مجلة الرسالة/العدد 642/قصة:

مجلة الرسالة/العدد 642/قصة:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1945



هذيان مجنون!

للأستاذ علي الطنطاوي

ذهبت منذ أيام أزور (المستشفى الإسلامي) الكبير، الذي تعاونت على إنشائه الجمعيات الإسلامية الأربع في دمشق (الغراء، والهداية، والشبان، والتمدن)، فوجدته شيئاً عظيما يرفع الرأس، بناء ضخما يطل على الربوة من هنا ويشرف على سهل المزة من هناك، قد قام حيث كانت تقوم تلك (القلاع العادية)، فكان من تمام نعمة الله علينا به أن تخير له هذا المكان، فأبدلنا بعمارات الموت، وبنايات البلاء، تلك القلاع، هذا المستشفى، بيت الصحة، ودار الشفاء. . .

وجعل المدير، وهو شاب مسلم رضي الخلق، واسع الخبرة، يدور بي في المستشفى، ويمر بي على شعبه، حتى إذا وصلنا إلى جناح الأمراض العقلية قال لي:

- إن هاهنا مريضاً يلح علينا أن ندعوك إليه، وهو لا يفتأ ينادي باسمك ويرجو أن يراك. . .

قلت: ومن هو؟ وما شأنه بي؟

قال: هو شاب مصاب بنوع من الهستريا (الجنسية)، وهو يزعم أنه تلميذك، وأنه وثيق المعرفة بك

فلم أحب أن أخيب رجاءه، وإن كنت لا أدري ما أصنع له، وانطلقت مع المدير حتى دخلت عليه، فإذا هو شاب حديث السن، شاحب اللون، بادي الضعف، شارد النظرات مسجى، لا يبدو منه إلا وجهه، فتاملته. . . فإذا هو قد كان تلميذاً لي، وإذا أنا أعرفه، فسلمت عليه فرد السلام، وابتدرني فقال لي:

- أنت أستاذي، وإني أرتقب مجيئك. إن لي إليك حاجة

فقلت: مقضية إن كنت أقدر عليها

فظهر على وجهه خيال البشر، ولاحت على شفتيه ظلال ابتسامة. . . وقال:

- لقد نعشتني وبشرتني، إن الذي أريده منك، هو أن تعي حديثي وتنشره في الناس، أفلا تقدر على ذلك؟ قلت: بلى، أقدر إن شاء الله. . .

قال: إنه خبر لا يكاد يصدقه أحد، ولكني أحلف لك أنه واقع، وإذا شككت فاسأل القرية، أتعرف قرية (الجمالية)؟

قلت: ما سمعت باسمها إلا الآن!

قال: لقد أردت أن أبتعد عن مرابع المصطافين ومواطن الازدحام إلى بلد أطلق فيه نفسي على سجيتها، لا أقيدها بقيد عادة ولا واجب مجاملة، فأممت بحيرة (العتيبة)، ثم صعدت (جبل عيرام)، حتى بلغت هذه القرية المختبئة في كنف واد عميق لا يصل البصر إلى قرارته، يجري في بطنه نهر (العامون) متحدراً هائجاً يقفز من صخرة إلى صخرة، فيكون له دوي وخرير، ويعلوه الزبد فتراه من خلال الأشجار، وأنت في القرية، كأنه البلور المذاب، إذا كنت قد رأيت في زمانك بلوراً مذاباً؛ يحمي هذا الوادي المسحور جبلان عاليان تنطح ذراهما النجم، وقد لبست سفوحهما وحدورهما ثوباً من الشجر أخضر، توارت خلاله هذه القرية. . .

واتخذت فيها داراً سلخت فيها شهراً من شهور الصيف، لم أعرف السعادة إلا فيه، ولم أدر حتى عشته ما لذة العيش وما الاطمئنان، فلقد كنت أغدو مع النور فأصعد في الجبل أحيي الشمس البازغة حين تشرق على الدنيا، وأهبط الضحى إلى بطن الوادي فأتخذ لي مكاناً على صخرة عالية، أو أقعد على حافة النهر الفياض. وكنت في أكثر الأيام أضع طعامي في سلة وأرتاد المرابع، فحيثما استطبت المكان أقمت. وكنت أحمل معي كتاباً أقرأ فيه مرة، وفي مصحف الكون أخرى، فأمتع النظر بأعجب المشاهد وأبهى المرائي، ثم أروح العيشة إلى داري، وقد طفحت نفسي بصور الجمال، وفاض جسمي بالعافية. . .

. . . حتى جاء ذلك اليوم الذي صب في كأس حياتي العلقم!

لقد صعدت في الجبل على عادتي حتى جاوزت حدود القرية، وقاربت ينبوع (البارة)، وبلغت الغابة المهجورة التي تطيف به، فما راعني إلا الحجارة تتساقط حولي كأنها المنجنيق، تنزل دراكاً نزول رصاص الرشاشات، فحرت لحظة، ثم وليت هارباً أعدو ما أطقت العدو، حتى وصلت إلى صخرة فاحتميت بها، فجعلت أنظر: ما خبر الحجارة! فأسمع قهقهة مرعبة. . . فأحسب أنها الجن تروعني. . . ثم أرى امرأة تخرج من بين أشجار الغابة، وتسير حذرة تتلفت، فلما صارت قريبة مني، رأيتها وهي لا تراني؛ فإذا هي فتاة سمراء محلولة الشعر، ذات جمال يروع الناظر ويأسر القلب، لها عينان سوداوان واسعتان. . . إذا نظرت بهما إليك أحسست بهما في الفؤاد، وجسم ممشوق قد لوحته الشمس، وما عليها إلا أسمال بالية لا تكاد تستر إلا الأقل منها، فكأنما جسمها فيها البدر قد حجبته قطع من المزن الرقراق. لها كتفان مدورتان ممتلئتان، وثديان ما فهمت قبل أن أراهما كيف يكون الثديان كالرمانتين حقاً، وصدر رحب كأنه خلق مهداً للحب، وساقان وفخذان لا أحب أن أؤذيك بوصف فتنتهما وجمالهما. . .!

وقد وقفت كالغزال المذعور، لا أقولها كما يقولها الأدباء المقلدون، بل أنا أعني ما أقول، ولا أجد صفة هي أدنى إليها وأعلق بها. . . وجعلت تنظر حواليها. . . فلما اطمأنت ألقت حجارتها التي كانت تحملها، وقعدت على الأرض. ونظرت إليها، فإذا ذلك الغضب الفاتن يسقط برفق عن وجهها ويسدل عليه نقاب من الألم، الألم العميق الذاهل، فازدادت به جمالا حتى لقد تخيلتها في قعدتها تلك تمثالا للجمال الحزين قد افتنت فيه يدا عبقري وعقله. . . فخرجت من مكاني وسرت إليها متلصصاً أسارق الخطو حتى إذا كدت أن أصل إليها وأضمها، أحست بي فوثبت وثبة ابتعدت بها عني، ثم عدت تلقاء الغابة. . .

. . . وجعلت أرتاد هذا المكان كل يوم، أفتش عنها وأطلبها حتى أنست بي واتصل بيننا الحديث. . . فسمعت لهجة فتاة ليست من بنات القرى، ولا من الجاهلات، ولكن حديثها حديث المجانين. . .!

سألتها ما شأنها، وأحببت أن أعرف خبرها، فكانت تجيبني بكلام لا يعقل:

قالت: إني أفتش عليه، لقد دخلت المدن، وولجت المدارس، وبحثت في القصور، وطفت الملاهي، وتهت في البراري، وضربت في الجبال، وجست خلال الخرائب، وسريت وحيدة، حيث لا تجرؤ النسور أن تطير. . . كل ذلك أملاً بلقائه!

قلت: بلقاء من؟

قالت: بلقائه. . . إني أحس بصوته أبداً يرن في أذني، وأرى حينما سرت عينيه، وألمس أبداً جلده الدافئ، فأشعر كأن الكهرباء تسيل في عروقي، ويطفر شيء إلى عيني ولكنه يحتبس فلا أستطيع أن أبكي. . .

قلت: منذ كم فارقته؟ وهل مات أو سافر؟

قالت: أنت مجنون. . . ما فارقته قط ولا اتصلت به، هو معي إذا قمت، ومعي إذا نمت، أبكي لآلامه، ويبتسم هو للذيذ أحلامي، ويغضب فيخفق قلبي، ويأكل فتذهب جوعتي، ولكني لا أقدر أن أضمه إلي، ولا أستطيع أن ألمسه بشفتي!

ولو لم تكن أعمى لرأيته، إن رياه في عبق كل وردة، وصوته في كل أغنية، وصورته في صفحة البدر، وصفاء الينبوع، وخضرة الروض. . .

قلت: فمتى عرفته؟

قالت: مذ كان لي قلب، لقد همت به منذ وجدته في فكري، وقد ملأ علي نفسي، ولكني لا أدري أين يقيم، إني أراه في اليوم على ألف شكل، أرى في الرجل يمر بي عينيه، وأرى في آخر قامته، وربما استحال معنى من المعاني أحس به ولا أملك التعبير عنه. . .

قلت: فمن يدلك عليه؟

قالت: قلبي، ألا تفهم، أليس لك قلب؟ دلني على خفقانه، هو الجمال كله، فكل ما أرى من الجمال جماله. . .

ثم سكتت وأرخت أهداب عينيها، وغابت في ذهلة عميقة، فدنوت منها وضممتها إلي وأرحت ذينك النهدين على صدري، فاستجابت لي وتعلقت بي، ووضعت قلبها في شفتيها، ووضعت قلبي على شفتي، ثم ذقت منها قبلة، ما أظن أن إنساناً ذاق مثلها.

ولكنها انتفضت فجأة، وألقت برأسي على صخرة، فشجته وانطلقت لا تلوى على شيء، ثم لم أرها. . . وإن لم تغب خيالتها عن عيني. . .

ولما خرجنا من حضرة المريض قال لي مدير المستشفى:

لا تصدق كلمة مما قال، إنه هذيان مجنون لم يقع منه شيء!

قلت: إن آخر ما يهتم به الأديب، أن يقع الحادث أو لا يقع، أني أكتب قصة لا تاريخاً، وحسبي ما في قصته من جمال الوصف، وإن لم يكن لها مغزى، وإن كانت هذيان مجانين. . .

قال: شأنك. . . أنت أدرى به!

علي الطنطاوي