مجلة الرسالة/العدد 64/طغيان النيل

مجلة الرسالة/العدد 64/طغيان النيل

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 09 - 1934


على الشاطئ الغريق. . .

هكذا الطغيان يا نيل يجعل مصدر الحياة مورد هلكة، ومنبع الخيرات مغيض بركه، وأصل العمارة غاية دمار وخسر!!

هذه شواطئك الخضر يا نيل كانت بالأمس تتنفس بالنعيم، وتتدفق بالخير، وتترقرق بالجمال، فأصبحت اليوم تختنق بالأخطار، وتلتطم بالمخاوف، وتهدد الحقول الغنية الخصيبة بالفاقة والجدب، وهذه مدنك البيض وقراك السمر كانت تتفيأ على ضفافك ظلال الخفض، وترمق من خلال النخل أمواجك المرسلة المسلسلة، وهي تقع بين القصب الألف ألحان الثراء والغبطة فتعز بك وتقدس لك، فأصبحت تحشد في وجهك الجنود، وتقيم بينها وبينك السدود، وتضرع إلى الله أن يصرف عنها طغيانك وجورك! وهؤلاء أبناؤك الوادعون كانوا يتعهدون بالعمل الدائب غرسك الزكي وثمرك الغالي، فيدفعون الحشرات عن القطن، ويدرؤون الطفيليات عن الذرة، ويسلسلون في الحقول نضارك الذائب، ويستقبلون بالشوق الأمل موسمك الآئب، فأصبحوا هم من هولك قائمون على رجل، لا يستقر لهم جنان من الروع، ولا يطمئن بهم مجلس من الجزع، ثم أمسوا وهم محشودون بقوة السلطان على جانبيك، من أسوان إلى مصبيك، يدافعونك مدافعة العدو، ويكافحونك مكافحة الوباء، ويكابدون في صد غارتك الجهد والجوع و (السخرة)! ذلك والقرويات ينتظرن بالقلق الجازع الغرق المخشي، ويرصدن الأهبة للهجرة المتوقعة، فهن يجمعن المتاع، ويشددن الغرائر، ويلقين النظر الحزين على القطن المكتهل على اعواده، والذرة الناشئ على سوقه!. وهكذا الطغيان يا نيل السكينة في القلب، ويفزع العدالة في الدولة، ويجعل سلام الأرض وسلامة الناس لمشيئة فرد!! وقفت منذ أيام على شاطئ من شطئانك المنكوبة، أرسل طرفي الساهم في تيارك الجارف، وداراتك المدومة، ولحجك الفائرة، ثم أرده إلى السواحل الغصانة والمزارع الغرقى، وفكري بين هنا وهناك يستقبل الذكريات القديمة، ويستخرج المشابهات الأليمة. فذكرت بهذا المنظر المحزن ترة بيني وبينك موروثة! فقد طغيت في عام 1878 على قريتي الصغيرة، فاحتملتها هي ومئات من أمثالها كما يحتمل السيل الدافع أكوام الهشيم! وكان قومي قد سمعوا بانفجارك على مقربه م سمنود، وبيننا وبينها عشرات من الأميال، ولكن ماءك الطاغي نحر هذا المفيض حتى انحدر فيه مجراك كله، فلم يكن بين السماع والرؤية إلا ريثما جزموا المتاع وشدوا المطايا، ثم أدركهم فيضانك قبل الرحيل، فتركوا الأرزاق وطلبوا النجاة. فحمل الكبار الصغار، والطوال القصار، والنساء الأطفال، ومضوا يتحسسون الطرق وتحت الماء، ويتلمسون المصاعد فوق الارض، حتى بلغوا - وما كادوا يبلغون - ساحل نهر (شبين)، وهو على بضع دقائق من القرية، وهنالك وقف المهاجرون على الشاطئ العالي بين البحرين، يودعون بالنظر العبران قريتهم الهالكة، والماء يغيب الدور ويبتلع الشجر، حتى لم يبق ظاهرا منها الا شرفات بيت الله، وغرفات بيت العمدة. ثم تمزقوا في البلاد يطلبون المأوى عند ذوي القربى أو عند أولي المودة، حتى أنحسر الماء فعادوا، واستأنفوا عمارة القرية فعادت ثم لا يزالون يؤرخون الحوادث بهذه (الغرفة)، ويهولون في أحداث تلك الهجرة، ويستعدون كل عام لطغيان النهر، قبل أن يئون أوانه بشهر! وهكذا الطغيان يا نيل يفرق الآلاف، ويشتت الوحدة، ويوهن بين الأوداء أسباب المودة! يطغى الحكم كما طغيت يا نيل فيجرف السدود، ويتعدى الحدود، ويتخطى الحواجز. ثم يدور بالتجسس، ويفور بالإرهاب، ويقذف بالتهم، ويسخر قوى الدولة وموارد الأمة ومرافق الناس لسلطان أمره وطماح نفسه ونفاذ حكمه. وأصل الطاغية كان مثلك يا نيل فياض اليد فقدسه الناس، جارف التيار فاتبعه الشعب، ثم ناصرته شهوته الخاصة، وساعدته غفلة العامة، فرد أهواء النفوس إلى هواه، وشورى العقول إلى رأيه، وحدود القوانين إلى أرادته، وسطوة الجماعة إلى يده، ثم تفيض هذه القوى المتجمعة عن طاقة الفرد فيطغى، ويزيد السلطان المفرط على غرور الإنسان فيتأله، ويومئذ لا تسأل عن حدود الله كيف تطمس، ولا عن رسوم العدل كيف تدرس، ولا عن حقوق الناس كيف تسفه، ولا عن نظام الأمر كيف يتبدد، ولا عن جموح الأثرة كيف يبغى ويتحكم.

وهكذا الطغيان يا نيل يعطل منابع الخير، ويبدل طبائع الفطرة، ويقتل مواهب العقل، ويغمر بالظلام آثار العلم ودلائل العقل وشواهد الكفاية.

ويطغى الأدب كما طغيت يا نيل فلا يكترث للقواعد، ولا يعوج بالأصول، ولا يحفل بالمنطق، ولا يأبه للخلق، ثم يرغي بالبذاء، ويزيد بالهراء، ويطفح باللغو. وكان الأدب الطاغي مثلك يا نيل عذب الشمائل، سهل الشريعة، فروى الناس من نبعه، وبردت أكبادهم على نداه. ثم أنتكس المجتمع، وانقلبت الأوضاع، وفسدت المقاييس، استفاضت الدعوى، وتبجح الغرور، وأستبهم الأمر، فرأى سلاطة اللسان أجدى عليه من براعة الذهن، والتواء الفكر أنفع له من سلامة القياس، ولؤم الوقيعة أشد لسلطانه من كرم النفس، وشهوة الجدل أقرب إلى قلبه من حب الحقيقة. وفي العهود التي تسطو فيها اليد ويستخذى القانون، يسلط فيها اللسان ويستكين المنطق! ثم يمكن لمثل هذا الطغيان تكرم الأدباء عن مقام المسافهة، ضنا بأخلاقهم على الغمز، وبإحساسهم على المضاضة وفي التاريخ السياسي والأدبي يا نيل أمثال وأشباه! ولكنها تنحسر كلها عن جوهر الحق، ومحض الخير، ولباب الجمال، كما تنحسر أنت عن هذه السواحل والجزر والقرى، بحكم الطبيعة ومشيئة الله!

أحمد حسن الزيات