مجلة الرسالة/العدد 64/الصورة والتصور والتصوير

مجلة الرسالة/العدد 64/الصورة والتصور والتصوير

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 09 - 1934



للأستاذ الحوماني

صاحب مجلة العروبة

هنالك في حيز الشعر صورة وتصور وتصوير , ولكل منها نصيب من الجمال في الحياة، ومناط الجمال في كل منها إنما هو الفن إذا صح إطلاق الفن وحده على الشعر كما سترى. فالصورة إحدى ظواهر الطبيعة وهي إما حقيقة أو خيال - والتصور مرور الفكر بهذه الحقائق يتصفح صورها - والتصوير إبراز هذه الصور إلى الخارج بشكل فني، فالتصور إذن هو العلاقة بين الصورة والتصوير وأداته الفكر فقط، وأما التصوير فأداته الفكر واللسان، والصورة يتعاقب عليها فنان: فن المبدع وفن المصور، ويقال للمصور مبدع إذا كانت الصورة من خلقه، وهو يتصفح الحقائق فينتزع منها صورة مركبة نسميها خيالا. فالخيال لا يخلو من رمز يشير لك إلى المبدع الأول مهما افتن الشاعر في صرفك عن لحظة. فالمرأة ظاهرة من ظواهر الفن الطبيعي، وتصويرها إحدى ظواهر الفن الصناعي. فجمال النفس فيها إنما هو جزء من روح مبدعها الأول، وجمال الشعر في تصويرها إنما هو من روح مبدعها الأخير.

والتصور الذي هو لحاظ الفكر صور الحقائق يختلف شدة وضعفا باختلاف الفكر الذي هو أداته، فتصور الشاعر جمال الفن في إحدى ظواهر الحياة إنما هو الإحاطة بدقائقها واكتناه السر الذي كانت له، والصورة الفنية إنما تتكون من جليل تحف به دقائق يمتاز بالوصول إليها شاعر الفن من غيره، ومناط الجمال في تصوير الشاعر وقوفه على دقائق لا يتبينها في الصورة الفنية سواه، ففي كل صورة فنية طبيعية كانت أم صناعية من معجزات الفن ما هو ظاهر وما هو خفي. فالشاعر يمتاز من غيره بتصور هذا الخفي ثم لا يكون فنانا حتى يصوره. فالرسام إنما يصور لك المرأة الجميلة حتى كأنك ترى شخصها، والشاعر إنما يصفها لك حتى كأنك تلمس روحها، إنما يصور ذلك ويصف هذا، وكلاهما شاغر فنان، بفضل ما يدركان من خفي ما أبدعه الفن في الصورة الجميلة فيصورانها. من ذلك نصل إلى أن الشاعر لا يفهمه كالشاعر وناقد الفن يجب أن يكون فنانا، ولا تنس أن الشاعر إنما يفهم الشاعر الذي هو دونه أو مساو له، وأما من حلق عليه فلا ينبغي له أن يمد بصره إلى أفقه وهو يحاول نقده حتى يكونه، على أن الشاعر لا يجب في النقد أن يكون فنانا، فرب شاعر غير فنان يستطيع بما أوتيه من فكر أوتى دقة التصوير أن ينقد الشاعر الفنان.

فالدكتور طه حسين يستطيع أن ينقد أمير الشعراء لا من حيث كونه شاعرا فقط، إذ هو في الفن دون أمير الشعراء، ولكنه في تذوق الفن قد يكون فوقه أو مساويا له، فليس الشعر مرادفا للفن ولا الفن مرادفا له. وقد يكون الشعر فنا كما فد يكون الفن شعرا. والشاعر الفنان يستطيع أن ينقد الشاعر فنانا وغير فنان، فكل من أبدع في التصوير كان في حيزه الإبداع في التصور، وقد يكون في حيز الإبداع في التصور الإبداع في التصوير، وإذا صح لنا أن نطلق على الشعر أنه تصوير الجمال في الحياة صح لنا أن نطلق عليه جمال التصوير، فحيث يكون تصوير الجمال يكون جمال التصوير، وقد يخامر السامع ريب في صحة الأول، وأن الشاعر قد يصور قبيحا في الحياة فلا يخرجه عن كونه شاعرا فيما صور، وجوابه سهل فيما إذا لحظنا ثبوت كون الجمال نسبيا في الحياة وانه لا قبح فيها، وإنما هو جميل كما مر بك في القول على الجمال.

وأما إذا اعتمدنا القول في أن الصور الفنية في الحياة ما هو حسن وما هو قبيح لزمنا القول في أن حد الشعر بجمال التصوير أصح، ولزمنا من جهة أخرى نفي الجمال المطلق عن الفن الطبيعي وهو مرآة الفن الصناعي، فلزم الفرق بين فن الطبيعة وفن الإنسان من حيث حده وتعريفه، وهما فن واحد، إلا أن يكون القبح في الصور الفنية عارضا بعد كونها والجمال ذاته فيها فيستقيم إذ ذاك تحديده الثاني. فالطبيعة لم تبدع غير جميل، وما يتراءى لنا قبيحا فلعارض حور مجراه الطبيعي في نفوسنا، أو لسر فيه خفي عنا إدراكه فعز علينا مناط الجمال فيه، وليس الجمال في الصورة أو التصوير مناطا للجمال في التصوير، ولا شئ من جمال التصوير أو قبحه يستلزم جمال الصورة أو قبحها، فأي جمال في صورة الأحدب يستلزمها جمال تصويرها في قول الشاعر:

قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا

أو انه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا

فاللازم إنما هو جمال التصوير فقط، وجمال التصوير يتحقق في نقل الصورة على أتم وجه وبأسلوب جميل، والصورة أعم من أن تكون في الخارج كصورة الأحدب التي مرت بكأو في النفس كما في قوله:

أعانقه والنفس بعد مشوقة ... أليه وهل بعد العناق تدان؟

وألثم فاه كي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقي من الهيمان

وما كان مقدار الذي بي من الجوى ... ليطفيه ما ترشف الشفتان

كأن فؤادي ليس يطفي غليله ... سوى أن ترى الروحان تمتزجان

فلم يكن الشاعر ليصف لك في هذا المشهد صورة العناق في الخارج، وإنما يريد أن يصور لك حالة نفسية تعتريه كما تعتري كل عاشق، وهي انفعال النفس بما تجده في قرب من تحب. وبلوغها حدا لا تشعر معه حتى تبلغ النهاية في ثورتها وهي امتزاج الروحين، ولم يكن ليطفئ ثورتها تلاصق الجسدين، ووضع الشفاه على الشفاه وهما طريقها إلى الغاية التي تصبو إليها. على أني لا أرضى عن الشاعر في إنكاره أن وراء العناق تدانيا، فالحب أسمى من أن تناله المادة وهو وليد الروح، ولعل دموع الحب عصارة هذه النفس المتألمة من وراء انفعالها به، فإذا كانت الروح مناط هذا الحب فأنى للجسم أن يطفأ ثورته بالتقبيل أو العناق، والصلة بين المتحابين إنما تتحقق في امتزاج روحيهما، فقد يتلاصقان ولما يزول هنالك بعد بين الروحين، وحجاب كثيف يحول دون امتزاجهما. أفلا يكون إذ ذاك تدان وراء العناق؟ على أن في البيت الأخير وجعله امتزاج الروحين مناط شفاء النفس دليلا على أنهإنما يقصد بقوله (وهل بعد العناق تدان) أن العناق أقصى ما يبلغه الحب في الصلة بين شخصي المتحابين لا أن مطلق التداني مرة وراء الحب قاصر على العناق إذ صرح فيما بعد أن هنالك امتزاجا في الأرواح، وهو أشد ارتباطا في الحب من العناق، وأبلغ تدانيا منه. إذا وصف الشاعر قبيحا فأبدع في تصويره، فقد صور لك جمال الفن فكان صادقا عليه إذ ذاك أنه مصور لجمال الحياة إذ الفن من الحياة، فتصويره تصوير لجمالها أو لناحية من نواحي الجمال فيها. فقد لا تجد أثرا للجمال في كوخ بال قذر يمرح فيه الفأر وتعلو جدره العناكب ويسود أفقه البق، وقد جلس في إحدى زواياه شيخ بالي الطمر وبين يديه سراج ضئيل يقاسي إلى جانبه آلام البؤس. وقد يبدو لك ذلك قبيحا وأنت تشرف عليه أو تلج إليه فتصفر الحياة في عينك ماثله بين جدره. ثم إذا صور لك رسام مفننٌ حرك منظره من نفسك بين روعة الفن وجمال التصوير ما يقف بك خاشع الطرف بين يدي الفن وجلاله، وهكذا تراك وأنت تقرؤه في قول الصافي:

أكافح البرد في سراج ... يكاد من ضعفه يموت

في غرفة كلها ثقوب ... أو شئت قل كلها بيوت

يسكن فيها بلا كراء ... فأرُ وبقَُ وعنكبوت

فمناط الشعر في ذلك إنما هو جمال التصوير، ولعل الخيال أوفى نصيبا من الحقيقة فيه. ففي قوله (يكاد يموت) و (كلها بيوت) و (بلا كراء) من جمال الفن ما لم تكد تعثر عليه فيما لو جردت الأبيات منها، ولم يكن ليستطيع الصافي أن يصور لك الجمال في البؤس لو لم يكن هو بائساً، ولعل أشعر الناس بالبؤس هو ألصقهم به وأقربهم نفسا منه. إذ البؤس إحدى ظواهر الحياة في الحي، والصورة الفنية إما أن تكون حقيقة محضة أو ملفقة من الحقيقة والخيال، فالأولى تتحقق في نقلها لك كما في الواقع حتى كأنك تراها حقيقة مجردة عن الخيال كما مر بك في تصوير الأحدب في قول أبن الرومي، والثانية نقلها لك وليدة خيال يوهمك وجودها في الخارج كقوله:

خلا يدك البيضاء ذمَُ وللندى ... على حافتيها مسرح ومقيل

حمت غصن المعروف أن يخطئ الجني ... وزهر الندى أن يعتريه ذبول

لم يشأ أن ينقل صورة الغصن أو صورة المعروف ولا صورة الزهر أو صورة الكرم، وإنما شاء أن ينقل لك صورة لفقها الخيال من كلتا الصورتين عن طريق الاستعارة ومن وراءها التشبيه المطوي كما يحققه علماء البيان.

بيروت

الحوماني