مجلة الرسالة/العدد 641/ليذكر الأسبان

مجلة الرسالة/العدد 641/ليذكر الأسبان

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1945



للأستاذ توفيق محمد الشاوي

لعل الشعب الأسباني هو آخر شعب يحتاج إلى من يثبت له عظمة العنصر العربي وسمو الحضارة الإسلامية، لان وجوده ونهضته التي سبق بها جميع الشعوب الأوربية، وكانت رائد النهضة الأوربية الحالية هي ربيبة تلك الحضارة الإسلامية العربية التي نعمت بها الأندلس زمناً طويل، وعاشت في ظلها عصراً ذهبياً سجل التاريخ مفاخره برغم تداول الأيام وانتقال السلطان.

لكن أسبانيا قد انساقت في هذا العصر في تيار الاستعمار الأوربي، وسيطرت على قادتها المادية الاستغلالية، وآثرت أن تنسى التاريخ، وأن تدفن الماضي، وأن تشترك في الغارة الأوربية على أجزاء الوطن العربي، فسلم لها شركاؤها الاستعماريون جزءاً هاماً من وطننا الأفريقي في المغرب، سارت فيه على خطة جارتها فرنسا، فحاولت أن تحطم القومية العربية بكل الوسائل الاستعمارية الوحشية، غير عابئة بمبادئ الإنسانية والمدنية. علمت أن العربي لا يقيم على الذل ولا يصبر على الضيم، فسول لها شياطين الاستعمار. أن أسهل الطرق هو إفناء هذا الشعب الأبي العنيد، وليقل التاريخ ما شاء بعد ذلك.

ثم جاءت النتيجة المحتومة للتكالب النفعي الاوربي، أن انقلب الماديون على أنفسهم، وأغرى الجشع بعضاً ببعض، فتفرقت الطبقات، وتقابلت العصابات، واشتعلت الحرب الأهلية الأسبانية، فاستعان الجنرال فرانكو بعرب المغرب، وبذل لهم وعوداً خلابة، ومناهم بالاستقلال الذي جاهدوا له. ولم يقصر دعايته على المغرب، فأرسل إلى رئيس المؤتمر الإسلامي الذي عقد بالقاهرة في ذلك الحين، الدكتور عبد الحميد سعيد، خطاباً تاريخياً مؤيداً لوعوده وتصريحاته

(بأنه عندما تثمر شجرة السلام فسيقدم للمغرب العربي منها أطيب الثمار). . . وظن العرب أن الواعد عربي يعرف معنى الشرف، ويحترم قدسية العهود، ونسوا أنه رجل أوربي ينسى كل شيء في سبيل مطامعه وأهوائه. جاءه النصر بفضل مساعدة العرب وانتظر العرب والمسلمون طويلاً تحقيق الوعود والعهود، فإذا سياسة الاضطهاد تستأنف وتزيد، وخطة الإفناء الوحشية تبدأ من جديد، وإذا الشرف يتواري وتحل محله (المصلحة)، تتذبذب السياسة بين الشدة واللين بحسب ما توحيه ظروف السياسة ومصلحة الاستعمار. وآخر ما سمعناه أن أسبانيا لم تعد تطيق كلمة (العروبة) فهي تحاربها في كل ناحية تتوهم أنها تذكيها، حتى أن أعضاء البعثة المغربية في جامعات مصر قد عادوا إلى بلادهم هناك، فوجدوا أبواب السجون مفتحة لهم، وسبل العمل موصدة في وجوههم، وكل ذنبهم أنهم عرب تعلموا في مصر، وأن مصر تحمل لواء العروبة وأن العروبة شجي في حلق الاستعمار.

أيها الأسبان! تستطيعون أن تتناسوا عهودكم ومواثيقكم التي بذلها زعيمكم وارتبطتم بها، وتستطيعون أن تنسوا مبادئ المدنية التي تحمي حقوق الأمم وحريات الشعوب، وأن تنسوا التاريخ وما سيكتبه عن استعماركم الوحشي الغاشم، وأن تنسوا أيضاً ما للعرب عليكم وعلى أوربا من فضل بما علموكم وبما هذبوا من نظمكم وآدابكم. . . تستطيعون أن تنسوا كل هذا، ونستطيع نحن أن نصدق أنكم نسيتموه ما دمتم تتوهمون مصلحتكم في هذا النسيان، ولكن شيئاً واحداً لا نظنكم تستطيعون أن تنسوه، هو قوة هذا الشعب العربي الأبي وبطولته، واستبساله في الدفاع عن كرامته وحريته. تذكروا أن ضربات ابن عبد الكريم لازالت جراحها في كل بيت من بيوتكم وكل أسرة في بلادكم، وتذكروا أن ابن عبد الكريم لا يزال حياً، وإذا مات فان الشعب الذي أنجبه لا يزال حياً قوياً قادراً على استئناف جهاده وتضحياته.

أيها الأسبان! تذكروا مرارة قتال العرب وما يكلفكم من ثمن، وأن فرنسا التي أنقذتكم من ابن عبد الكريم قد تعجز عن إنقاذكم مرة أخرى، وأن للعالم اليوم أذنا تسمع وعيناً تبصر، فلن تسكت على وحشية الاستعمار التي تسلحتم بها لستر ضعفكم وجبنكم. تذكروا كل ذلك لا لوجه الإنسانية والمدينة، ولا خشية التاريخ وحكمه، ولا حرصاً على العهد وتمسكاً بالشرف، فهذه لغة قد لا تفهمونها ألان. . . ولكن اذكروه لمصلحتكم أنتم، فإن نسيانه سيكلفكم من الضحايا عدداً لا تستطيعون تقديره، وسيكون النصر أخيراً للحق والمدافعين عن حقوقهم وحرياتهم.

أيها الأسبان! تذكروا أن الجشع الاستعماري الذي يسيطر عليكم ليس إلا عرضاً من أعراض الكلب المادي الذي أصيبت به أوربا، وأنكم إن لم تقضوا عليه فسيقضي عليكم، وقد بدرت بوادر الشقاق والجنون النفعي الذي سيحطم أركان حضارتكم إن لم تنقذوا أنفسكم منه. تذكروا أن القدر قد يلقي عليكم درساً عاجلاً في احترام الحقوق والحريات، وأن هذا الدرس قد يكون على أيدي العرب، أساتذتكم وأساتذة أوربا منذ عرفتم النور.

توفيق محمد الشاوي

مدرس بكلية الحقوق - جامعة فؤاد