مجلة الرسالة/العدد 643/ملحمة الحرب والسلام

مجلة الرسالة/العدد 643/ملحمة الحرب والسلام

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1945



دراسة تحليلية لفكرة الحرب وعواملها والسلام وأسسه

للأستاذ فؤاد عوض واصف

يكاد يكون الشعار الغالب في حياة البدائي الأخلاقية هو أن يكون الإنسان سعيد الحظ في الحرب يقتل من استطاع من الأعداء. وأنجح الكشوف هو ذلك الذي يهيئ للقبائل البدائية اقتناص أكبر عدد من الأجانب والعودة بجماجمهم، يجمعونها في حرز حريز لأنها الثروة التي بها يتفاضلون، وهي ضمان الشجاعة والشرف التي يتقدم البدائي إلى عروسه في فخر وخيلاء. . .

فإذا انتقلنا إلى شعوب أكثر حضارة وجدنا أن الوحدة الاجتماعية تكبر وتتميز؛ وكلما قويت الوحدة الاجتماعية ازداد الشعب استنكاراً لجريمة القتل؛ إلا أن النظرة إلى الأجنبي تظل محتفظة بآثارها الموروثة عن القبيلة. فقوانين الملك اين تصور لنا كيف كانت حياة الأجنبي رخيصة في بلاد اليونان في العصور الأولى، فلم يكن له أي حق قانوني. وكذلك كان الحال في الشعوب الرومانية القديمة؛ فالكلمة اللاتينية ومعناها عدو كانت تعني الأجنبي أيضاً. فالأجنبي والعدو يدل عليهما بكلمة واحدة. والذي يدلنا على مدى نظرة هذه الشعوب - ومن شابهها في درجة الحضارة - إلى الأجنبي، تلك السهولة التي كانوا يقابلون بها حروبهم مع الأجانب. وفي التاريخ المصري القديم لا نشاهد أية صيحة على الحروب وأهوالها، وكأنما الحرب ضرورة مادام هنالك أجنبي. وكذلك الحال عند العبرانيين القدماء إذ كانوا يتصورون أن الحياة حق مقصور عليهم وعلى نسلهم. وعند العرب في الجاهلية كانت القبائل تتحارب لأتفه الأسباب، ومن ذلك ما يروى عن أيامهم، فيوم النباج وتيتل مثلاً كان من الوقائع التي أثارها حب الغزو فحسب.

وكل هذا يدلنا على أنه إذا كان نطاق القتل داخل البلاد قد ضاق كثيراً عنه في الشعوب البدائية، فقد ظل الأجنبي منظوراً إليه بنظرة لا تختلف عن نظرة الشعوب البدائية.

ولما دخلت المسيحية في أوربا أشاعت احترام الحياة الإنسانية بدرجة لم تعرف في العصور السابقة. وكان المسيحيون في عصورهم الأولى يرون أن القتل في جميع صوره خطيئة كبرى. وفي هذا يقول ترتيليو هل من الممكن أن يكون لنا حق امتشاق والسيد المسيح نفسه قد صرح لتلاميذه أن (. . . كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون).

ولئن كان السيد المسيح قد أمر بطرس بأن يرد سيفه إلى غمده عندما أراد بطرس أن يقاتل أعداء المسيح، فإنما كان يعني المسيح بهذا أن امتشاق الحسام محرم على كل جندي في المستقبل.

وفي سنة 314م صدر أمر بأن يحاكم كل جندي يترك سلاحه من أجل الدين، وذلك لأن البلاد كانت مهددة بغارات الأعداء. وهكذا نرى أن فكرة الحرب بدأت تعود، وأن آباء القرن الرابع والخامس الميلادي قد أخذوا يبررون امتشاق الحسام؛ حتى إذا جاء القديس أوغسطين ذهب إلى أبعد من هذا حين أراد تفسير العهد الجديد تفسيراً لا يتعارض مع فكرة الحرب، وعنده أن السيد المسيح عندما أمر بطرس بأن يرد سيفه إلى غمده لم يكن يعني كل جندي وإنما كان يعني بطرس بالذات لأن امتشاقه الحسام لم يكن قانونياً. وينتهي أوغسطين من هذا بقوله: (إذا كان السلام هو الخير الأسمى وكانت مدينة الله قد أقيمت من سلام أزلي فإن الحرب في بعض الأحايين ضرورة لهذا العالم الممتلئ بالخطيئة).

نجد في كلام القديس أوغسطين تحولا جديداً في فكرة الحرب عمل أتباعه على تدعيمه قائلين إنه ليس ثمة تعارض بين أن يكون الإنسان مسيحياً وجندياً في الوقت نفسه. وانتهى الأمر بأن يتناول الفارس سيفه من القسيس الذي يباركه ويقول له تلك العبارة باللاتينية:

, ,

أعني: في خدمة سيدك المسيح تتناول حسامك أيها الجندي باسم الأب والابن والروح القدس آمين. وهكذا أصبح الجندي يمتشق الحسام باسم الله، والحرب أصبحت قضاء من الله، والنصر هبة من هباته.

وفي العصور الوسطى أيضاً كانت الحرب قضاء من الله. فاللورد بيكون يرى أن الحرب هي الوسيلة المثلى التي يتجلى بها الحق واضحاً، إذ يحتكم الله عز جلاله بين الأمراء والمتنازعين. ويقول لاهوتي في هذا الصدد، إن الحرب مرآة تقرب إلينا صورة الله (فليس كرائحة البارود عطر يستطيع من يتنسمه أن يتعرف الحق السماوي في صورته العليا. . .) ولكن النزعة السلمية لم تعدم الأنصار في أوربا في تلك الآونة؛ ففي القرن الرابع عشر ظهرت جماعة اللولارد وقالوا إن الحرب في جميع صورها تتعارض مع تعاليم الإنجيل. وإن سلاماً غير عادل أكرم من حرب عادلة. ويقول (ارازم) إن الحرب ليست وحشية فحسب بل هي أكثر من ذلك، لأن الإنسان القاتل أكثر وحشية من الوحش نفسه، لأن الطبيعة إذا كانت قد هيأت الوحوش للحرب فإنها على العكس لم تهيئ الإنسان للحرب؛ ومن ذهب إلى الحرب فليعلمن أنه يمتشق الحسام ضد الطبيعة وضد الله وضد الإنسان. . .

وجماعة الكويكرز ترى أن الحرب أيا كانت تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس؛ وإذا كانت نهاية الإنسان هي الخلود فإن مستقبل فرد واحد في الآخرة يفوق كل خير وقتي لأمة بأسرها. . .

ومن هنا نرى أن الناس قد انقسموا أمام فكرة الحرب، في تلك الآونة، إلى فريقين: فريق يرى أن الحرب مرآة فيها يتجلى الحق السماوي، وفريق يرى أن الحرب تتعارض مع تعاليم المسيحية، وأن سلاماً غير عادل أفضل من حرب عادلة.

وأما الحال عند العرب فقد عرفنا أن الإسلام قد أبطل الكثير من عاداتهم القديمة وجعل القتل جريمة كبرى. وقد نص القرآن الكريم على هذا بقوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).

ولكن القرآن قد حث من جهة أخرى على مقاتلة الكفرة في ظروف معينة إذ يحق للعرب أن يعتبروا (الجنة في ظلال السيوف). وفي هذا يقول الله لنبيه: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) وهكذا يكون الإسلام قد أجاز الحرب في ظروف خاصة.

وفي القرن السابع عشر ظهرت في أوربا طائفة الموسوعيين وعلى رأسهم ديدرو الذي استطاع أن يجمع إليه عدداً من أشهر فلاسفة أوربا من أمثال فولتير وروسو. والفلاسفة - في الانسيكلوبديا - وإن تباينت آراؤهم قد اتفقوا في معاداتهم للمبادئ الكاثوليكية ولم تكن إذ ذاك سلمية. ولقد قام فلاسفة الانسيكلوبدية بدعوة سلمية معتدلة تختلف عن دعوة ارازم، ففولتير وإن يكن يعترف بأن الحرب واجبة في بعض الأوقات إلا أنه ينعى عليها شرورها ويقول إن الذي يجر الناس إليها طمع الأمراء وجشعهم.

ونحن نجد أيضاً عند فلاسفة النهضة الحديثة من أمثال كانت وبنتام وروسو نزعات معادية للحرب. ولكن ظهر رد فعل لهذه النزعات، في نزعة قومية زعم أنصارها أن وحدة عالمية ليست إلا حلماً فظيعاً؛ فليس ثمة ضمان لفضيلة عندهم إلا بوجود القوميات؛ وهكذا أخذوا ينفخون في نفير الحرب لأنها مقياس الحق ولأنها منبع ترتوي منه الفضيلة فيشتد عودها ويتقوى ساعدها. والحرب عند نيتشة قد جلبت للإنسانية من الخيرات أضعاف ما جلبه الحب الإنساني. وهي عند راسكين أم الفنون وجميع الفضائل المدنية. ولقد أصبحت الحياة عند هؤلاء حق يغتصبه القوي من الضعيف. وإن الصراع من أجل الحياة بين الأقوياء والضعفاء سيتمخض عن الإنسان الأعلى الذي يعلو على أعقاب الضعفاء ويقضي على جيلهم. ان فلسفة القوميات في الواقع هي فلسفة قوة وحرب وسيطرة.

وبعد سقوط نابليون شاع في العالم الرغبة في سلام طويل. ولكنها كانت فترة قصيرة تلك التي شاع فيها حب السلام استيقظت بعدها صيحة القوميات وتعطشها إلى الحرب والسيطرة.

عرضنا فيما سبق استقراء عاماً لفكرة الحرب وتحولها في أحقاب التاريخ. وإن نظرة واحدة إلى ما أمامنا من العناصر لكافية بأن تخرجنا بحقيقة أشبه بأن تكون يقينية، إن كان هنالك ثمة يقين في مجال العلم الحديث. . .

لقد وجدنا أن فكرة الحرب من المعاني الخلقية التي لم تثبت على حال واحدة، بل اختلفت وتبدلت باختلاف الشعوب والعصور؛ فبينا نرى الحرب في بعض الأحايين خيراً أسمى بل وضماناً للفضيلة، نراها في أحايين أخرى شراً مستطيراً، أولى بالحيوانات الكاسرة منها بالإنسان الأخلاقي. . .

هذا الاختلاف في نظرة الإنسان إلى معين الحرب نتيجة لعوامل اجتماعية تشكل الوجدان الأخلاقي فتارة تغلب عليه فكرة الحرب فيراها الإنسان خيرا، وتارة تغلب عليه فكرة السلام فتبدو الحرب للإنسان شراً ليس بعده شر.

فكرة الحرب إذا من المعاني النسبية، تخضع لعوامل اجتماعية معينة تتولد منها وتزول بزوالها.

والتاريخ يدلنا على ألوان أخرى من القتال غير الحروب بصورتها الحالية وذلك مثل الحروب الخاصة والثأر للدم والمبارزة بين الأفراد وغيرها. وقد كانت هذه الأنواع من القتال تتولد تحت ظروف اجتماعية معينة، وكانت تبدو للضمير الجمعي في صورة بطولة وشرف. حتى إذا زالت العوامل الاجتماعية المولدة زالت معها أنواع القتال المختلفة، وأصبحت نظرة الناس إليها غير تلك النظرة السابقة. . .

لذلك ليس بصحيح ما يزعمه بعض العلماء من أن الحرب ضرورة في فطرة الإنسان، فكما أن خلايا الجسم تتحارب فتتولد الحياة الفردية، كذلك يتحارب الناس فتتولد الحياة الاجتماعية. إنما الحرب كما أثبت الاستقراء التاريخي، نتيجة لعوامل اجتماعية خاصة قابلة لأن تزول، وعندئذ تصبح فكرة الحرب من المعاني المجهولة، كما أن الكثير من أنواع القتل كالمبارزة بين الأفراد أصبحنا نجهله كل الجهل.

وعند العلامة وسترمارك أن أنصار السلام يزدادون يوماً بعد يوم، وهكذا عندما تنحسر موجة القوميات - وهي العوامل الاجتماعية المولدة للحروب في عصورنا - ولا يعود الناس ينظرون إلى الحرب والسلام بالمنظار القومي، فإن كل الدلائل تدل على أن الصيحة ضد الاستبداد المنبعثة من القوميات ستخفت، كما خفت غيرها من صيحات الحروب الخاصة والثأر للدم. . .

وإن لنا الدليل كل الدليل في أن العالم يتجه نحو وحدة عالمية، تتلاشى عندها الدوافع القومية وتختفي معالمها، وذلك في روح المذاهب السياسية للدول المنتصرة في هذه الحرب. فالديموقراطية تنعت بأنها مبدأ يعلو على القومية - وكذلك الاشتراكية الحديثة في روسيا (البلشفية) ليست مبدأ قومياً، وإنما هي ترمي في النهاية إلى وحدة عالمية شأنها في ذلك شأن الديموقراطية. ففي حين أننا نرى الفاشيستية والاشتراكية القومية (النازية) تنظران إلى وحدة عالمية كحلم فظيع، نرى أن الديموقراطية والبلشفية تتجهان في جوهرهما إلى وحدة عالمية يسودها الوئام والسلام. . .

إن ملحمة الحرب ملحمة طويلة وحافلة، ولكن لها - ككل قصة في الحياة - نهاية وخاتمة

فؤاد عوض واصف

ليسانسيه في الفلسفة