مجلة الرسالة/العدد 64/انقلاب عظيم في السياسة الدولية

مجلة الرسالة/العدد 64/انقلاب عظيم في السياسة الدولية

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 09 - 1934



روسيا البلشفية في عصبة الأمم

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تجوز العلائق الدولية في تلك الآونة أعظم انقلاب عرفته منذ الحرب الكبرى، وتستعد عصبة الأمم لإستقبال أعظم حادث عرفته في تاريخها، فمنذ أشهر يجري الحديث بأن روسيا السوفيتية ستدعى إلى الالتحاق بعصبة الأمم. وستغدو عما قريب عضواً فيها، وتتمتع بكرسي دائم في مجلسها. وقد كان ذلك مثار دهشة وريب ممن يعرفون ظروف روسيا السوفيتية، ونزوعها إلى التباعد عن الدول الغربية، وما تقضي به طبيعة ونظمها من مخاصمة الحكومات (الرأسمالية)، ومناوأتها بكل الوسائل الخفية، والعمل على هدمها وهدم النظم التي تحميها، إضرام نار (الثورة العالمية). وقد كان للبلاشفة في عصبة الأمم منذ قيامها رأي يناقض ما يرونه اليوم كل المناقضة، فقد كانت في نظرهم عصابة من الدول الرأسمالية تحركها هذه الدول وتوجهها كيف شاءت، وهيئة إستعمارية منافقة تعمل من وراء ستار لتحقيق غايات الاستعمار الغربي، وأداة لتمكين نير الأمم القوية الغالبة من أعناق الأمم الضعيفة المغلوبة، وكانت الحوادث تؤيد كثيراً من هذه الريب الظنون، فلم تر الأمم الضعيفة ولاسيما الأمم الشرقية شيئاً من الأنصاف على يد عصبة جنيف، بل إبتدعت لها نظام الانتدابات أو الحماية المقنعة لتسبغ على استعبادها صفة مشروعة، ولم تحول مرة أن تحد من مزاعم الدول الاستعمارية أو أطماعها - وهذه الدول هي بعينها التي تسيطر على مجلس العصبة - ولم تجرؤ مرة على أن تصدر في أي المسائل التي طرحت أمامها أي قرار يناقض آراء هذه الدول أو غاياتها، ولازلنا نذكر موقفها من النزاع بين تركيا وإنكلترا على كردستان، والصراع بين الصين واليابان على منشوريا، وخذلانها حينما احتلت إيطاليا كورفو، وتملها فيما اقتضته من العراق شرطاً لالتحاقها بالعصبة، وموقفها من أماني فلسطين وسوريا، ولا زلنا نذكر بالأخص موقفها العقيم من مسألة نزع السلاح وفشلها الذريع في معالجتها، وسواء كانت روسيا السوفيتية مخلصة في رأيها بالنسبة لعصبة الأمم أم كانت تمليه بواعث السياسة فقط، فأن العصبة لم تحقق خلال هذه الأعوام العديدة من حياتها شيئاً مما علق عليها من الآمال في إنصاف الشعوب المظلومة أو تخ الخصومات القوية أو توطيد دعائم السلام.

والآن ماذا حدث؟ لقد تورطت العلائق الدولية خلال الأعوام الأخيرة تطوراً سريعاً مدهشاً، وأخذت روسيا تخصم من خصومتها للدول الغربية شيئاً فشيئاً، وأخذت الدول الغربية في التقرب من حكومة موسكو البلشفية، بعد ما لبثت أعواماً تحاول القضاء عليها، وتحشد لمناوأتها كل ما استطاعت من القوى الخفية والظاهرة، وعاد عهد التوازن الأوربي القديم وعهد المعاهدات السرية والمحالفات السياسية والعسكرية، وغاض ذلك الأفق المصطنع الذي ساد فيه حديث السلام والتضامن الدولي مدى حين. وقد كان من الطبيعي أن يعتبر التحاق روسيا بعصبة الأمم عاملاً في صفاء الأفق الدولي، وتعضيد قضية السلام، لأن تباعدها عن الدول الغربية كان عقبة دائمة في سبيل تقدم التفاهم الدولي واستقرار العلائق الدولية، وعدم اعترافها بالعصبة يعرض جهودها في سبيل السلام للانهيار: هذا على الأقل ما كان يتردد في دوائر جنيف حبط مسعى في سبيل التفاهم أو مجهود في سبيل نزع السلاح. ولكن التحاق روسيا اليوم بعصبة الأمم يدلي بمعان أخرى. وروسيا لم تغير رأيها في العصبة ولا في الدول (الرأسمالية) التي تتكون منها، ولكن روسيا اليوم تعلق على هذا الانضمام آمالاً كبيرة وترى أنه يحقق لها من المصالح ما لم تحققه سياسة القطيعة والعزلة، والسياسة الغربية التي تسعى منذ حين لتحقيق هذا الانضمام تحاول أن تقنعنا بأنه يزيد العصبة قوة ويزيد كلمة أوربا توحيداً، ويقرب أمد التفاهم في مسألة نزع السلاح، ويعاون على استقرار السلم في أوربا، ولكن الحقيقة أن هذه النظرية القديمة قد تطورت اليوم، وما ترشيح روسيا لدخول العصبة إلا نتيجة لسياسة التوازن الأوربي الجديدة التي ظهرت بوادرها قوية منذ قيام الحركة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا وظهورها بمظهر المهدد لسلام أوربا، وفشل مفاوضات نزع السلاح وعود فرنسا صراحة إلى السياسة القومية القديمة بحجة الدفاع عن نفسها أمام الخطر الألماني. ومنذ عامين ونحن نشهد نتائج هذا التطور الجديد، في وقوع الجفاء بين ألمانيا وروسيا أولاً، ثم انتهاز فرنسا لهذه الفرصة وتقربها من روسيا، وتفاهم الدولتين على إحياء التحالف الفرنسي الروسي القديم الذي كان قائماً قبل الحرب، ثم مساعي السياسة الفرنسية المتواصلة في جمع كلمة دول أوربا الشرقية حولها في كتلة واحدة تخاصم ألمانيا جميعاً، وحملها حليفاتها دول الاتفاق الصغير على الاعتراف بروسيا السوفيتية إلى عصبة جنيف.

ولروسيا صلة قديمة بعصبة الأمم وإن لم تكن من أعضائها، فقد اشتركت في لجنة نزع السلاح ومؤتمراته بصفة رسمية منذ سنة 1925، وقدمت أليها عدة مشاريع لنزع السلاح كانت جميعها مثار البحث والمناقشة ولكنها رفضت جميعاً، وكانت السياسة الروسية خلال هذه الأعوام تثار على خصومتها لعصبة الأمم وعلى الطعن فيها وفي نزاهة مقاصدها، وتتخذ من فشل مؤتمر نزع السلاح دليلاً على نفاق الدولة الغربية وتمسكها بسياسة الحرب السوفيتية. أما اليوم فأن روسيا لا تأتي التفاهم مع الدول الغربية والاندماج في عصبة جنيف. ووراء هذا التطور الخطير في سياسة البلاشفة عاملان جوهريان: الأول حوادث الشرق الأقصى، والثاني موقف الدول الغربية من روسيا السوفيتية، فأما من الشرق الأقصى حيث تسيطر روسيا على أراض ومصالح عظيمة، فقد نشط الاستعمار الياباني في الأيام الأخيرة نشاطاً عظيماً وأنتزع إقليم منشوريا من الصين، ولم تحفل اليابان باحتجاج الدول الغربية أو تدخل عصبة الأمم، وآثرت أن تنسحب من العصبة لكي تكون مطلقة اليدين في تنفيذ برنامجها الاستعماري، ولم تحجم عن أن تصرح بأنها تعتبر الصين ميدان نشاطها وتوسعها دون غيرها من دول الغرب، وإنها ستقاوم كل محاولة جديدة تقوم بها الدول الغربية لتوسيع نفوذها أو مصالحها في الصين، ولما كانت روسيا تجاوز اليابان في الشرق الأقصى في أكثر من منطقة، فأن هذه السياسة اليابانية الجديدة التي تؤازرها عسكرية قوية تهدد أملاكها ومصالحها أعظم تهديد، وروسيا تريد من أجل ذلك أن تصفي خصومتها مع الدول الغربية لكي تستطيع أن تتفرغ لمقاومة هذا الخطر. وأما عن موقف الدول الغربية إزاء روسيا السوفيتية، فأن هذه الدول قد نبذت خصومتها المطلقة القديمة لروسيا بعد ما اقتنعت بأنه يستحيل عليها أن تسحق الثورة البلشفية، وبعد ما تطورت البلشفية ذاتها وتركت كثيراً من تطرفها القديم وآثرت جانب الاعتدال، أصبحت روسيا تميل إلى العودة إلى حظيرة أوربا القديمة والتفاهم مع الدول الغربية و! عطاء بعض الضمانات السياسية والاقتصادية، وقد كانت السياسة الفرنسية روح هذه التطور كما بينا لأن فرنسا أشد الدول اهتماماً باكتساب تلك القوة العظيمة في شرق أوروبا، لتعود كما كانت قبل الحرب مصدراً للخطر على ألمانيا يزعجها ويشغلها.

وقد نجحت السياسة الفرنسية في إقناع إنكلترا وإيطاليا بتعضيد التحاق روسيا بالعصبة، وهذه الدول هي التي تسيطر على مجلس العصبة (بعد انسحاب اليابان وألمانيا) وجرت مفاوضات تمهيدية بين فرنسا ومعظم الدول المنضمة إلى العصبة لتوافق على قبول روسيا، واستطاعت أن تحقق الأصوات اللازمة لذلك، ويشترط لقبول الدولة المرشحة أن يؤيد قبولها ثلثا أصوات الجمعية العمومية وإليك ما ورد في ميثاق العصبة بخصوص ذلك.

(كل دولة، أو ملك مستقل (دومنيون) أو مستعمرة تحكم نفسها حرة لم يرد أسمها في الملحق (ملحق الدول المنضمة) تستطيع أن تغدو عضواً في العصبة إذا وافق على دخولها ثلثا الجمعية العمومية بشرط أن تقدم الضمانات اللازمة على إخلاص مقاصدها وعلى مراعاة تعهداتها الدولية، وأن تقبل القواعد التي تقررها العصبة بخصوص القوات والتسليحات العسكرية والبحرية والجوية) (المادة الأولى الفقرة الثانية).

(تتآلف الجمعية العمومية من ممثل أعضاء العصبة، وتجتمع في أوقات معينة أو في وقت آخر إذا اقتضت الظروف ذلك في مركز العصبة أو في محل آخر يختار لذلك، وتختص الجمعية بالنظر في كل مسألة تدخل في دائرة نشاط العصبة أو تتعلق بسلام العالم، ولا يجوز لأي عضو في العصبة أن يختار لتمثيله في الجمعية أكثر من ثلاثة مندوبين ولا يحق له اكثر من صوت) (المادة الرابعة)

وأما عن مجلس العصبة فقد ورد الميثاق ما يأتي: (يتكون المجلس من ممثلي الدول الكبرى المتحالفة والمشتركة، وكذلك من ممثلي أربعة أخر من أعضاء العصبة. وهؤلاء الأربعة تختارهم الجمعية حسب رغبتها وفي الوقت الذي تختاره لذلك. . . ويستطيع المجلس بموافقة أغلبية الجمعية أن يعين أعضاء آخرين من أعضاء العصبة يكون لهم كرسي دائم في المجلس، ويستطيع بنفس الطريقة أن يزيد في عدد أعضاء العصبة الذين تختارهم الجمعية للمثول في المجلس) (المادة الرابعة فقرة أولى وثانية)

أوردنا هذه النصوص لنبين الإجراءات اللازمة لالتحاق دولة ما بالعصبة، ثم لنبين أهمية الكرسي الدائم في المجلس، ذلك أن روسيا مرشحة للفوز بكرسي دائم في المجلس إلى جانب باقي الدول العظمى، وقد تمت الإجراءات الخاصة بترشيح روسيا في الجمعية العمومية، وحصلت روسيا على أكثر من ثلثي أصوات الجمعية، ولم يعارض في قبولها سوى ثلاث دول أو أربع هي سويسرا وهولندا والأرجنتين وبلجيكا، وعقب ذلك دعوة العصبة لروسيا للانضمام إليها وقبول روسيا لهذه الدعوة، وبذا تمت الإجراءات وغدت روسيا عضواً في عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى في الهيئة التي شد ما خاصمتها وحملت عليها، ومما يلفت النظر أن هذه الإجراءات تجري وروسيا بعيدة عنها لا تحرك ساكناً ولا تصرح بشيء ولا تعلق صحفها بكلمة، ولتفينوف المشرف على الشئون الخارجية الروسية يقيم في أحد مصايف فرنسا الجنوبية. ذلك أن هذه الحركة كلها من صنع فرنسا وهي التي تحمل كل أعبائها وتسهر على تنفيذها، وقد جرت جميع المفاوضات بشأنها وراء الستار مما أدى إلى احتجاج بعض أعضاء العصبة، فقد حمل مستر دي فاليرا ممثل أيرلندة على هذه السرية، ونوه بما فيها من الشذوذ. ولكن كل شيء يسير مع ذلك وفقاً للبرنامج المرسوم.

ومن المعروف أن دخول تركيا في العصبة إنما هو نتيجة لدخول روسيا فيها. وقد كانت تركيا تحذو حذو حليفتها الكبيرة في موقفها إزاء العصبة وتنظر إليها بنفس نظرتها، وهي الآن تسير وراءها في سياستها الجديدة.

ولهذا التطور الذي انتهى بإقبال روسيا على عصبة الأمم واندماجها في زمرة الدول الغربية مغزى عظيم فيما يتعلق بمصاير روسيا البلشفية ذاتها، فقد كان شعار موسكو منذ ظفر البلشفية في سنة 1917، خصومة العالم (الرأسمالي) كله، والعمل على إضرام نار الثورة العالمية في سائر جنباته، ولم يقبل البلاشفة في ذلك أي مناقشة أو هوادة، وكانت الشيوعية تتقدم في غزو الدول الصناعية تقدماً حثيثاً، وتؤازرها موسكو بكل ما وسعت. ولكن البلشفية لم تستطع أن تعيش طويلاً بمثلها وغايتها المتطرفة ولم تلبث أن تأثرت بقطيعة العالم ومقاومته، اضطرت أخيراً أن تسلك مسلك الاعتدال سواء في سياستها الداخلية أو الخارجية. ورأى سادة موسكو أن موارد روسيا البلشفية وقواها المادية والمعنوية تتحطم تباعاً أمام ضربات الدول الغربية، وأن روسيا لا تستطيع الحياة إلى الأبد في ظل نظام يؤلب عليها العالم كله، ويحرمها من كل عطف وتعاون، فجنحوا إلى تغيير السياسة القديمة ومدوا يدهم إلى الدول الغربية، ولم تهمل الدول الغربية الانتفاع بهذه الفرصة فمدت يدها إلى روسيا وجذبتها إلى حضيرتها، فالآن نستطيع أن نقول أن البلشفية قد دخلت في دور انحلالها، وأنها تنزل شيئاً فشيئاً عن مثلها وغاياتها الثورية المتطرفة، وأن روسيا تعود شيئاً فشيئاً إلى حظيرة الماضي، في ظل نوع من اشتراكية الدولة لا يلبث أن يستقر أو يختفي مع الزمن.

وترى الدولة الغربية أن دخول روسيا في العصبة بقوتها كهيئة دولية ويزيد في هيبتها ونفوذها في سير السياسة الأوربية خصوصاً بعد أن غادرتها اليابان ثم ألمانيا. وقد يكون ذلك صحيحاً من الوجهة المحلية، لأن العصبة تتخلص بذلك من خصم قوي كان يشتد في مناوأتها، وتكسب نفوذاً جديداً في مسائل أوروبا الشرقية. ولكن العصبة لا تكسب كثيراً من الوجهة العامة، ذلك لأنها قد خسرت كثيراً من هيبتها ونفوذها خلال الأعوام الأخيرة، ونستطيع أن نقول إنها فقدت نهائياً ثقة العالم كعامل في توطيد السلم العالمي، وأداة من أدوات التفاهم الدولي والعدالة الدولية، وقد اختفت مثل العصبة القديمة بعد تخبط وفشل استمرا منذ قيامها، وبعد أن قدمت الأدلة العملية العديدة على أنها لا تستطيع العمل إلا في الدائرة التي ترسمها الدول المستعمرة المسيطرة على مجلسها وعلى إرادتها. على أنه تترتب على هذا التطور نتيجة هامة هي توطيد دعائم التوازن الأوربي وإقصاء شبح الحرب من أوروبا إلى حين. ذلك أن وقوف روسيا إلى جانب فرنسا ودول الاتفاق الصغير على نحو ما بينا القوى الجبهة الشرقية المعادية لألمانيا، ويحمل ألمانيا على التأمل والتريث، ويزيد من جهة أخرى في طمأنينة فرنسا، وفرنسا وألمانيا هما طرفا الخصومة الأوربية، وعلى موقفها وعلائقهما يتوقف السلام والحرب إلى حد كبير. وهذا التحالف بين فرنسا وروسيا يعود بنا إلى ما قبل الحرب، وهو نتيجة طبيعية للسياسة التقليدية التي سارت عليها روسيا وفرنسا منذ الحرب الفرنسية الألمانية في سنة 1870، وأثناء الحرب الكبرى.

محمد عبد الله عنان المحامي