مجلة الرسالة/العدد 645/جيوردانو برونو

مجلة الرسالة/العدد 645/جيوردانو برونو

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 11 - 1945



لألفرد فيبر.

للأستاذ عبد الكريم الناصري

ولد جيوردانو برونو في مدينة (نولا) - القريبة من نابلي - سنة 1548. وقد أنضم في صباه إلى الأخوة الدومنيكية؛ ولكن شغفه العميق بالطبيعة، وتأثره بكتابات (ليقولا الكوسيّ) و (ريموند لولوس) و (تيلسيو) سرعان ما حولاه عن حياة الرهبنة وعن المذهب الكاثوليكي. ثم ذهب مطوفاً في الآفاق، فزار جنيف وباريس ولندن، وزار ألمانيا فشرّق فيها وغرّب. ولكن البروتستانتية لم تقنعه أكثر مما أقنعه مذهب آبائه. وعند عودته إلى إيطاليا ألقى القبض عليه بأمر من محكمة التفتيش، وسجن عامين، ثم أعدم حرقاً في روما.

كان برونو أول ميتافيزيقي - في القرن السادس عشر - قبل نظرية مركزية الشمس بلا تحفظ. وكان ينظر إلى أفلاك أرسطو وتقسيماته للعالم على أنها محض أوهام. فليس للمكان مثل هذه الحدود التي رسمها له أرسطو، هذه الحواجز المنيعة التي تفصل عالمنا عن ملكوت علوي خاص بالملائكة، والأرواح المحضة، والكائن الأعلى. ما السماء إلا الكون الذي لا حد له، وما النجوم الثوابت إلا شموس تحيط بها كواكب سيارة، ترافقها توابع أو أقمار. والأرض كوكب من هاته الكواكب، ليس غير، فما تشغل مكاناً مركزياً ممتازاً في السماء. ومثل ذلك يقال في شمسنا، لأن الكون نظام من أنظمة شمسية.

وإذا كان الكون غير متناه فينبغي أن نقول: إنه لا يمكن أن يكون ثمت لا نهايتان؛ ولكن وجود العالم لا يمكن أن ينكر؛ إذن فالله والكون شيء واحد. وبرنو - لأجل أن يتخلص من تهمة الإلحاد - يميز بين الكون والعالم: فالله، أو الوجود اللانهائي، أو (الكون)، هو مبدأ (العالم) أو علته السرمدية: هو الطبيعة الطابعة (أو الطبيعة مصدراً أما العالم فهو كلية معلولات الله أو ظواهره: هو الطبيعة المطبوعة (أو الطبيعة معلولا وفيلسوفنا يرى أن من الإلحاد أن يعتبر الله والعالم شيئاً واحداً، إذ ليس العالم إلا مجموع الكائنات الفردية، والمجموع ليس بكائن، وإنما هو لفظ فحسب. فأما اعتبار الله والكون شيئاً واحداً فليس بإنكار له، وإنما هو، على الضد من ذلك، تعظيم له، لأنه توسيع لفكرة الكائن الأعلى إلى ما وراء الحدود التي يفرضها عليه هؤلاء الذين يتصورونه كائناً (بجانب) الكائنات الأخرى: أي كائناً محدوداً. ومن هنا كان يحلو لبرونو أن يدعو نفسه (فليوتيوس) أي (محب الإلهي)، إرادة أن يميز في وضوح بين تصوره لله وبين الإلحاد. بيد أن هذه الحيطة لم تجده نفعاً، ولم تفلح في تضليل قضاته.

والواقع أن إله برونو لا هو خالق العالم بل ولا هو محركه الأول؛ وإنما هو (نفس العالم). إنه ليس علة الأشياء المتعالية والموقتة؛ وإنما هو - على حد تعبير اسبينوزا - علتها الحالة أي الباطنة. إنه مبدؤها المادي والصوري معاً؛ إنه المبدأ الذي يحدثها وينظمها ويحكمها (من الداخل نحو الخارج). إنه بالإيجاز جوهرها السرمدي. إن الموجودين اللذين يميز بينهما فيلسوفنا بلفظي (الكون) و (العالم) ليسا في الحقيقة إلا شيئاً واحداً، يعتبر حينا من مقام (الواقعية) (بالمعني المدرسي) وحيناً من مقام (الاسمية).

فالكون الذي يحوي ويحدث جميع الأشياء ماله من بداية ولا نهاية؛ أما العالم - أي مجموع الموجودات التي يحولها ويحدثها - فله بداية ونهاية. ههنا - إذن - تحل فكرة الطبيعة الضروري محل فكرة الخالق والخلق الحر، وتعود الحرية والضرورة لفظين مترادفين ويرجع الوجود والقدرة والإرادة في الله فعلاً واحداً لا يتجزأ.

وإبداع العالم لا يكيف (الكون الإله) على أي نحو من الأنحاء، وهو الكيان الواحد الثابت السرمدي اللامتناهي، والممتع على القياس والمقارنة. فإنه إذ يفض نفسه يحدث مالا عداد له من الأجناس والأنواع والأفراد، وملا نهاية له من شتى القوانين والنسب (التي تقوم حياة الكون وعالم الظواهر) من غير أن يصير هو نفسه جنساً أو نوعاً أو فرداً، أو يخضع لأي قانون من القوانين، أو يدخل في أية نسبة من النسب. إنه وحدة مطلقة لا تقبل الانقسام، ولا شأن لها بالوحدة العددية. إنه في كل شيء وكل شيء فيه. وليس من موجود إلا ويحيا ويتحرك ويتقوم فيه. إنه حاضر في سنبلة القمح، وفي حبة الرمل، وفي الهباءة التي تسبح في شعاع الشمس، كما هو حاضر في (الكل) الذي لا حد له - لأنه لا يقبل الانقسام. وحضور (الواحد) اللانهائي في كل مكان، وحضوراً جوهرياً طبيعياً، يفسر - وفي الوقت نفسه يهدم - الاعتقاد الديني بوجوده الفائق الطبيعة في (الخبز المقدس)، هو الاعتقاد الذي يعتبره الدومنيكي السابق حجر الزاوية في المسيحية. وبسبب هذا المحضر الحقيقي للكائن اللانهائي في كل مكان، كان كل شيء في الطبيعة حياً؛ في سبيل إلى إعدام شيء؛ وما الموت نفسه إلا تحول في الحياة من شكل إلى آخر. . . إن مزية الرواقيين تستقر في أنهم رأوا في العالم موجوداً حياً؛ ومزية الفيثاغوريين تستقر في أنهم أدركوا ما تتسم به النواميس الحاكمة للخلق السرمدي من الثبات والضرورة الرياضية.

وبرونو يسمى (اللانهائي) أو (الكون) أو (الله) بالمادة أحياناً. وليست المادة عنده (اللاوجود) الذي قالت به المثالية اليونانية وقال به المدرسيون. فإنها عنده غير ممتدة، أي (لا مادية) في ماهيتها، وليست تقبل وجودها من مبدأ إيجابي خارج عنها (الصورة)، وإنما هي بضد ذلك الصدر الحقيقي للصور كلها، إذ هي تنطوي على أصول هذه الصور جميعاً، وتبرزها بالتعاقب. فما كان أول الأمر بذرة يصير ساقاً، ثم سنبلة، ثم خبزاً، ثم عصارة، ثم دماً، ثم نطفة، ثم جنيناً، ثم إنساناً، ثم جثة، ثم يعود إلى الأرض أو الحجر أو ما إلى ذلك من المواد، ليمر بعد بالمراحل نفسها من جديد. وهكذا نجد ههنا شيئاً واحداً يتحول إلى كل شيء، ويبق مع ذلك واحداً في جوهره. ومن ثم تبدو المادة وحدها ثابتة سرمدية، وجديرة بأن تدعى مبدأ. وأنها - وهي المطلقة - تتضمن الصور والأبعاد جميعاً، وتطور من نفسها ما لا حد له من شيء الصور التي تستعلن فيها وتظهر. ونحن حين نقول إن شيئاً قد مات، إنما نعني أن شيئاً جديداً قد ولد؛ فإن انحلال مركب من المركبات معناه تكوين مركب جديد.

والنفس البشرية أعلى ما تتطور إليه الحياة الكونية، فهي تنبثق من جوهر الأشياء كلها، بفعل القوة نفسها التي تخرج السنبلة من حبة الحنطة. على أن لكل موجود في الكون جسما ونفساً، فجميع الموجودات (مونادات) حية يستعلن فيها (موناد المونادات) أو (الكون الإله) في صورة جزئية وهيئة خاصة. والجسمانية هي الأثر الناشئ عن قوة الموناد التوسعية، أو حركته نحو الخارج؛ وفي الفكر ترجع حركة الموناد على نفسها. إن هذه الحركة المزدوجة، من توسع وتمركز، تقوم حياة الموناد. وهو يدوم ما دامت هذه الحركة، ويموت حين تقف، ولكنه يختفي ليظهر وشيكا في صورة جديدة. وعلى هذا يمكن أن يوصف تطور الكائن الحي بأنه اتساع مركز حيوي، وتوصف الحياة بأنها ديمومة الكرة، والموت أنه تقلص الكرة وعودتها إلى المركز الحيوي الذي انبثقت منه.

إننا سنصيب هذه التصورات كلها، وخصوصاً (تطوريّة) برونو، في أنظمة (ليبنتس) و (بونيه) و (ديدرو) و (هيجل) فأن فلسفة برونو تنطوي على أصولها البدائية البسيطة. هذا إلى أن هذه الفلسفة، من حيث هي توفيق بين الوحدية والذرية، والمثالية المادية، والنظر والملاحظة، تعتبر المصدر المشترك للمذاهب الأنطلوجية الحديثة.

(بغداد)

عبد الكريم الناصري