مجلة الرسالة/العدد 641/العالم الجديد

مجلة الرسالة/العدد 641/العالم الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1945



للأستاذ زكريا إبراهيم

عصرنا الحاضر عصر مضطرب ثائر، لا نكاد نجد له مثيلاً في التاريخ الغابر، فنحن نواجه اليوم حالة لم تعرفها الأجيال الماضية لأننا نحيا ففي عالم جديد يعج بالمشاكل المعقدة والمسائل الصعبة. وهذه الحالة التي تفرضها علينا مقتضيات هذا العصر، هي وليدة التطور الذي لحق الحضارة الإنسانية الحديثة. فليس من شك في أن علينا أن نكيف أنفسنا مع العالم المتغير الذي نحيا فيه، على ضوء المعارف التي نحصلها من الحركة العلمية المستمرة. والمعرفة هي - وحدها - التي استطاعت أن تغير معالم الكون، فلا بد لنا إذن أن نعتمد على المعرفة، حتى نستطيع أن نحقق التوافق بيننا وبين البيئة الجديدة التي نعيش فيها.

غير أن الخوف قد يقف حائلاً دون مواجهة الموقف الحاضر في صراحة وقوة؛ فإننا نخشى أن تقتادنا النظرة الجديدة للكون إلى الخروج عن معتقداتنا المألوفة وأفكارنا السابقة، ولكن هذا الخوف نفسه دليل قوي على أننا نشك في صحة تلك الأفكار والمعتقدات، ومن ثم فإننا نخشى أن نفحصها على ضوء الحقائق الجديدة والمعارف الحديثة. وإذن فالخوف ليس إلا مظهراً للشك والجهالة، وبالتالي فإن من واجبنا أن نطرحه جانباً إذا أردنا أن نكون مخلصين لروح العصر.

لقد أصبحت الشجاعة أول ضرورة من ضرورات هذا العصر فإن قيام العالم الجديد رهن بما أوتينا من شجاعة وقوة وإقدام. وليس من واجب الفكر أن يرتد فزعاً أمام تلك التيارات الرجعية التي قد تثور في وجهه، بل أن عليه يجهز بكلتا يديه على تلك الجيف الحية، لكي يقذف بها في زوايا التاريخ!

وإنها لمسئولية خطيرة تلك التي تقع على عاتقنا اليوم؛ فقد مضى على ذلك العصر الذي كنا فيه نعتمد على القوى المجهولة والمصادر الخفية في استقاء معارفنا ومعلوماتنا. وليس علينا الآن إلا أن نعتمد على نفوسنا ونفكر لذواتنا، في كل المسائل التي تواجهنا؛ وما أكثر هذه المسائل!

إن أسلافنا كانوا يتوهمون أنهم قد عرفوا كل شيء منذ الولادة حتى ما بعد الموت؛ أما نحن فقد أصبحنا لا ندري ماذا يحدث بعد الغد! ومما لا ريب فيه أن للحرية الفكرية تكاليفها؛ فإنها ترفع تلك اليد التي تقود زمامنا، لكي تسلمنا إلى أنفسنا، وهنا يكون علينا أن نبحث كل شيء من جديد؛ ولكن لا كما يبحث الأعمى الذي يمسك بيده آخر، بل كما يبحث المبصر الذي يتحقق من كل شيء بنفسه.

ولن يكون في وسعنا أن نحل المسائل كما كان يحلها أسلافنا لأننا لن نطمئن إلى تلك الحلول السريعة التي تئب إلى المطلوب دون بحث واستقصاء. بل أن حلاً ما، مهما كان من صحته ودقته لن يكون حلا نهائياً حاسماً، مادامت معارفنا في تزايد مستمر وتقدم دائم. . .

أما النزعة اليقينية التوكيدية، فإنها لن تجد موضعاً في العالم الجديد. . . وكيف يمكن أن توجد مثل هذه النزعة في عالم يرى أناسه الحقائق كما هي، لا كما يقول بها مذهب معين أو رأي خاص؟

إن العالم الجديد هو عالم الفكر الحر، والبحث النزيه، والخير العام. فلن يشهد فجر الغد حجراً على التفكير، أو ميلاً إلى الطعن والتشهير، أو سعياً إلى الخراب والتدمير - وما دامت تلك الأصنام التي طالما تنابذ الناس من أجلها، لابد أن تندك يوماً، كما اندكت عروش أصحابها، فلابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يشرق فيه فجر الحضارة الإنسانية الصحيحة

ومن واجبنا الآن أن نعمل على هدم تلك الأصنام التي تعوق مجيء ذلك اليوم. حقاً إن الإنسانية طالما حرقت البخور لها، وعفرت الجباه أمامها، ولكنها قد أخذت تدرك اليوم أن من واجبها أن تهوى بمعولها على تلك الأصنام جميعاً، فتأتي عليها عن آخرها - وما هذه الأصنام إلا الجهل، والتعصب الذميم، والنعرات القومية الفاسدة!

ولن يقوم في العالم سلام، إلا إذا كان ذلك في أرجاء الأرض قاطبة، ولن يكون ثمة رخاء، إن لم يكن ذلك رخاء عاماً، ولن يشرق فجر العالم الجديد، إذا لم يعم نوره الشرق والغرب والشمال والجنوب!

فليعلم إذن أولئك الذين يرجون قيام عالم جديد تسود فيه الحرية والطمأنينة والرخاء، أن عليهم أولا أن يقوضوا تلك الأصنام القديمة، حتى يقيموا على أنقاضها بنيان العالم الجديد المنشود! زكريا إبراهيم