهم أخطأه القدر، فأنجته (جوزابيت) عمته وزوج الكاهن الأكبر جواد، وربته هي وبعلها سرا في معبد أورشليم باسم الياسمين حتى جاء يومه فرفعاه على عرش أبيه. وأهم اشخاصها جواس ملك يهودا وأبن أوكزياس، وأتالي أرملة جورام وجدة جواس، وجواد كبير الكهنة، وجوزابيت عمة جواس وزوجة جواد، وزكريا بن جواد، وسالوميت اخت زكريا، وابنير ضابط الملك، وقد وقعت حوادثها في معبد أورشليم في دهليز مسكن الكاهن الأكبر. الفصل الأول: يظل أبنير قائد جيش أتالي مخلصا الدين لله. وفي يوم عيد العنصرة يبكر بالذهاب إلى الهيكل فيلقى هناك جواد، فيفضى إليه يمكنون صدره من الأسف على الماضي، والأسى على الحاضر، والأنكار لما اقترفت أتالي من ظلم، وأحدثت من بدع، ويبدى له ما يساوره من الخوف عليه من سطوتها وبغيها. فيهدئ الكاهن روعه ويجدد أمله، وبعده أن يبوح إليه بسر خطير في الساعة الثالثة من النهار. ثم يصرح لزوجته بانه سيعلن نسب جواس في ذلك اليوم نفسه. وتشدو القيان بتمجيد آلاء الله وإعلاء دينه. الفصل الثاني: تجئ أتالي إلى الهيكل فيغلق الكاهن دونها أبوابه، فتظل في الفناء مع أبنير وماتان، وتقص عليهما أنها رأت حلماً أزعجها وراعها: رأت أن أملها أيزابيل جاءتها في المنام منذرة بحلول كارثة فادحة. ثم ظهر لها بعد ذلك غلام طعنها بخنجرة في أحشائها طعنة قاضية. وما كان أشد عجبها ودهشها حين ترى في الهيكل شبيه الغلام الذي طعنها فينصح لها ماتان أن تقتله. ويشير عليها أبنير أن تدعوه وتسأله، فتأمر به وتستفهمه عن أمره. ولكنه لا يقول أكثر من أنه يحب الله ويبغض الأوثان وأهل الشر ثم يذهب. فيشتد قلقها وفرقها من هذا الجواب وتخرج. فيطهر الكاهن الأكبر الهيكل من أثرها النجس. ثم تجدو القيان بسعادة الأبرار وشقوة الفجار. الفصل الثالث: يفد ماتان من قبل أتالي على كبير الكهنة يطلب منه تسليم الغلام رهينة الصلح بين الملكة وبينه، فيطرده الكاهن طرداً قبيحاً فيذهب مهدداً، ويوقض شكوك أتالي فيه. فيشتد الخطر ويفدح الأمر. ولكن جواد يزداد بالله أيماناً وثقه، فيطمئن أمرأته ويتنبأ بسقوط أورشليم وقبيام الكنيسة المسيحية. ثم يأخذ في أسباب التتويج ويحرض اللاوبين على القتال دفاعاً عن الهيكل، وتنشد القيان أناشيد الخوف والرجاء. الفصل الرابع: يعلن الكاهن إلى جواز حقيقة مولده، ويبصره بحقه وواجبه، ويقدمه إلى اللاوبين ولياً لعهد داود، ويأخذ عليهم الأيمان أن يوازروه وينصروه. وما هي الا لحظة حتى يحمل اليه لاوي خبر محاصرة الهيكل بجنود أتالي. فتضطرب جوزابيت جزعاً على جواس، وينظم الكاهن صفوف المدافعين، وتنشد القيلن نشيد الغوث والمعونة من الله. الفصل الخامس: يدخل أبنير الهيكل المحصور سفيراً إلى الكاهن يحمل شروط أتالي الأخيرة وهي تسليم الياسمين، وتقديم الكنز المدفون في الهيكل، فيجيبه الكاهن: لتدخل الملكة فتأخذ ما تشاء بنفسها. ثم ينصب في أثناء ذلك عرشاً لجواس، وتدخل أتالي المكان المقدس يحف بها ثلة صغيرة من الحرس وهي تقول: أين الغلام وأين الكنز؟ فيريها الكاهن جواس على العرش، ويقول لها: هذا كل ما بقى من كنز داود!!! فتحتدم الملكة من الغيظ وتصيح: يا للخيانة!! يا للجند!! ولكن الجنود يأخذهم الفزع فيتمزقون شر ممزق، ويقبض اللاويون على الملكة ويسحبونها خارج الهيكل، ويذيقونها عذاب الموت بما كسبت، ويقول جواد لجواس في كلام طويل: (لا تنس يا ملك اليهود أن للملوك قاضياً جباراً، وللبرئ منتقماً عزيزاً ولليتيم أباً رحيماً.!!) يتنع الزياتحول 14 سبتمبر للأستاذ محمد محمود جلال دعوت الله الا أراه القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر. وكنت مقيماً بين مزارعي وشواغلي إلى الثاني العشر منه، فجد لي عمل هام يقتضيني سفراً اليها قد يستغرق يومين أو ثلاثة. لست أكره الذكرى، بل أعمل لها، وعقيدتي أن ذكريات المحن كذكريات المنح في نتيجها. لانها تشحد العزائم وتبعد تكرار الأخطاء، وليست ذاكرتي بالضعيفة، وأنما تعذبني في الواقع بشدة أحساسها، ولكنهما خيل إلى أن أعصابي لا تحتمل شنهود العاصمة المحبوبة في ذلك اليوم!!! كبر على أن أشهد المدينة القاهرة الزاهرة التي عاش أهلها في طهارة الأستقرار وعزه، يعيشون منذ 14 سبتمبر سنة 1881 غارقين في رجس الأحتلال وذله. . . ما كدت أصل القلهرة مساء الثاني عشر من سبتمبر حتى أستعرضت برنامج عملي على أن أعجل منه ما أستطيع وأرجئ منه ما لا يضيره إرجاء. فلما أصبحت أسرعت إلى عملي وفرغت منه. في نحو العاشرة صباحاً، وذكرت على التو أن قطاراً يغادر القاهرة إلى بور سعيد في الحادية عشرة، وفي هذا زوال ما أخشى. وازمعت السفر لأعود بأسرتي من المصيف وقد قرب أفتتاح معاهد الدرس، وخيل ألي انيسأتلافى بسفري جواً خانقاً ويوماً من الدهر حانقاً!. . . سيتحقق إذن ما تمنيت على الله، فلا أكون بالقاهرة يوم تشرق شمس جاء أصلها على البلاد بمحنة المحن. فإذا جيش الأحتلال يدخل قلب البلاد، وإذا نائب عن الخديو يلازم الجيش!!. . . وهل شر من احتلال أجنبي يظله اضطراب لا يستقيم معه فكر، ولا يتسق وأياه منطق؟!!. الفكونت ولسلي يرفع لأنجلترا في مصر راية، وسلطان باشا يؤمن تلك الراية باسم الخديوي!. وأين عرابي واين الجيش؟ وفيم كانت الحرب؟ وأي فكرة تنطبع في ذهن البلاد لصورة هي التناقض بذاته فوق ما تحمل من عار؟. والله ما ابتلى شعب بمثل ما أبتلى به شعبنا في ميداني المادة والمعنى، ولولا أن الشعب كان قوياً بدينه وتقاليده، عظيماً بآثار المحن الغابرة في عزائمه، عزيزاص بكرامته، لنالت منه الأحداث أضعاف ما نالت، ولو حلت بغيره لأفنته. جلست في القطار أتسلى بالقراءة، واتفاقاً بدأت بكتاب صغير أشتريته من (كشك) ليفاداس بالمحطة - مؤلفة فرنسي - والكتاب عن حصار (باريس) سنة 1870. اخذتاقرأ وفي نفسي أني واجد في وطنية الفرنسيين الهائمين بعاصمتهم وبمجدهم، وفي كفاءة الألمان وحسن تنظيم جيوشهم خير عبرة وتسلية. ولقد اجاد المؤلف في المقدمة، وفي وصف الحالة العامة، ثم إذا به فجاة يتكلم عن باريس في 19 سبتمبر، فيصف الطوارئ، وحالة الرأي العام وصعوبة التموين، وضعف خطوط الدفاع!. إذن ما زلنا في شهر سبتمبر! ولا زالت هناك سلسلة من هموم في ثناياه إذا خلفتها في القاهرة ذكرتها عن باريس في محنة مماثلة! وفي المثل: يؤتى الحذر من مأمنه. ما عتمت أن تمثلت بالكلمة الخالدة التي أنتزعتها من فم الرجل الحزين سيدنا كعب بن مالك - خطاب عاهل غسان إليه، فقلت معه رضى الله عنه: (وهذا أيضاً من البلاء) يقول المسيو (سارسي) مؤلف (حصار باريس) بعيد اعلان الجمهورية: (وبينما يشتد ضغط الجيش البروسي وتتوالى انتصاراته وتكتمها الحكومة عن الشعب كنت كثيراً ما تسمع واحداً يقول لرفيقه: (إنهم لن يجرؤا على دخول باريس ما دمنا حصلنا عليها) أي ما دمنا أعلنا الجمهورية فلن يجرؤ البروسيون على فتح باريس). وهكذا تلهى الباريسيون بأعلان جمهوريتهم عن الغرض الأساسي وهو حماية باريس من هجوم الأعداء. أو لم نصب بهذا يوم أطلق سراح المرحوم سعد باشا زغلول وصحبه. ويوم ذهب اللورد ملنر يفاوض الوفد، ثم يومأعلن الدستور سنة 1924 ففترة ثورتنا وتشتت شملنا؟ كان لأحد أدباء باريس في ذلك العهد غرام بجمع المؤلفات الأدبية ذات الغلاف الأنيق. فأقتنى منها ما يعد ثروة ضخمة رتبها في منزل بجوار باريس. ثم صدق ما كانت تردده الصحف من أستحالة باريس على الهاجمين فمضى في تنسيق تراثه. ثم إذا به بين يوم ولياة يتحقق أن الصباح قد لا يشرق الا مغبراً بخيل العدو. أسرع بما أستطاع حمله، وأوى إلى أول فندق ثم أستراح الراحة الأبدية، فقد وجدوه ميتاً في بكور الصباح. وكان بذلك مشدود الحظ سعيداً. فلم يرسنا بك الأعداء في العاصمة الحبيبة. وإذن لست أول الناس في هذا الشعور الذي أقض مضجعي قبيل 14 سبتمبر ولو أني لم أحضى بنصيبه، فلعل الله يريني يوماً ميموناً بالخلاص. اغرق اهلباريس في تحية الحكومة الجديدة بقدر ما أسرفوا في الطعن على الأمبراطورية وما جرت من ويلات، حتى رسخ في ذهن الجمهور أن بروسيا لا تحارب فرنسا، ولكنها تحارب الأمبراطورية. وقد يعجب القارئ إذا علم أن الأمبراطورية التي باتت مثالاً للشقاء في أعين الفرنسيين هي النظام بذاته الذي تأيد بثمانية ملايين من أصوات الناخبين قبل ذلك بشهر. ولقد كان موقف نابليون الثلث شبيهاً بموقف عرابي باشا، ولعل الخير كل الخير كان في أن يموتا في ميدان القتال. ليست العبرة فيما ينفع أنه يرضى الناس بائ الأمر، وأنما العبرة في أن يكون نافعاً وكفى. ولا بد من تعويد النفس أحتمال الكروب في سبيل العقيدة، وثبات العزم على صحيح الرأي. الف الجنرال (تروشي) في عهد الأمبراطورية كتاباً نقد فيه حالة الجيش وخطوط الدفاع من الوجهة الفنية نقداً أغضب الأمبراطور ورجاله ذلك العهد حتى أضروه بسببه. فلما حوصرت باريس وبدا الضعف واضحاً في خطوط التحصين عادت بالشعب ذاكرته إلى الجنرال المؤلف والى كتابه، ووصل الرجل وكتابه إلى الذروة، ولكن الوقت لم يكن يسمح يومئذ بتنفيذ شئ مما أشار به. ولا بد لنا - لأحاطة أخلاقنا بسياج يقيها العثرات - أن نرجع البصر إلى خطوات الماضي، والى عظات من سبقونا من رجالات مصر - فذلك كفيل بحسن التوجيه. شئ من الثبات، وعود إلى أدابنا القومية، وتقاليدنا الشعبية، وشئ من الشجاعة الأدبية، لنقول للمخطئ أخطأت، وللمصيب أصبت. جعل الله لنا في الماضي عظة، وفي الحوادث عبرة. وجمع على الحق شتاتنا إنه كريم مجيب. محمد محمود جلالالمحامي
من اللزوميات:
من أبي العلاء
الى الشاعر التونسي محمد الحليوي
(أبا العلاء أحقاً أنت في دعة=من الخطوب وفي سلم من الكرب)
(الحيلوي)
أبا فلان! جزاك الله صالحة ... فان وصلك حبلي أطيبُ القُربَ
هذا جوابك - لكني أُسِرُّبه ... فاشحذ لتسمعنا أذنيك واقترب
(قد عشتُ رهن العمى والحبس) منقبضاً ... عن رفقة طبيعهم أعدي من الجرب
لم أعدُ أنى عددت القوم مذ نضحت ... حمقاً جلودهمو صنفاً من القرَبِ
وما يضير الورى أن بت مكتفياً ... من الطعام بمثل الصَّرْب والصَرَب
أغربت عند أناس من غباوتهم ... بأننى مِزْت عود النبع والغرَب
أمَّا الولاة، فقوم أنت تعرفهم! ... يُمنى مخالطُهم بالويل والحَرَب
كماسارب منهمو خوفاً وآمننى ... في السِّرْب أنى اتخذت الدار كالسَّرّب
فدع (أُلُمْبَكَ) أني لست أعرفه، ... من لي بذاك، وصحن الدار مضطرَبي
وما مررت بقصَّاص فأسمعني ... ألا وألفيتنى أمعنت في الهرب
فليس يعمر قلب بات يملؤه ... بالإفك يصدره عن قلبه الخرب
قد عشت ماعشت رهن الحبسين ومن ... يعاشر النس باع التمر بالكَرَب
فجاء يوماً أبو يحيى وفي يديه ... كأس مذاقتها أشهى من الضَّرَب
فأسكرتني بلا خمروجدَّبنا ... من شربها طرب ناهيك من طرب
واذ بعينىَ عادت وهي مبصرة ... واذ بذهنَى ذهن الحاذق الدَّرِب
نظرت حولي فأبصرت الأُلى سبقوا ... على غرار وإذ بالعُجم كالعرب
حتى إذا النفس ثابت بعد دهشتها ... لاحت مجرّدة من ثوبها التَّرب فراعنى انها المرآة منعكساً ... نور الحقيقة فيها غيرَ مضطرِب
أمانة حملتها النفس قد خفيت ... على البصائر لم تدرك من التَّرَب
ماكنت مدركها لو لم أمت أبداً ... أو كنت مبصرَها أو بالغاً أربى
ومن يمت مرة في الدهر واحدة ... نال الخلود فما يخشى من الكُرَب
من يصقل النفس يكشف عن حقيقتها ... ولست تكشفُها بالمنطق الذَّرِب
مصطفى العلوي
من الأدب الأندلسي
التوابع والزوابع
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
نشأ أبو عامر بن شهيد الاشجعي في الاندلس في قرطبة احدى مدن العلم والادب، وكان هذا الرجل اديبا مغموراً توغل في شعاب البلاغة وطرقها كما يقول ابن خاقان، وله في الادب مجالس معمورة يبث فيها تعاليمه وآراءه، ويالها من تعاليم قيمة، وآراء مبتكرة، ولكنه كان مبتلى بحقد جماعة من معاصريه قصروا عن شأوه فناصبوه الخصومة، فكان وهم كما يقول.
وبلّغت أقواما تجيش صدورهم ... علىّ وأنى منهم فارغ الصدر
أصاخوا الى قولي فأسمعت معجزاً ... وغاصوا على سرى فأعياهمو أمري
ولكنه لم يلبث أن ضاق صدره بهم، وشغله أمرهم، فاصلاهم ناراً حامية من التهكم المر والتعريض اللاذع، وتفنن في الانتقاص من قدرهم، والحط من شأنهم، وتحداهم بآرائه في النقد والبيان، وازدهى عليهم بقدرته في الشعر والنثر، وساق ذلك كله في قصة خيالية زعم أنها وقعت له في وادي الجن، وان حوادثها جرت بينه وبين شياطين الشعراء والأدباء - هذه القصة هي (التوابع والزوابع) موضوع بحثنا اليوم - وهي رسالة أدبية ممتعة تعد من خير ماخلف في تراثنا الأدبي قوة وجدة وطرافة. ولما كان في التوابع والزوابع شبه من رسالة الغفران، وكان عصر ابن شهيد مندرجاً في عصر المعري، رجح لدى الأدباء ان يكون احد الرجلين ضرب على غرار الآخر، وانساق مع تياره، فاهتموا ببحث الصلة بين الرسالتين، وتلمسوا فضل الأسبقية للسابق من الرجلين، وكان من رأى الدكتور احمد ضيف ان ابن شهيد هو الذي احتذى شيخ المعرة وحاكاه، واحتج لذلك بان شهرة ابي العلاء كانت ذائعة في الخافقين، وقد كان اهل الاندلس مولعين بتقليدالمشارقة في آدابهم وأفكارهم بل وفي كل شي؛ ولكن الدكتور زكي مبارك أمعن في البحث والتدقيق، ونظر الى المسألة من جانبين: الجانب الأول التاريخ الذيوضعت فيه التوابع والزوابع وقد استخلصه بالتقريب من قول صاحبها يخاطب جنية (من اخواننا من بلغ الامارة، وانتهى الى الوزارة). وقال: وفي هذا اشارة الى انه وضعها وهو كهل، اي بعد سنة اربعمائة واثنتي عشر للهجرة، واما الجانب الآخر. فهو التاريخ الذي كتبت فيه رسالة الغفران، وقد قال في تحقيقه: إن هذه الرسالة كانت جواباً على رسالة ابن القارح، فاذا علمنا بأن هذا الرجل وضع رسالته بعد أن نيّف على السبعين كما وقع في ثنايا كلامه، واذا علمنا بأنه ول سنة احدى وخمسين وثلثمائة، ثبت لدينا أن رسالة الغفران كتبت حوالي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أي بعد التوابع والزوابع بنحو عشر سنين، وعلى هذا صار من المرجح أن يكون أبو العلاء هو الذي قلّد ابن شهيد.!!
فالدكتور زكي مبارك قد أنصف ابن شهيد حقاً، واستطاع أن يثبت له فضل السبق على صاحبه، ولكنه لم يستطع ان يثبت تهمة التقليد التي رجحها على المعري، وهي تهمة كبيرة لو صحت لكان لها شأن كبير في الأدب، خصوصاً اذا طاوعنا الذين يقولون بأن (دانتي) و (ملتن) - أخذا عن المعري في (الكوميديا الآلهية) و (الفردوس المفقود) والواقع أنه ليس في الرسالتين مايدل على تقليد أو محاكاة؛ نعم إن بينهما شبها في بعض الوجوه، فكل منهما عبارة عن سياحة خيالية إلى عالم آخر، كما أن كل منهما عرضاً لكثير من المشاكل الادبية واللغوية، وزيادة على ذلك فقد اهتم كل من الرجلين بالتهكم بمعاصرين في رسالته؛ ولكن هذا كله تشابه في امور عامة تتوارد فيها الخواطر غالباً، وربما تكون من وقع الحافر كما يقولون. ولو أنك نظرت الى وجه الخلاف بين الرسالتين لرأيته اقوى وادل على تباعد الرجلين واستقلالهما في الفكر والغرض؛ فقد قصد المعري في سياحته الى الفردوس والجحيم في العالم الآخر؛ وذهب ابن شهيد الى وادي الجن في عالم الحياة؛ واختار المعري اشخاص قصته من الرواة والشعراء والملائكة، وارتضاهم ابن شهيد من الشياطين - شياطين الشعراء والأدباء، وعنى المعري بالتعرض لكثير من المسائل الفلسفية والدينية، ولم يتعد ابن شهيد القول في البيان والنقد والشعر، وكتب المعري رسالته باسلوب وحشي غريب فلا يستطيع القارئ ان يأتي عليها الا بشق النفس، وقوة الصبر، وبعد الاستعانة بمعاجم اللغة، وساق ابن شهيد قصته فياسلوب عذب رقيق يخلق اللذة في نفس القارئ، ويدفع به الى استيعابها بلا ملل او سآمة؛ ولقد اظهر المعري كثيراً من التباهي بحفظ الغريب والتمكن في قواعد النحو والتصريف، واطال ابن شهيدالقول في الغض من قيمة هذه الامور وتحقير الذين يجعلونها كل همهم؛ ثم بعد هذا كله لاتجد في احدى الرسالتين فكرة اشتملت عليها الأخرى، او رأياً اتفق لكل من الرجلين؛ فلكل منهما فضله في عمله، ولكل منهما شخصيته في رسالته؛ واظن في ذلك مايكفي لدفع تهمة الاخذ والتقليد، سواء اكانت في جانب ابن شهيد كما يقول الدكتور ضيف؛ ام ناحية المعري كما يريد الدكتور زكي مبارك. وحسبي بعد هذا ان افرغ معك للحديث عن التوابع والزوابع، وان استعرض امامك ما احتوته من الاراء والافكار؛ ويقيني انك ستجد فيها كثيرا من الابداع والامتاع، بل سترى شيئاً جديداً يثمره الفكر العربي، وستشهد لصاحبها بالدقة في الوصف، والقوة في التصوير، خصوصاً وصف احوال الشعراء السابقين، وتوصير ميولهم ونفسياتهم، وستعجبك منه روح خفيفة، ونفس مرحة طروب يلذّ لها أن تضحك فتجيد الضحك، ويهمها النادرة الحلوة فتوفق كثيرا الى الحلاوة النارة وبراعة النكتة
استهل ابن شهيد رسالته بمقدمةقصيرة اراد ان يبين فيها كيف وقعت له حوادثها، وكيف رحل الى وادي الجن فقال: (كنت في ايام الحداثة احن الى الاداب، واصبوا الى تأليف الكلام، فابتعت الدواوين، وجلست الى الاساتيذ، فنبض في عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم مني طبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار، اسفاراً؛ وكان لي في اوائل صبوتي هوى اشتد له كلفي، ثم لحقني بعض ملل في اثناء ذلك الليل، فاتفق ان مات من كنت اهواه مدة ذلك الملال، فجزعت، واخذت في رثائه فقلت:
تولى الحمام بظبى الحدود ... وفاز الردى بالغزال الغرير
إلى ان انتهت الى الاعتذار من الملل الذي كان فقلت:
وكنت مللتك لاعن قلي ... ولا عن فساد ثوى في الضمير ثم ارتجع على القول، فاذا انا فارس بباب المجلس، على فرس ادهم قد اتكأ على رمحه، فصاح بي اجز يافتى الأنس، فقتل: لا وأبيك، للكلام احيان، وهذا شأن الانسان؛ فقال قل بعده:
كمثل ملال الفتى للنعيم ... اذا دام فيه وحال السرور
فأثبت اجازته، وقلت: بابي من انت؟ قال: (زهير بن نمير) من أشجع الجن، تصورت لك رغبة في اصطفائك؛ قلت: اهلاً بك ايها الوجه الوضاح، صادفت قلباً اليك مقلوباً، وهوى نحوك محبوباً، وتحادثنا، وتذاكرت معه اخبار الخطباء والشعراء، ومن كان يألفهممن التوابع والزوابع، وقلت له هل من حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال حتى أستاذن شيخنا، وطار عني، ثم انصرف وقد اذن له فقالجل على متن الأدهم فسرنا عليه؛ وسار بنا كالطير يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدوّ فالدو، حتى لمحت ارضاً لا كأرضنا؛ وشارفت جواً لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، فقال: حللت ارض الجن ابا عامر، فبمن تريد ان تبدأ؛ قلت: الخطباء اولى بالتقديم، ولكني الى الشعراء اشوق. . .).
وابن شهيد كما ترى يحاول الايجاز في سرد الحوادث، ويود ان ينطلق على طبيعته في ايراد القول، ولكنه لم يوفق كثيراً في هذه المقدمة كما يود، وكما وفق في عرض الرسالة؛ فظهر على أسلوبه مسحة التكلف، ووقعت بعض جملة قلق نابية، كأنه كان يدفع بها إلى غير موضع، ويضعها حيث لا مستقر؛ فمثلاً في قوله: (ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم منيطبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحمل اسفاراً) ثقل يحس به القارئ في اللسان وفي الذوق؛ وزيادة على ذلك فقد اضطرب الرجل في وضع الكلام، واختل به نهج القول. الا تراه يقول في بدء كلامه (كنت في ايام الحداثة احن الى الأداب. . .)، ويسير في الحديث على هذه الكينونة؛ كأنه رحل إلى وادي الجن غض الاهاب، نضر الشباب؛ مع أنه فيما بعد سيشكو الى احدى التوابع مافعلت الايام به!! وسيذكر لها ان من اخوانه من بلغ الامارة. وانتهى الى الوزارة! وفي هذا ما يفيد انه طعن في الكهولة على اقل تقدير ثم تجده يصف صاحبه (زهير بن نمير) بأنهمن اشجع الجن، وكان الاوفق بداهة ان يجعله في الادباء، ما دام القول في الادب والشعر وما دام الحديث عن الادباء والشعراء.
ولكن هذه هنات هينات. على انها ترجع الى العرض، ولا تمس الجوهر في شيء، وقد تكون هي كل ما في الرسالة من المآخذ؛ ولقد سلك الرجل طريقه بعد ذلك على احسن ما يكون، يجد ويهزل، ويتهكم، ويضحك. ويعالج كثيراً من الآراء العميقة، والافكار القويمة، وهو في كل ذلك طريف خفيف؛ ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والايجاز السليم؛ ولقد حدثنا بعد هذه المقدمة أنه لما نزل بوادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء؛ طلب من صاحبه (زهير بن نمير) أن يقدمه الى عيينة بن نوفل شيطان امرئ القيس، فصاح به زهير: يا عيينة بن نوفل، أقسمت عليك بسقط اللوى فحومل ويوم دارة جلجل؛ الا عرضت لنا وسمعت من الانسي، وعرفتنا كيف اجازتك له - يقول ابن شهيد - فظهر لنا فارس على شقراء كأنها تلتهب، فقال حياك الله يا زهير وحيا صاحبك، أهذا هو وحق ابي؟ ثم قال أنشد، قلت: السيد اولى بالانشاد، فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وضرب عنان الشقراء، ثم انشد: (سما لك شوق بعد ما كان اقصرا) حتى اكملها. ثم قال انشد، فهممت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت: (شجته مغان من سليمى وأدؤر) حتى انتهيت فيها الى قولي:
ومن قنة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
تكنفتها والليل قد جاش بحره ... وقد جعلت امواجه تتكسر
ومن نحت حصنٌ أبيض ذو شقائق ... وفي الكفّ من عسّالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جدّ الفتى حين يعثر
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
مِن طرائف الشّعر
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
فجعت الأمة العراقية الكريمة منذ أسبوعين باستشهاد خمسة من طياريها البواسل، سقطت بهم الطيارة على مقربة من مطار الهنيدي، فرثاهم شاعر العراق الكبير بهذه القصيدة
(1)
خمسة طاروا من عيونالشباب ... فوق طيّارة كمثل العقُاب أخذت في الجوّ الرفيع تَعالى ... ثم خرّت من أوجها كالشهاب
إن ذاك الصعود في الجوّ منهم ... كان للجد والعُلا والغِلاب
صدمٌة في هبوطها أهلكتهم ... بعد أن حلّقت بمجرى السحاب
لا ترى بعدها على الأرض منهم ... غير أشلاءٍ أو دمِ مُنساب
انما أوقف المحرّكَ فيها ... سببٌ قاهرٌ من الأسباب
هلكوا في شرخ الشباب فيا للـ - رزء لّما عرا ويا للمصُاب
(2)
فتيةٌ طارت تبتغى المجدّ ذخراً ... ولأوطانها تخلّد ذكرا
فوق طيّارة بهم في الْـ ... جوّ هدّارةٍ فتشبه نسرا
كلما استذكرتُ الفجيعةَ أحسـ ... تُمن الحزن في فؤادي جمرا
ليس عندى ما أستقى منه شعرى ... غيرُ عين من الكآبة عَبْرى
أنا في الحزن أرسل الشعرَ دمعا ... ساخناً ثم أرسل الدمعَ شعرا
حسبُ مَن مات عند خدمته أو ... طانَه أَنه بها كان بَرّا
عاش مَن بَرَّ بالمواطن محمو ... داً فان فهو بالحمد أحرى
(3)
فتيةٌ صرعى فارقتها الحياة ... فبكتها الآباء والأمهات
وبكاها العراق حزنا عليها ... وبنوه ودجلةٌ والفرات
أينما أَلْتَفِتْ أشاهد شحوباً ... في وجوه عيونها خَضِلات
شّيعتها الى مقابر شتى ... عبراتٌ وراءها عبرات
إنما المجد لا يموت وان كا ... نَ ذووه لحادث قد ماتوا
أيها الشعب لا يثّبطك يأسٌ ... انما في الموت المُلِمّ حياة
أيها النسر ما دهاك وقد كنْ ... تَ اذا طرتَ لم يخنك الثبات
(4)
هي دنيا كثيرة الإمتاع ... وَدَّعوها ولات حين وداع
وهو المجد بالمساعي اقتنوه ... حبذا المجدُ يُقتنى بالمساعى قد أضعناهم خمسةً ليس فيهم ... مَن به رِعدةٌ فيها للضياع
مشهدٌ للحياةن والموت يُشجى ... ما به من تنازع وصِراع
لهف نفسي على شباب تردّوا ... فنعاهم إلىّ فيالصبح ناع
شاع ذاك النعىّ حول الفراتين ... فأثِقلْ به على الاسماع
جنحت للغروب شمسُ نهارى ... ثم منها لم يبق غيرُ شعاع
(5)
وقف الموت للأنام رصيدا ... كلّ يوم يريد منها شهيدا
شطّت الدار بالأحبة عنا ... وعسى مَن نأى به ان يُعيدا
فتيةٌ كادتها صروفُ الليالي ... والليالي من شأنها ان تكيدا
أنا لولا شيخوختي ثم دائى ... كل يوم نظمتُ فيهم قصيدا
حبذا الليل والنهار لو انا ... فيهما نستطيع ألاَّ نبيدا
فات مَن قد رأى السلامَ رغيبا ... أن يرى في الاخطار موتا حميدا
(6)
حلّ يودي بخمسةٍ أطهار ... قدرٌ نازلٌ من الاقدار
بنسور قد حلّقت قبل أن يؤ ... ذن ضوءٌ الصباح بالإسفار
خطرٌ كله الظلام ولكن ... لا تبالى النسور بالأخطار
ركبوها طيّارةً لم تخنهم ... في تمارينهم وفي التكرار
ما دهاها حتى هوتكشهاب ... خَرّ من جوّه بلا انذار
ثم دارت بهم على نفسها بالرَّ ... غم عن كل حيلة الطيّار
ثم كان الذي به جرت الأقـ ... دار من سقطةٍ لهم وبوار
(7)
كلّ يوم تُعطى الحياةُ ضحايا ... تبتغى إرضاَء بها للمنايا
إن هذا الجيل الذي نحن منه ... هو من هاتيك الضحايا بقايا
نَبتغى تخفيفَ الرزايا بلهوٍ ... نرتضيه فلا تخفّ الرزايا
لا أظن الحياةَ تَلقى سلاماً ... من بلايا وراءهنَّ بلايا ان مَن اعطانا العقولَ اذا ما ... شاء ان نردى يستردّ العطايا
والذي أنشأ البرايا من البوَ ... ر مُعيدٌ الى البوار البرايا
كِبَرٌ شفّنى فلم يبق عندى ... غير قلبٍ يئنّ تحت الحنايا
بغداد
جميل صدقي الزهاوي
في النقد الألماني
النقادة الكبير ليسنغ
حياته ومذهبه
(1781 - 1729)
للأستاذ خليل هنداوي
ما عرف الأدب ناقداً كليسنغ جباراً صحيح المقاييس، بليغ التاثير، لا يبني مذهبه على المدرسة القائمة في عصره، وانما يبني مدرسته الجديدة لترتكز عليها مدرسة للأدب جديدة، يوم لم يكن عند الجرمانيين أدب بارز. فحار الناقدون في تفهم هذا الناقد الذي افتتح ادب امة عظيمة بالنقد، وانما عهدهم ان يخلق الادب النقد كما يخلق الاديب الناقد.
نشأ ليسنغ ميالافي بدء عهده الى ادب الاوائل، وما كاد يتمكن من هذا الادب حتى تفت لعينيه افق جديد يريد استكشافه، يحث معاصريه على السعي معه حثيثاً ليكون لهم مثل حظه من هذا الاستكشاف، وما اصدق من قال: (كان الادب الالماني قبل ليسنغ مفازة يفتقر السائر المتخبط فيها إلى هادٍ، وهذا الهادي لم يكن إلا إياه) هذا الذي انار المسالك وهدى الادباء الى سبيل في الادب قويمة، يبدى لهم مكامن الابداع ومواطن الخطأ، واسس الادب الجديد على قواعد النقد، وصاغ الشعر مزيجاً من الفن والادب والفلسفة، فكانت نفسه في جميع حالاتها مصابة بطلب المعرفة، هذه المعرفة التي ظن انه لابدّ ملاقيها، فذهب وراءها في احناء الكتب والصحف، وتحرى عنها في مشاهد الوجود.
دخل في اول نشأته احد الاديرة يتلقى اللغات القديمة التي كانت لب برامج التعليم القديم، فأبدى من الذكاء والانتباه ما ترك اساتذته في دهشة منه، حتى قال عنه احدهم: (نحن لا نستطيع ان نقوم بواجب الشكر لهذا الطالب، فان الدروس التي كان رفاقه يستثقلونها كان يجدها لسولتها كالالهية، انه لجواد يبتغي علوفة مضاعفة). حتى اذا بلغ السابعة عشرة من عمره انكب على علم اللاهوت، ثم تتلمذ للحياة بعد ان انجز تتلمذه للكتب، تلك الكتب التي قال عنها في احدى رسالاته (إنها صنعت مني عالما عارفا ولم تصنع مني انسانا، سأبدا عاجلا بدرس اطواري) فترك علم اللاهوت وعمل على جميع روايته التمثيلية، وقد حثه قريب له اديب على الاختصاص بهذا الفن، الى هذه الحلبة، حتى ظن ان هذا الفتى لن ينصرف بعد اليوم عن الفن الروائي.
على ان الضعف ليبرز في هذه القطع التي عرضها، ويغلب على اسلوبها اللون الفرنسي الذي كان يصبغ جميع الاثار الالمانية، وكان مذهبه فيها نفس المذهب المدرسي الذي كان (راسين وكورني وموليير) يبتدعونه ويتبعونه. كأنه كان يؤمن بجمال هذا المذهب ويحمل نفسه على الأخذ به. ولكنه في بعض نظراته يشن الغارة على هذا المذهب، ويطلب الى معاصريه الا يكونوا مقلدين لأذواق غيرهم. وانما الأجدر بهم ان يتفهموا مذاهب غيرهم والا يكونوا مقلدين لها. ونهاهم عن التهافت على ادب امة واحدة كالامة الفرنسية، وهنالك اداب مهملة كأدبها جديرة بالدرس والتمحيص، وفي هذا الصدد قال كلمته المأثورة (اذا اراد الالمان ان يتبعوا مذهباً يلائم طبيعتهم وجبلتهم فليتبعوا الادب الانجليزي الذي هو ادنى لهم من الادب الفرنسي).
وقد اشار في اكثر من موضع الى هذه الروح التي شاء ان يغرسها في ادباء عصره. وهو الذي كتب في احدى رسالاته ينتقد المؤلف المسرحي (جوتشيد) ويؤاخذه لاسترساله الى الروح الفرنسية: (يطمع هذا الكتاب في ان يمثل دور المبدع في مسرحنا الجديد، ولكن ما هو هذا المسرح الجديد؟ انه مسرح نصف روحه فرنسية. . . ولعل صاحبنا لا يحفل بهذه الصفات ان لاءمت الروح الالمانية او لا؟ وهو لو انعم النظر في اثارنا القديمة لاوحت اليه ان الادب الانجليزي هو اكثر ملاءمة لروحنا، واننا نتوق الى التامل والتفكر اكثر مما يسمح به الادب الفرنسي لنفسه، وان الادب الذي تتمثل فيه الروعة والعظمة والظلمة هو اكبر سلطانا علينا من ادب الرقة واللوعة والحب، وان البساطة في الادب لتضنينا اكثر من حالاته المركبة المهوشة. . . يجب عليك ايها المؤلف ان تخط لك طريقا يحملك الى المسرح الانجليزي. . .)
وقد كان انقلابه فجأة الى هذا المذهب وهذا الادب موضع دهشة، اذ تبادر الى اذهان بعض النقاد ان شكسبير وجده هوالذي اثر في ليسنغ، على ان الاسباب الحقيقة التي ساقته الى هذا الادب كانت اعمق من ذلك. فليسنغ بعد ان درس حق الدرس اخلاق الشعب الالماني وجد ان الماساة الحماسية هي التي تبسط تأثيرها في النفوس. وان المأساة المجردة ينبغي لها ان تهبط درجة الى عالم الحقيقة، وان الكوميديا قد تكون ادنى الى الحقيقة، وهي التي تثير ما تثير من ضحك ومن بكاء.
وفي النهاية انغمس ليسنغ في التأليف المسرحي. فكان في اول امره يترسم اقدام من تاثر بهم من الاقدمين، وهو خلال ذلك لا يترك الجهاد الا استعداداً لجهاد آخر يفتقر الى عنف كثير وصبر كثير، والغاية التي يتطلبها من وراء ذلك عظيمة، لا الا لمثل هذا النوع من الجلاد، فهو يريد ان يخلق اسلوبا جديداً وتفكيراً جديداً، وما زال يدأب ويجهد حتى وفق الى سعيه بعض التوفيق، وضرب لعصره مثلا عاليا للرواية التي تمثل احسن تمثيل صفات قومه واخلاق قومه. وهو - وان لم يبلغ برواياته القمة التي لا تلين خياشيمها الا للعباقرة فقد كاد. . .
ثم طفق ليسنغ يكتب في احدى خلواته مقاطيع من الكتاب الذي خلد اسمه على الدهر في عالم النقد، كتاب] اللاوكون [الذي حشر فيه خلاصة نظراته في التأليف المسرحي. وفيه عالج الشعر وعُني بأسلوبه والوسائل التي ترمي الى إحيائه.
وما هو مذهب ليسنغ في الشعر؟
لقد كانت المدرسة الويسرانية تعتقد أن الشعر إن هو إلا تصوير صامت. والشاعر الألماني (فينجيلمن كان يرد أصول الفن مهما تنوعت فروعها إلى مثل عال واحد تنضوي تحته. وهذا المثل هو العظمة المتجلببة بالسكينة. . . وهذا المثل الأعلى مثله كالبحر العميق يبقى هادئاً مهما تقاذفته قواذف الريح. وحاله حال تصاوير اليونان فهي في أحدى ثوراتها وأهوائها الجامحة تظل مالكة لعظمتها ولنفسها، ومثل هذه الروح يمثلها تمثال (اللاوكون) بوجهه وأعضائه المتصلبة في ساهة الألم العنيف. وقد لام هذا الشاعر الألماني شاعر إيطاليا الكبير (فرجيل) لأنه وصف (اللاوكون) بصورة شعرية خالف فيها الصورة التي نحتها الحفار. إذ تركه في مقطوعته الشعرية يصيح من الألم صيحات منكرة، ولكن ليسنغ يجابه في كتابه نقد الشاعر الألماني، ويعتقد أن للشعر قواعده الخاصة، وللنحت قواعده الخاصة، ويرى أن في استطاعة الفن الشعري أن يمثل لنا الشيء حتى نحدق به من جوانبه. بينا أن الفن الثاني لا يمثل لنا من هذا الشيء إلا لحظة موقوتة هي كل شيء في هذا الشيء. وبينما نرى الرسم يخضع للهيئة الجامدة التي يتلبس بها نرى الشعر حرا طليقا يحيا بحركته واضطرابه واختلافه. وهكذا لبث هذا الكتاب أثراً ناطقاً للرجل، وقد ترك وراءه صدى بعيدا وتأثيرا ترامى في الأقطار. وهو كما قال فيه (جوته) شاعر الألمان يجب أن تكون فتى أيها الكتاب في أرواحنا وكفى بهذه الكلمات التي يرددها جوته شهادة.
وهكذا أراد ليسنغ أن يبني نقده على نظريات ثابتة لا يذهب بها الوهم. فاستمد قانون (أرسطو) يعمل به لتنظيف الأهواء. ومن هذا القانون قد استمد ليسنغ أكثر نظراته التقدية كأنما كان يحاول أن يقتل الحدة والجموح والطيش في الأدب ويترك إلى العقل سبيلاً ينفذ منه ليبقى مالكا على الأهواء في أعنف ثوراتها. وقد شاء ليسنغ أن يغزو حقل الأخلاق دأبه في كل حقل يغزوه، فكتب مقطوعات في الحكمة دلت على سمو نفسه. فهو يعتقد أن قيمة الرجل ليست بالفضيلة التي يحرزها، أو بالفضيلة التي ظن أنه يحوزها، ولكن قيمته تنحصر في الجهود التي يقوم بها في سبيل إحرازها، لأن المجد لا يتوقف على صفة الاحراز، ولكن على العمل للفضيلة التي يكثر به جنودها. ويعتز هو بانتصارها. ويقول أيضاًإذا الله قبض على الفضيلة الكاملة بيده اليمنى ووضع في يده اليسرى التوق الخالد - توق القلب - الى الفضيلة. مازجا معه انخداع الانسان؛ وقال لي: انتخب، فانني إذ ذاك آخذ بيده اليسرى بكل تواضع وأقول. أعطني ياإلهي. . . لأن الفضيلة الكاملة التي وضعتها في يمينك لم تصنع إلا من أجلك وقد ولَّدت عنده هذه الحكمة حكمة دينية أبداها في بعض مقاطيع صغيرة. حيث أبدى أن الوحي الإلهي ليس بواحد ولا بثابت ممتنع عن التغير. ولكنه يتنوع ويتقلب ويتقدم كالإنسانية نفسها. وقد أدرك ليسنغ الذروة العالية في روايته (الحكيم ناتان) اذ أعلن أن الحكيم الحقيقي هو الذي يتروض على الفضيلة ويخضع لأحكام العناية الإلهية الخالدة.
لقد فهم رجال الأدب بعض جوانب هذا الرجل العظيم، ولن تظهر عظمته واضحة إلا بعد أن يرجعوا الى البذور الفنية التي نثرها في طريقه، وهل كان (جوته) و (هير دار) إلا أول فنن من هذه الشجرة، أورق وأزهر وأثمر، ثم أتى أكله فكان نعم الأكل.
العلوم
بحث في تاريخ الانسان
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافيا
إذا أردنا الكتابة أو البحث في تطور الإنسان على ممر الدهور والأيام، فانما نعني في الحقيقة تاريخ الانسان، تاريخ حياته وجهاده وكيف. . ومتى. . ومن أين أتى بشكله الطبيعي المألوف الذي نراه به اليوم. وكيف تكونت همده القوى العقلية والقدرة على التكلم والتفاهم.
من الواضح الجلي أننا إذا حاولنا الكتابة في هذه الحادثات التاريخية القديمة، يجب علينا أن نوجه أبحاثنا وننظر بعيداً الى عصر قديم جداً من العصور، يقع قبل التواريخ المدونة في الكتب بمراحل كبيرة جداً. ونجد لزاماً علينا في هذه الحالة أن نقص عليك أطيب القصص عن عصر لميوجد به رأي يفكر أو يد تسطر لنا ثمرات هذا التفكير.
ولقد خيل للعلماء أجمع استحالة تتبعهم وتفهمهم لما حدث في تلك الأحقاب السحيقة، ثم تسطير تلك الحوادث التي حدثت منذ آلاف السنين، لو لم تأت المصادفات ويساعد الحظ الحسن على كشف أستار الماضي الكثيفة. فانه في حوالي سنة 1825 قامت بعثة أيرية دنمركية بالبحث عما قد يكون مندثراً في أراضي بلادها من أيلحة أو حلي أو آنية قديمة، ثم وضعت كل ما وجد في متحف كوبنهاجن.
وفي سنة 1830 حينما ازدادت كمية المحفوظ به فكر مدير قسم الآثار س. ج. تومسون تقسيم المحفوظات الى أقسام ترتب حسب نوع المعدن المصنوعة منه. إلا أنه في ذلك الوقت أتته فكرة طارئة، كانت ذات أثر بين في سير التاريخ الانساني، وذلك أنه ساءل نفسه عما إذا كان من المحتمل أن تكون تلك المحفوظات عنده في المتحف كل منها يمثل عصراً خاصاً من عصور الانسانية، وجاءت الحوادث بعد ذلك لتحقق صدق حدسه الذي خمَّنه، فقد وجدت أشياء أخرى بطريق المصادفة لفريق منعمال البناء عند حفرهم آبار منازل كلها من مرافق الإنسان الذي عاش في العصور السالفة، وكان أقربها لسطح الأرض الحديدية والبروتزية فالحجرية.
فأخذ علماء الدنمرك حينذاك يعرفون أن الأرض نفسها سجل صامت ثابت يحفظ تاريخاً صحيحاً لأعمال وحياة الإنسان في العصور السالفة، ووجدوا ذلك صحيحاً في كل جهة من جهات بلادهم: في المقابر القديمة، في الآبار وفي شواطيء الأنهار مما يملي عليهم التاريخ الصحيح للانسان القديم.
من كل تلك الأشياء وصل تومسن الى نتيجة نهائية، هي أن تاريخ الإنسان القديم مقسم الى ثلاثة عصور: الحجري والبرنزي فالحديدي، وبذا كانت الدنمرك أحدث الجهات في التكوين جيولوجيا، هي أول مكان بحث التاريخ السحيق للانسان على هذا النمط العلمي الجديد.
حول العلماء الفرنسيون بعد ذلك طريق كتابتهم لتاريخ الإنسان وجاروا الدنمركيين في طريقتهم، ووجدوا مادة بحثهم الجديد في كهوف مقاطعة وبدأ ادوارد لابيت ومعاونوه البحث فيها حزالي عام 1860 فوجد أن معظمها كان مستعملاً قبل ذلك كمساكن أو مقابر في كل عصور التاريخ القديم، وكان من عدم اعتناء السكان الأقدمين بالنظافة وترك كهوفهم مملوءة بالبقايا والأدوات حظ حسن للتاريخ، وكان من تساقط المياه الملحية من سقوف الكهوف خير معوان وخير عامل على حفظ تلك البقايا الانسانية بعيدة عن الضياع أو التلف، وارتفع قاع الكعوف بالعوامل الطبيعية والجيولوجية، فحفظت الأرض بين ثناياها على ارتفاع ينيف على الثلاثين قدماً آثاراً عظيمة الشأن للحياة الانسانية من مدة طريلة من الزمن.
ولم يطل الزمنبعد ذلك حتى عرف الفرنسيون أن كهوف بلادهم تحفظ تاريخ الإنسان لمدة أقدم بكثير مما تحفظه مقابر اسكنديناوه أو قدماء المصريين. ولم تكن العصور الامسانية الثلاثة المعروفة لهم سوى عصور حديثة جداً إذا ما قيست بما تنم عليه آثار كهوف فرنسا، ومن بينها الهياكل العظيمة المتحجرة للحيوانات التي كانت تعيش في تلك العصور، كغزال الرنة، والضبع ودب الكهوف. ولقد قسم اللورد ايفبري العصر الحجري إلى قسمين: أسمي أحدهما العصر الحجري الحديث القريب من العصر البرنزي وهو ما وجدت آثاره في الدنمرك، وأسمي الآخر العصر الحجري
وكلما ازداد الفرنسيون تعمقاً في حفرياتهم ازدادوا يقيناً بصحة ترتيب تلك العصور المختلفة وبتغيرات عديدة قد حدثت للمناخ وقتذاك، وعرفوا أنه لم يكن هناك عصر حجري قديم واحد كما ظن السير ايفبري بل جملة عصور متتابعة متناهية في القدم يمتاز كل عصر منها بميزات مختلفة، أمكن انتزاعها من الآثار التي وجدوها. وزاد يقينهم في هذه النظرية تكرار وتماثل ترتيب الطبقات في كل الكهوف التي بحثوها. وقد وجد علماء الانجليز والألمان والطليان والاسبان بدورهم نفس الظواهر والترتيب الذي وجد في كهوف فرنسا.
وهكذا نرى أن الكهوف قد أمدتنا بالمعلومات والحقائق الخاصة بتاريخ الإنسان القديم، وأمكننا تسطير تاريخ دقيق لا عن المدة التي كشفت عنها حفائر الدنمرك فقط، بل عن مدة تتناهى في القدم عن تاريخ قدماء المصريين أو تاريخ بابل القديم. وإنك لتدهش حقاً إذ تعرف أن تلك الحفريات قد كشفت لنا عن ظاهرة ليست غريبة عن عصرنا، وهي مسألة الزي، أو المودة فقد ثبت منها أن مجرد وضع زي خاص لملبس أو زينة في بلد في تلك العصور كان كافياً لانتشاره في العالم القديم أجمع، ولذلك ترى أن أجدادك وأجدادنا الأقدمين كانوا مثلنا عبيداً للزي المتفشي في العصر. ولو أن زيهم كان أثبت قدماً وأطول بقاء من زينا الذي يتغير سريعاً بتغير الفصول والمناسبات.
لنر الآن إلى أي حد تعمق البحث في تاريخ الكهوف القديم. من الشكل رقم 1 يرى القاريء قطاعاً رأسياً في كهف مثلى كملت فيه الطبقات والعصور التي وصل العلماء إلى الكشف عنها. ومنه يمكنه أن يلاحظ أن العصور الثلاثة المعروفة (الحديدي والبرونزي والحجري) تقع في أحدث جهات الكهف كشفاً، ومن بعدها عصر سماه العلماء (لأن الحفريات التي دلت على وجوده عملت بالقرب من قرية , في فرنسا) يجيء بعده عصر سموه (نسبة الى كهف في مقاطعة الدردون) يتبعه عصر سمي (نسبة الى جهة بالقرب من ماسون بفرنسا) فعصر أطلق عليه إسم (نسبة إلى قرية في أعلى الجارون) وآخر هذه العصور عصر أطلق عليه إسم نسبة إلى الكهف في مقاطعة داردوني
وليس هناك أدنى شك في صحة ترتيب العصور السالفة الذكر، لأن الابحاث التي قام بها العلماء بعد ذلك لم تكشف لنا إلا عن تتابع صورة طبق الأصل لما قد بيناه في هذا المقال. إلا أننا نقف لحظة ونسائل أنفسنا ما هي فترة كل عصر من تلك العصور؟ ومتى بدأ كل عصر منها؟. . ومتى انتهى كل منها؟.
إن السنين المذكورة في شكلنا رقم 1 ما هي إلا عدد تقديري تقريبي غير ثابت تمام الثبوت، وربما كشف لنا العلماء حديثا ما يدفعنا إلى تغيير في هاته الأرقام. لكننا مع ذلك نعلم أن فترة الكهوف قد انتهت بانتهاء عصر الجليد. ولقد استطاع علماء السويد وعلى الأخص البارون دي جير أن يضعوا لنا تقديرا معقولا انتزعوه من آثار عصر الجليد وعرفنا منهم أن عصر الجليد قد بدأ في السويد من مدة 12000 سنة مضت تقريبا. ونحن إذا قدرنا أن حياة الإنسان في الكهوف قد انتهت من مدة 10000 سنة أو 8000 قبل الميلاد لأمكننا أن نقرر لأقدم عصر من عصور الكهوف تقديرا غير مبالغ فيه وهو 42000 سنة.
ولكي تعلم أيها القاريء أن أقدم عصر من عصور الكهوف هو أهم عصر في هذه العصور جميعا، يكفي أن نخبرك أنه بين طبقات الأرض في هذا العصر قد وجدت بقايا عظام متحجرة لعنصر من عناصر المخلوقات يختلف اختلافا عظيما جدا يبعده عن الصورة التي كان عليها أقدم الأجناس البشرية المعروفة. هذا النوع أو الجنس يعرف باسم انسان النيادرانتال ويمتاز هذا النوع بفرطحة الجمجمة وبروز عظام محاجر العين. كان رجاله ونساؤه ذوي قامات محدودبة يعتمدون كما تعتمد القردة على أيديهم في المشي.
وقد بدأ هذا النوع من أنواع الإنسان القديم يظهر واضحا جليا بآثاره ومخلفاته في أواخر أقدم عصر من العصور التي ذكرناها مستر يان.
ومن الآثار والمخلفات التي وجدت في الكهوف القديمة في جميع أنحاء العالم أمكن تتبع حياة الإنسان لمدة تنيف عن 40000 سنة في وقت كانت فيه أوروبا مسكونة بعنصر من العناصر الانسانية يختلف اختلافا بينا عن العنصر الذي نحن منه. عنصر أطلقنا عليه كما سلف وثبت أن أوربا كان سيكنها في العصر القديم الذي أطلقنا عليه اسم عنصر من الإنسان النياندرتال.
وبرغم أن الإنسان الذي وجدت آثاره كان فطريا أقرب في حياته الى الحيوانية فانه كان رجلا أو إنسانا بكل ما في جسمه من صفات وما في عقله من خواص وتفكير. وما دمنا نرمي الى الوصول لفجر الانسانية ومعرفة تاريخ النشأة البشرية فانه يجب علينا أن نتخذ لنا طريقا آخر يساعدنا على تفهم ما نريد ومعرفة ما نرمي اليه. هذا الطريق هو البحث في الأنهار والمجاري المائية. وإن البحث والتنقيب اللذين قام الناس بهما فيها، دلا على أن هناك آثارا ومخلفات قديمة تحفظها الأنهار والمجاري في قاعها وشواطئها ومدرجاتها، وكأنها تقدر مجهود الإنسان لحفظ كيانه، فعملت على حفظ آثاره وتخليد ذكره تنويهاً منها بعظمته وقوته. ولنا في مدرجات نهر التيمس اكبر دليل على ذلك. ولقد ساعدت عملية الردم والتكوين التي تقوم بها الأنهار بما تحمله من غرين وغيره اثناء طريقها على حفظ اثار الانسانية، حتى جاء بورشيه دي بيرث فوجد في بلده ابفيل صخورا نارية (كان الناس وقتذاك يعقتدون انها من مخلفات الصواعق) اعتقد انها من عمل الإنسان ووجد بها اثرا من فن الانسان، واعتقد ان الإنسان قد استعملها قديما كـ (بلطات) يقطع بها الاشجار وغيرها، او يدافع بها عن نفسه وقت الخطر. كذلك وجد في نفس الجهة عظاما متحجرة لحيوانات قديمة منقرضة، وهنا نظر اليه الناس كنظرتهم الى من بعقله مس من الشيطان، لأن العظام التي كشف عنها ترجع الى عصر وهو عصر اعتقدوا ان الإنسان لم يوجد فيه. فكيف بهذا الرجل يقول ان الصخور التي وجدها من قطع وتشكيل من لم يكن قد وجد بعد؟
يتبع
نعيم علي راغب
من الأدب التركي
المعلمة الصغيرة
ترجمة الآنسة الفاضلة (فتاة العرب)
ركبت عربة الترام ولم يكن فيها غير السائق الذي كان مغمضاً عينيه يستريح قليلاً من عناء أربع عشرة ساعة، أما بائع التذاكر فكان جالساُ في المكان المعد للسيدات يقرأ جريدته على ذلك الضوء الشاحب الهزيل الذي كان ينفذ من زجاج ذلك المصباح الأغبر، وليس يعلم إلا الله كم مرة أخرجها من جيبه وأعادها أليهوكأن دخولي إلى تلك العربة وهي آخر العربات في ذلك الوقت من تلك الليلة الشاتية نفخ فيها حياة بعد أن كاد يقتلها الإعياء، فقد من نومه وفتح عينيه المغمضتين، وأبعد بائع التذاكر الصحيفة عن وجهه وصعد بصره في كأنه يقول:
وهل بقي من راكب بعد أن مضى الهزيع الأول من هذا الليل الممطر؟. ثم قام الاثنان ونظرا إلى الخارج كأنهما يريدان أن يريا المطر الذي كان يسفع زجاج العربة بشدة، وعاد في الحال كل إلى مكانه لأن وقت الحركة لم يحن بعد، فأغمض السائق عينيه، ورفع بائع التذاكر جريدته إلى وجهه وأخذ يقرأ.
جلست وفي نفسي أن انتظاري سيطول، لقد كان منتظر العربة مؤلماً جداً، كانت أطرافها ملوثة بالطين، وكان زجاجها مستوراً بطبقة من مياه الأمطار التي كانت تسيل عليها، وكان نورها ضئيلاً، وهي واقفة تحت سيل الأمطار الذي لم ينقطع منذ ساعات وقفة حزن وملل تنتظر الوقت لتسير. كم كان مؤلماً منظر الخيل وهي تنتظر بفارغ الصبر العودة في تلك الساعة إلى اصطبلها الدافئ، ومنظر السائق الذي هد ّ التعب جسمه وغلبه النعاس فلا يكاد يرفع رأسه، ومنظر بائع التذاكر الذي كان يود النزوح ولو بخياله عن خط الترام الذي هو كل ما تراه عينه في كل يوم منذ الصباح حتى المساء، فهو يتلهى بالنظر إلى جريدته كلما سنحت له الفرصة. .
كنت وأنا أنظر إلى المياه التي كانت تسح من مظلتي التي ابتلت من المطر الغزير فتؤلف دوائر، أقول في نفسي: (أن هذه العربة التي كادت قطعها تنفصل عن بعضها لكثرة ما حملت من الناس لأراحتهم، وهذين الحيوانين اللذين أكل عليهما الدهر وشرب، وهذين الرجلين البائسين، وهذا الخط الحديدي الذي يفسح لنفسه الطريق بين الأوحال من (الجسر) حتى (جنبرلي طائش). كل هؤلاء مكلفون في هذا الليل المدلهم بحملي وحدي بأجرة لا تزيد على قرش واحد).
دق الجرس فجأة ففتح السائق عينيه ونهض يتمطى، ونظر آلي ما حوله حيران كأنه يعجب من وجود عمل يجب القيام به في ذلك الوقت من الليل لإتمام عمل النهار. ففرك يديه وسار. فتنح الباب فهجمت منه موجة هوائية باردة، ثم خرج وأغلقه خلفه وبقي وحده معرضاً لموجات الهواء التي كانت تلطم عربة الترام.
انتفضت تلك العربة الكبيرة الثقيلة وتمطت واهتزت كأنها هي أيضاً كانت نائمة. وتحركت بحركة مزعجة، وأرسلت أصواتاً كأنها شكوى عميقة يثيرها اضطراب دائم، ثم سارت وهي تحمل مع اضطراب ألواحها الزجاجية جسمين مضطربين وهما بائع التذاكر وزبونها الوحيد.
تقدم بائع التذاكر من الراكب الوحيد وسلمه تذكرته وأستلم نقوده من غير ان ينبسا ببنت شفة، ثم عاد بائع التذاكر إلى جريدته يقرؤها، وعاد الراكب إلى ما أجتمع تحت مظلته من المياه ينظر أليها.
في تلك الأثناء كثر اهتزاز العربة. وأخرجت أصواتاً مزعجة كأن أسنان تلك العربة. ذلك المخلوق البطيء، تعض الخط الحديدي بشدة. مظهرة ألمها واستياءها، وصلنا إلى (سركه جي) فلم ير بائع التذاكر حاجة إلى وقوف العربة، وهي آخر العربات حركة، لوثوقه أنه لا يوجد راكب في مثل هذا الظلام البهيم، فصفر معلناً الحركة، ولكن السائق صاح قائلاً:
- راكب!
وقفت العربة فقلت في نفسي (شيء مؤلم! كم كنت مستريحاً وحدي!) ثم فتح الباب فما كدت أبصر الداخل حتى تغير رأيي، فقد كان الراكب الجديد فتاة شابة قد ابتلت ثيابها من المطر لأنه كان ينزل عليها فلا ترده عنها مظلتا الصغيرة، كانت صفراء الوجه من البرد، وكانت شفتاها متقلصتين وأسنانها مصطكة، وعليها ثوب أبيض فوقه معطف بني اللون لا يشك الناظر أليه في أن ذلك الشتاء لم يكن أول شتاء مر عليه. فجعلت بهذه الهيئة الفقيرة المؤلمة في الجهة المقابلة لي، وفي الحال مدت يدها الجامدة من البرد في قفازها الذي امتدت منه أطراف أصابعها والمحيط بأسلاك بيضاء، إلى جيب معطفها لتخرج منه حقيبة النقود، فأخرجت منديلاً أبيض ثم حقيبة تقادم عهدها وحال لونها لكثرة الاستعمال وتمزقت جوانبها، فأخذت تعالجها لتفتحها فلم تقدر كأن قفلها قد تعطل. فعالجتها المسكينة كثيراً، والحقيبة مصرة على ألا تنفتح، وبائع التذاكر واقف أمامها يهتز ذات اليمين وذات الشمال من حركة التزام وجريدته تحت إبطه، ينتظر النقود منها، لقد ملك النظر إلى الماء المتجمع أمامي من المظلة فرفعت رأسي أخذت أنظر أليها نظري إلى شيء جديد كانت هي على ما يظهر من حالها متألمة من عدم تمكنها من فتح الحقيبة بسرعة لأنها كانت تعالجها كمن يود كسرها، وأخيراً فتحت الحقيبة فأدخلت إصبعها فيها وأخذت تطوف يهما في جوانبها على ضوء العربة الضئيل.
لقد شعرت وأنا في مكان أن الحقيبة لا تحوى أشياء كثيرة يحتاج المرء معها إلى كثرة البحث والتنقيب. أدخلت يدها وهي في القفاز الممزق حتى غابت في الحقيبة وأخذت تبحث عن شيء صغير مختبئ هناك.
بعد بحث طويل بين أصابعها شيء صغير وهي تخرجه من الحقيبة فناولته إلى بائع التذاكر الذي لم يشأ أن يقطع لها التذكرة قبل أن يستلم النقود. . . . فتنفست الصعداء كأنها خرجت من مهمة صعبة وتمكنت من مقعدها كل التمكن. ثم رفعت عينها اللتين لم أستطع أن اعرف لونها تماماً.
لقد كانت تارة تنظر والعربة سائرة إلى قطع الجلود المتدلية من المسامير التي في سقف العربة، وآونة إلى المطر الذي يسمح من زاوية العربة، ثم إلى ما فوق رأسها لتعلم أين مكانها منه، وطوراً تقارب بين جفنيها وتتأمل في ضوء المصباح الضئيل، إلا أنها ضجرت من كل هذه الأشياء وسئمتها، فمسحت بظهر يدها زجاج العربة المبتل ونظرت إلى الشارع، لترى أقرب مكان نزولها أم لا يزال بعيداً؟ إلا أنها لم تر غير أشعة المصابيح الضئيلة التي تشع من الحوانيت القليلة في هذه الليلة الباردة فترقص أشعتها فوق الطين المتراكم في الشوارع.
وأخيراً نظرت إلى نظرة عجلي كأنني آخر ما يمكن أن يعرض على نظرها من الأشياء التي حولها. ولكنها وجدتني كبقية الأشياء التي استعرضتها أمام ناظريها ولم تجد فيها ما يوجب العناية، فاعترضت عني واستندت على مسند المقعد، ومدت رجليها وفيهما حذاءان عتيقان قد زر أحدهما وتمزقت عروة الثاني ولكنهما كانا جميلين، ووضعت إحدى رجليهما على الأخرى، ثم أصلحت قبعتها أسندت رأسها إلى ما خلفها وأخذت تنتظر.
هل كانت جميلة؟ لا أدري! ولكنها مع ذلك كانت مركبة من أعضاء صغيرة، حتى ليخيل للناظر إليها أن رجلاً من المولعين بالأشياء الدقيقة قد صاغها هذه الصياغة وركبها هذا التركيب، فهي مليحة بعينها الصغيرتين، وفمها الرقيق، وأنفها الدقيق، ووجهها المخروط، ولم يكن في ذلك الجسم المركب من تلك الاعضاء الصغيرة طويل غير قامتها، فقد كان طولها لا يتفق وصغر أعضائها، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من الملاحة. لقد كنت أشعر بشيء غريب لوجودي في تلك الليلة الشاتية في تلك العربة بجانب تلك الفتاة منفردين، كنت أشعر بلذة غامضة كالتي يتوهمها الإنسان عند قراءة شعر لا يفهم معناه. وفي تلك الأثناء رفعت رأسها بسرعة ومسحت زجاج النافذة ونظرت طويلاً نظرة تدل على ضجرها من التأخر. وكنا في ذلك الوقت نسير في محلة (جيفته حاووضلر) وكنت أقول في نفسي (أين تذهب هذه الفتاة في مثل هذا الوقت في مثل هذه الحالة الجوية؟). ثم ارتدت مسرعة عن النافذة، وانحنت قليلاً كأنها تريد أن تكلم بائع التذاكر الذي كان مغطياً وجهه بجريدته يغالب النوم ويغالبه، ولكنها لم تجرؤ أن تكلمه فنظرت إلى نظرة تدل دلالة واضحة على أنها تريد أن تسألني عن شيء، فنظرت إليها نظرة أسألها فيها عما تريد، إلا أنها بصورة من الصور لم تجد قدرة على الكلام فسكتت، ونهضت على رجليها ونظرت ثانية من النافذة، وفي هذه المرة ارتدت مصفرة فقلت لها:
- قالت بصوت رقيق يشبه جسمها الصغير بلهجة تدل على الحشمة والوقار:
- عفواً يا سيدي، فهل (الجسر) بعيد عنا؟
- فقلت:
- الجسر؟ أنتِ مخطئة أبتها الآنسة، إن هذه العربة تسير بنا إلى (آق سراي)
- فنظرت إلى وجهي نظرة جامدة كأنها لم تفهم شيئاً، وبعد أن وقفت مدة على هذه الصورة لا تجد في نفسها قوة على الاستيضاح قالت:
- إذن نحن الآن لا نسير نحو (الجسر)؟
- لفظت جملتها هذه بصورة تدل على فزع شديد علمت منه أنها ارتكبت خطأ، فداخلتني عليها شفقة وقلت:
- أنا آسف جداً يا آنسة، أنت تريدين الذهاب إلى (الجسر) إلا أنك ركبت عربة تسير عنه لا إليه، وقد أوقعك في هذا الخطأ ظلام الليل ودهشة المطر.
- كانت تسمع كلامي والبكاء يكاد يغلبها على عينها وتقول بصوت مسموع: لقد تاخرت كثيراً. ثم قالت بصوت يخالطه شيء من الأمل:
- إذن سأعود أدراجي من أول موقف.
- لقد وصلنا إلى موقف (صالقم سكود) فقلت لها:
- إنك مضطرة إلى الرجوع راجلة، فهذه آخر عربة ولا أظن أنك تجدين عربة في هذا المطر.
- فلما سمعت ذلك اضطربت اضطراباً عظيماً، وفي ذلك الوقت استيقظ بائع التذاكر واقترب منا يشاركنا في الحديث، ثم قال مبرثاً نفسه من التبعة:
- لماذا لم تذكري لنا المحل الذي تريدين أن تذهبي اليه؟. فلم تجد تلك المسكينة حاجة إلى الجواب، فنظرت إلي نظرة حائرة تطلب بها المد والمعونة، وقالت:
- لطفاً يا إلهي، في مثل هذه الساعة، في مثل هذا المطر، وفي مثل هذه الأزقةالمظلمة الخالية كيف أستطيع السير وحدي؟.
- لم أجد حاجة لا تخاذ قرار بعد ذلك في هذا الشأن، فقلت لها
- أيتها الآنسة، هل لك أن تقبلي مرافقتي حتى الجسر؟.
- فنظرت إليه بدهشة وصاحت:
- كيف ذلك يا سيدي؟ كيف تعود لأجلي في هذا الهواء؟
- وكيف أستطيع أن أقبل هذه النصيحة؟. .
- على أنه لم يكن أحسن من هذا الحل، لأن السائق كان بفارغ الصبر ينتظر الحركة، وبائع التذاكر ينتظر أن نعطى نتيجة حاسمة فقلت لها مصراً:
- أنت لا تقدرين على العودة منفردة في مثل هذا الوقت، ومن هذا المكان، مع أني أتمكن من أن أركب عربة وأعود من الجسر، وذلك يسير علي.
- فنظرت إلي عند ذلك نظرة فاحصة، وبتلك النظرة علمت صفاء نيتي وصدق عزمي فأظهرت الاطمئنان وقبلت مرافقتي قائلة:
- سمعاً وطاعة يا سيدي، لقد أظهرت إنسانية نبيلة وعطفاً كريماً، وأنا أقبلها مع الشكر.
- فتح بائع التذاكر الباب ليشرح للسائق القصة، فنزلنا نحن من الباب الثاني، وتحركت العربة في الظلام كأنها خيال ذو عينين صفراويتين؛ كان المطر إذ ذاك إلا أنه كان متوالياً، ففتحت الفتاة مظلتها، فلما تأملتها وجدتها ممزقة الأطراف، وفتحت أنا أيضاً مظلتي وأخذنا نمشي متكاتفين بقدر ما تسمح لنا المظلتان. كانت في ذلك الظلام الدامس قي تلك الشوارع الخالية تشعر أنها محتاجة إلى الاقتراب مني بدافع غريب مجهول المصدر يدفعها إلى ذلك، وكنت أنا أشعر بلذة منشؤها حمايتي لفتاة في مثل هذا الوقت. على تلك الحال كنا نمشي صامتين لا نتكلم، وكانت توسع خطاها لئلا تضطرني إلى المشي البطيء.
- كنت وأنا في الترام في شك من جمال هذه الفتاة ذات القامة الهيفاء، ولكنها الانفي الظلام كانت تتراءى لي جميلة.
- إن هذه المصادفة غربية جداً، وأظن أن تلك الفتاة التي رأيتها لأول مرة في حياتي وبسطت عليها ظل حمايتي لو كانت غير جميلة لكانت اللذة التي أشعر بها الان ناقصةكنت أقول وأنا سائر بجانبها يا لجمال عينيها الصغيرتين.
(البقية في العدد القادم) نزيلة بعلبك (فتاة الفرات)
تاريخ العالم القديم
تأليف الأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
للأستاذ المؤلف شغف كبير بالتاريخ القديم، فهو ما ينفك يقلب صفحاته، ويطيل النظر في أدق موضوعاته، حتى صار لهذا العلم المحل الأول من اهتمامه في درسه وفي أوقات فراغه، ولقد قام بتدريسه سنين متوالية في المعاهد الدينية، وعرف ما يوافق طباع الطلاب منه، ووقف على الاسباب التي تحبب إليهم موضوعاته، أو التي تنفرهم منها. وكانت ثمرة هذه الخبرة هذا الكتاب الذي أحداثك عنه، وهو في طبعته الرابعة هذه على خير ما تصدر به الكتب دقة طبع وسلامة ذوق.
أما عن موضوعاته فهو وفق المنهج الاخير لوزارة المعارف والمعاهد الدينية، يشمل تاريخ قدماء المصريين والإغريق والرومان على أن أهم ما في الكتاب هو تلك الطريقة الفريدة التي أتبعها الأستاذ في كتابة التاريخ، فلقد نبذ تلك الطرق التي تقتصر على سرد المعلومات الجافة يقصد بها استيفاء المنهج المقرر، ونفذ بخبرته إلى صميم الموضوع، فأهتم بالحياة الاجتماعية ومظاهرها في تلك العصور القديمة، إلى جانب اهتمامه بتفاصيل المنهج، كل ذلك في عبارة طلية متينة، مما جعل كتابة جم الفائدة، خفيف المحمل، أضف إلى ذلك ما يحتوي عليه ذلك الكتاب الفذ من الصور والخرائط، وكلها موضوع لغرض إيضاحي في تدبير حصيف وترتيب محكم مما لا نجد مثيلاَ له في غيره من الكتب، ولاشك هذه خير طريقة تحبب الى الاطفال دراسة التاريخ والاستزادة منه.
لئن كان أثر المؤلف مرآة نفسه، فإن كتاب الاستاذ السرنجاوي خير شاهد على ذلك، فإنك تلمس فيه هدوء طبعه، وقوة منطقه وعذوبة روحه وسلامة لفظه، واني لأتقدم الى الاستاذ بالثناء على بذل من جهد، وبصادق التهنئة على ما صادف عمله من نجاح.
الخفيف
الرائد
في تاريخ الأدب العربي ونصوصه ومتن اللغة.
هذا كتاب جديد في تاريخ الأدب العربي أخرجه في هذه الايام صديقاي الفاضلان الاستاذ عبده زيادة عبده المدرس بمدرسة الخديوي اسماعيل الثانوية الملكية، والاستاذ محمد السيد عامر المدرس بمدرسة بنبا قادن الثانوية الملكية، وهو يتألف من جزأين أولهما في منهاج تاريخ الأدب الاخير للسنة الثالثة للمدارس الثانوية ومدارس المعلمين والمعلمات، وثانيهما في منهاج تاريخ الأدب الأخير للسنة الرابعة للمدارس الثانوية.
وقد ألف في منهاج الأدب للسنتين الثانويتين كتب غير كتاب الأستاذين، ولكنه جاء آخرها فتداركا به ما فاتها وامتاز عليها بأمور كثيرة، وقد قال الاستاذان في ذلك: (ولسنا ننكر أن للكتاب أنداداً، غير أن بعضها على قيمته جاوز المنهج الجديد فعاد كتاباُ للمتأدبين، لا لطلاب يتقدمون الى الامتحان في موضوع بعينه، وبعضها جاء مقصوراً على فن واحد من فنون كتابنا هذا، وبعضها علا أسلوبه ودقت إشاراته على الناشئين حتى ما يستطيعون في غير عناء أن يدركوا ما يريد.
وقد عنيا في هذا الكتاب أن يعالجا مسائل الأدب بذكر المقدمات في شيء من البسط ليخلصا الى مسائلة واضحة معقولة، وأن يحللا نصوصه الأدبية من جميع نواحيها لغة ومعنى وأعراباً وبلاغة الا أن يتركا لقدر التلاميذ بعض الأبيات والجمل ليحاولوا شرحها على مثال ما فعلاً ولا يهملوا مداركهم فتنشأ لا تبنى الا على مثال.
وقد سار الاستاذان على هذه الخطة القويمة التي خطاها بأنفسهما في كتابهما بما نعهده فيهما من علم واسع وانشاء مهذب وترتيب محكم، فيسرا لطلاب هاتين السنتين منهاجيهما الأدبي تيسيراً، وأصبحت طلبتهم منهما فيه سهلة المنال دانية القطوف، فنحمد للاستاذين ما بذلاه من جهد نقدره لهما، وتترك من أجله بعض أمور نخالفهما فيها وقد تابعا فيها غيرنا، ولكل وجهة هو موليها.
عبد المتعال الصعيدي
رواية ابنة الشمس
تأليف فرنسيس شفتشي
نالت هذه القصة التمثيلية جائزة وزارة المعارف العمومية في مباراة سنة 1932، ولقد قرأتها دون أن يكون لهذا الاعتبار تأثيراً في نفسي فألفيتها قصة ممتعة طريفة، جديرة بما نالت من حظوة واستحسان فلقد نجح المؤلف نجاحاً عظيماً في تصوير المجتمع المصري في عهد الملك رعمسيس الثاني، كهانة وسحراً وطباً وعرافة وسياسة، كما أنه قد نجح في تصوير بعض العواطف الإنسانية تصويراً بارعاً كالشفقة والحب والشك والطمع والحسد والاخلاص والخيانة وغيرها. كذلك أحسن المؤلف تصوير أشخاصه ففنه في هذه الناحية قوي. ولقد استمر على فطنته ويقظته في ما يتعلق بصفات أشخاصه حتى آخر القصة.
بيدي أني أرى في القصة بعض المآخذ. لابد لي اذا توخيت الإنصاف من مصارحة المؤلف الفاضل بها وأول هذه المآخذ أن عقدة القصة مبهمة. فقد حاولت أن انتخب من بين حوادثها حادثة أعتبرها الرئيسة فلم اوفق الى ذلك. فهنا بنت أنات تحب بنطاؤر. وهناك نيفرت تحب سينا. وهذا بعاكر قائد الطليعة يريد أن يكيد للملك. نعم إن هذه الحوادث لاتعدم رابطاً يربطها، غير أنها روابط سطحية وليست روابط البسط أو حل العقدة التي تتشعب منها القصة مما كاد يخلي القصة من التطور ويفقد القارئ الانتظار. فكل منظر يكاد يكون مستقلاً، هذا إلى أن المؤلف قد جعل خاتمة المأساة متوقفة على نصيب رمسيس في الحرب، وهذا معروف للقارئ، فكأن القارئ يعرف ما سيؤول اليه أمر العصاة ومدبري الثورة، وهذا ما يقضي على استمتاعه قبل نهاية القصة، ولو أن المؤلف علق انتهاء القصة على حادثة غير هذه لاحتفظ بروعتها حتى النهاية.
كذلك نجد في القصة عدة مواقف قوية، ولكن المؤلف أضعفها بفتور العبارة أحياناً وبسذاجة الحوار أحياناً أخرى، أو بارسال الحوادث على غير ما يتفق مع الموقف وما ينتظره القارئ في ذهنه. هذا الى أنه في بعض المواقف أورد حوادث ما كان يتصور وقوعها بمثل هاتيك السهولة كرجوع بنطاؤر عن فلسفته بتلك السرعة وانقياده الى بنت أنات كأنما كانا يتباحثان في موضوع تافه. وكتصريح بنطاؤر بحبه الى صديقه نبشت دون تردد أو تحفظ. وكسرعة انتقال وردة من الألم الشديد الى الهدوء لدنو لقاء الأميرة. . الخ. ولقد كان المؤلف يحاول تغطية هذه العيوب بحوار على لسان الأشخاص. ولكنه في رأيي كان يكشفها بذلك.
ولم يعجبني من المؤلف الجمع بين التأليف والتمثيل في كتابته فكان يشير كثيراً الى ما ينبغي أن يحدث على المسرح وأظن ذلك من عمل المدير الفني.
ولقد قدم لكتابه بتحليل ضاف إذا قرأته عرفت القصة كلها فلن تعجب بها إلا على المسرح.
ولكن هذه المآخذ على تنوعها لاتذهب ببهاء القصة، ولاتنقصها قدرها، ولاتضيع طرافتها، ورجائي الى المؤلف الفاضل أن يثابر على التأليف للمسرح، فعنده استعداد عظيم وملكة قوية تضمن له التبريز في هذا المضمار.
الخفيف