مجلة الرسالة/العدد 642/الحديث المحمدي

مجلة الرسالة/العدد 642/الحديث المحمدي

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1945



تعقيب على مقال

للأستاذ محمد محمد أبو شهبة

قرأت بإمعان ذلك المقال الذي كتبه الأستاذ محمود أبو ريه بالرسالة العدد 633 عن (الحديث المحمدي)، وقد سرني منه أنه أراد أن يدرس دينه بالرجوع إلى مصادره الأصلية. وقد ذكر أنه لما أخذ في دراسة الحديث النبوي على هذا النحو ظهرت له حقائق وسرد بعضها، وقد تتبعت الأستاذ في حقائقه، فوجدت أن منها ما يجافي الحقيقة، ولم يكن مبنياً على دراسة عميقة راجعة إلى مصادر الحديث الأصلية:

1 - ذكر الأستاذ أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم ترتيبه، حتى لقد قال الإمام الشاطبي: (أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر)؛ ولا أدري ما مبعث هذا الحكم: أهو نقل أم استقراء؟ فإن كان الأول فليدلنا عليه، وإن كان استقراء، فالواقع خلاف ذلك، ونحن لا نقول بأن الأحاديث كلها رويت بألفاظها، وكيف؟ وقد ثبت أن القصة الواحدة، أو الواقعة، رويت بألفاظ مختلفة، وأساليب متباينة وإن كان المعنى واحداً؟ ولا نقول بأن الأحاديث كلها رويت بالمعنى، وكيف؟ ومن الأحاديث ما اتفقت الروايات على لفظها - وإن لم تصل إلى درجة المتواتر - ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب؛ ومن قبل أدرك أئمة في اللغة والبيان هذه الحقيقة، فألفوا الكتب في البلاغة النبوية

ولقد أدهشني أن اتخذ كلمة الشاطبي مؤيدة لدعواه، وأنا أقول للأستاذ: فرق بين عدم وجود حديث متواتر بلفظه، وبين عدم وجود حديث بلفظه، فقد ينتفي الأول ولا ينتفي الثاني، لأن المتواتر نوع خاص (وهو حديث رواه جمع بحيل العقل تواطؤهم على الكذب). وهو لفظي أو معنوي؛ وقد بحث علماء الحديث عرضاً في التواتر وفي وجوده؛ وبعضهم - كابن الصلاح - حكم بندرته، وبعضهم منعه، وبعضهم حكم بكثرته. ومع هذا لم يقولوا إنه لا يكاد يوجد حديث بلفظه. ومن يشك في أن ما روى عن الرسول الكريم مثل (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) و (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) (أرحنا بها بلال) يعني الصلاة. وغير ذلك كثير من كلام النبوة، ومن ينكر ما في هذا المنطق من نور وما فيه من بلاغة؟ وحسب الأستاذ أن يخلو بنفسه وبكتاب كالبخاري، وأنا واثق بأنه سيعدل عن فكرته.

2 - تكلم الأستاذ عن الرواية بالمعنى، وإن بعض الصحابة رأوا الرواية بالمعنى، وكذا من جاء بعدهم، إلى أن قال: (وهكذا ظلت المعاني تتوالد، والألفاظ تختلف باختلاف الرواه). وأقول (أما اختلاف الألفاظ، فهذا ما لا ننكره، وأما توالد المعاني، والتزيد فيها والتبديل، فهذا ما لا نقر الأستاذ عليه، والصحابة الذين أجازوا الرواية ومن أخذ عنهم، إنما أجازوها مع تحفظهم الشديد وتحوطهم البالغ في المحافظة على المعنى. وكيف يغيرون في المعنى ويتزيدون، وهم كثيراً ما طرق مسامعهم قوله : (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ ولهم من عربيتهم ودقة فهمهم للأساليب وإحاطتهم بالمعنى المراد ما يحول دون ذلك، ولا سيما وأن الرواية إنما تتصل بالحديث، وللحديث في نفوس الصحابة ومن بعدهم من القداسة والاحترام ما له. أليس الحديث هو الأصل الثاني من أصول التشريع؟ الحق أني كنت أحب من الأستاذ أن يقرأ في كتب الرجال، وبخاصة الصحابة والتابعين ليعرف ما خص الله هؤلاء القوم من حافظة قوية وذاكرة وقادة. وعلماء أصول الحديث بعد حينما تكلموا في الرواية بالمعنى، منهم من منع منها، ومنهم من بالغ في التثبت والتحوط، فلم يجيزوا الرواية بالمعنى إلا لعالم بالألفاظ، عارف بمقاصدها، خبير بما يختل بها معانيها؛ ولو أن تدوين الحديث تأخر قروناً معدودة، لكان هذا الفرض قريباً، ولكن التدوين بدأ في أوائل القرن الثاني وازدهر في القرن الثالث، وخصائص العروبة متمكنة من الرواة، ولم يكن لسان أهل العلم فسد بعد، وإن تطرقت لوثة الأعاجم إلى العامة.

ولئن كان لراوية الحديث بالمعنى ضرر من الناحية اللغوية والبلاغية - كما ذكر الأستاذ - فلا ضرر من الناحية الدينية بعدما بينا أن لا توالد في المعاني ولا تزيد ومن علم مبلغ ما وصل إليه علم الرواية في الإسلام وما امتاز به من التثبت والتحوط فإنه يستبعد ما قاله الأستاذ كل الاستبعاد وقد بلغ من يقظة أئمة الحديث أنهم كانوا يعلمون اللفظ الدخيل في الحديث من أين أتى وكيف دخل

3 - كتب الأستاذ كلمة عن الموضوعات وأنا أوافقه فيما قال وآخذ عليه قوله ولكي يشدوا عملهم بما يؤيده وضعوا على النبي أحاديث تجيز الوضع مثل مارووا: (إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس). وهذا الحديث بعضه لا يدل على الوضع وأن في قوله: (وأصبتم المعنى) ما يدل على أن الحديث قبل تجويزاً للرواية بالمعنى؛ وإلا فأي إصابة للمعنى النبوي إذا كان الكلام موضوعا وللحديث بقية تدل على ما سيق له. روى ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير عن عبد الله بن اكيتمة الليثي قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا؟ فقال: (إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس). وكان الأجمل أن يمثل بما روى زورا عن النبي : (إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث) فهذا يشد أزر الوضاعين.

4 - ذكر الأستاذ حديث من كذب على متعمداً الحديث وأنه وصل به البحث إلى أن لفظ متعمداً لم تأت في روايات كبار الصحابة وأن الزبير قال: والله ما قال متعمدا، ورأى أنها تسللت إلى الحديث من سبيل الأدراج الخ ما ذكر. وأقول قد روى هذا الحديث من روايات عدة عن كثير من الصحابة حتى قد أوصلها بعض رجال الحديث إلى المائة بل إلى المائتين. والحق أن الحديث روى من طرق تصل به إلى درجة المتواتر بهذا اللفظ. أما وصوله إلى هذا العدد الضخم فذلك فيما ورد في مطلق الكذب لا في هذا اللفظ بعينه، وقد جاءت كلمة متعمدا من رواية الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة وطرق ذكرها أكثر من طرق تركها والقاعدة عند المحدثين إذا تعارضت الروايات رجج الأكثر والأقوى وهنا ترجح روايات ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد، وأما تجويزه أن هذه الكلمة أدرجت في الحديث ليتكئ عليها الرواة فيما يروون عن غيرهم على سبيل الخطأ أو الوهم الخ. فأقول رداً عليه إن رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة وإنما ذلك بما ثبت من أدلة أخرى وتقرر في الشريعة بأنه لا إثم على الخاطئ والناسي ما لم يكن بتقصيره منه وسر الكلمة دفع توهم الإثم على الخاطئ والغالط والناسي.

وأما تجويزه أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ بها الذين يضعون حسبة من غير عمد عملهم؛ فلا أدري كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد، والوضع حسبة أن يقصد الواضع وجه الله والثواب وخدمة الشريعة - على حسب ظنه - بالترغيب في فعل الخير والفضائل، وهم قوم الصوفية والكرامية جوزوا الوضع في الترغيب والترهيب، فكيف يجتمع - أيها الأستاذ - قصد الوضع طمعاً في الثواب مع عدم التعمد؟ وتفسير الحسبة بأنها عن غير عمد لم أقع عليه ولا أعقله

5 - ذكر الأستاذ في تدوين الحديث أنه كان في أول أمره مشوباً بأقوال الصحابة في التفسير، وغيره من مسائل دينية، أو طرف أدبية، أو أبيات شعرية الخ. فمن أين وصل إلى الأستاذ أن الحديث في أول أمره كان ممزوجاً بالطرف الأدبية والأبيات الشعرية، وأقدم كتاب وصل إلينا ممزوجاً فيه الحديث بأقوال الصحابة وفتاوي التابعين موطأ الإمام مالك، فأين ما فيه من طرف وشعر؟ وإذا كان ذلك المزج قبل طبقة مالك، فمن أي مصدر استقى الأستاذ هذه الفكرة؟ والذي ذكره الحافظ في مقدمة الفتح أن الجامعين للحديث كانوا يجمعون كل باب على حدة إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، فصنف الإمام مالك موطأه بالمدينة، وابن جريج بمكة، وعلى رأس المائتين جرد الحديث من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، إلى أن جاء الإمام البخاري فميز الصحيح الخ ما ذكر.

6 - ذكر الأستاذ أن الفقهاء كبلهم التقليد فلم يعتنوا بكتب الحديث، ولم يعطوها حقها من البحث والدرس الخ ما قال

وكلمة الفقهاء شاملة للأئمة المتقدمين، ومن بعدهم من استقل باستنباط الأحكام العملية والفروع الفقهية؛ والثابت أن قدماء الفقهاء قد أحلوا السنة محلها الممتاز، وجعلوها المصدر الثاني من مصادر التشريع، وإنما اختلفوا في الأخذ بها قلة وكثرة، وما كان الفقيه ليصل إلى درجة الاجتهاد إلا إذا أحاط الكثير من السنة رواية ودراية. والإمام أبو حنيفة - رحمه الله - مع التخرص عليه بقلة البضاعة في الحديث - كان له سبعة عشراً مسنداً، أي كتاباً مؤلفاً على حسب أسماء الصحابة، وتلميذه محمد اشتهر برواية الحديث عن مالك

وأقرب الظن أن الأستاذ أراد متأخري الفقهاء الذين جعلوا همهم العصبية المذهبية ولم ينظروا إلى الحق في ذاته، وهم الذين كانوا في عصور الجمود الفقهي

هذا، وفي المقال بعض هنات تجاوزت عنها، وحيث أن المقال ملخص كتاب سينشر، فإني لأهيب بالأستاذ أن يراجع نفسه في بعض هذه الحقائق التي تكشفت، وليكر على الكتاب من جديد بالتمحيص والتدقيق، وعلم الحديث ليس بالأمر الهين والبحث فيه يحتاج إلى صبر وأناة وتمحيص وتدقيق، ورحلة في سبيله إلى من أحاط به خبراً؛ وقصارى قولي: ليس الخاطئ من يظهر له الحق فيعود إليه، وإنما الخاطئ من يظهر له الحق فيصر على الباطل.

محمد محمد أبو شهبة

عالمية من درجة أستاذ