مجلة الرسالة/العدد 645/من التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 645/من التاريخ الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 11 - 1945



رجل وامرأة. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

(يقولون: إن التاريخ يعيد نفسه وربما كان صحيحاً هذا الذي

يقولون)

(ع)

كان ذلك في يوم من أيام سنة 607هـ وكانت دمشق تصارع دهرها الغاشم الحرون، الذي رمى بلاد الشام بقاصمة الأصلاب: الصليبيين، فنزلوا على مدنه نزول البلاء، وفشت أجنادهم في نابلس وعكا وبلاد أخر فشو الطاعون، وكان صبرها يزيد كلما زاد الكرب، وحزمها ينمو كلما نمت المصيبة، شأن دمشق في كل عصر. وكأن طوفان المغيرين يمتد ويتسع، يحمل الموت والدمار، يأتي على البلاد والعباد، يجتث الحضارة من أصولها، وأهل الشام ينهضون له فلا يملكون له دفعاً، حتى كادت الديار تخلو من شبابها، ولا يبقى فيها إلا شيخ أو امرأة أو صبي. . . أو قَعدي نسى واجب الجهاد!

. . . وقد ذهب فيمن ذهب اخوة (ميسون) الأربعة، وبقيت من بعدهم وحيدة في دارها لا يؤنسها إلا شبابها وجمالها وذكرى اخوتها

أصبحت ميسون مهمومة، قد تقاسم فكرها العزيزان: وطنها وإخوتها، فما تدري ماذا جرى لهم، وماذا يجري عليه، ولقف

سمعُها طرفاً من أحاديث المارة، فعلمت أنه قد اشتد الخطر، ودنا الهلاك، وأن هؤلاء (الواغلين. . .) لا يفتأون يركبون جناح الليل الأسود، إلى شاطئ فلسطين، تحملهم المواخر الهاربة من عين الرقيب، المتسللة من وراء الحرس، فكلما دجا الظلام نزلوا إلى الشط أفواجاً فكانوا للغاصبين عوناً، وعلى أهل البلاد حرباً، وجعلت تفكر في هذه العصبة المجاهدة الكريمة، ماذا تستطيع أن تصنع لها؟ وكيف توقد النار في أعصاب هؤلاء الذين لا يزالون يروحون ويغدون على متاجرهم وأعمالهم، ويأخذون حظوظهم من مفاتن الطبيعة وجمال الكون، وتنسيهم ملذات أجسامهم ومرابح تجارتهم، وهذا الخطر الذي عم البلاد، والذي طال الزمان به، ونشأوا عليه، فألفوه ونسوا أيام الحرية والمجد، وأن هذه البلاد بلادهم، وأنهم سلائل الأبطال الفاتحين، وحسبوا حكم هؤلاء (الواغلين. . .) ضربة لازب، وأن قضاء الله قد تم فيهم فلا ينفع معه سعي، وأن أيام السعادة قد انتهت فلا نؤمل لها رجعة، كيف لها وهي الفتاة المفردة بإيقاظ هذه النفوس التي امتد بها الهجوع حتى كاد يكون موتاً؟ كيف تفهم هذه الشخوص التي تجئ وتذهب كشخوص من ورق في ألعوبة (الكراكوز)، أن الحياة ليست بطناً يملأ، ولا شهوة تقضى، ولا مالاً ينال، ولكن الحياة المجد والتقى، وجلائل الأعمال، وأن يعرفوا للوطن حقه، وأن يعلموا، ويعلم كل عربي، وكل مسلم، أنه ما دام في فلسطين (واغل. . .) واحد من هؤلاء فحرام أن ينعم زوج بأهله، أو غني بماله، أو يغلق جفن على لذيذ المنام؟

وأنها لفي تفكيرها، وإذا بالباب يخفق، وإذا هو نعي اخوتها الأربعة. . .

صعقت ميسون لهذا النبأ، وعجز جسمها اللدن، وقلبها الرقيق عن حمله، فتضعضعت وانهارت، ولكن الإيمان والشباب تنبها في نفسها، ونهضا من تحت أنقاض الصبر، وخلال غبار المصيبة، يوقظان اللبؤة للانتقام. لقد كان وتراً واحداً فصار وترين، وكانت تطلب ثأر وطنها فلتطلب ثأر وطنها واخوتها، ووضعا البارود في أعصابها كما يوضع في المدافع، ثم أرسلاها في هذا الشعب الهاجع، تقرع أذنه بالرعود فيفيق أو ينام إلى الأبد. . .

وأحست ميسون أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزاً، وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل، والمدد الذي لا ينقطع، والأيد الذي يفل الجيوش، ويدك الحصون؛ وكذلك الإيمان إن نزل بقلب امرأة جعل منها بطلا يغلب، وما أعجب ما يصنع الإيمان!

وهمت ميسون أن ترتدي ثيابها ثم تطلب ميدان العمل، وتلفتت حولها لم تجد لها في الأرض قريباً، ولا ذا رحم، فقطعت أسبابها من الأرض ثم وصلتها بالسماء، فشعرت كأنها مؤيدة بقوة إلهية، اصطفتها من دون الناس، لتعلم، وهي الفتاة الغريضة الناعمة، لتعلم هؤلاء الرجال، الرجولة كيف تكون! ولم تعلم من أين تبدأ العمل، وجعلت تفكر، وهي تمر يدها على شعرها المنسدل حولها، المتموج كالحرير يفتن العباد لو أرادت به الفتنة ويأسر قلوب الفرسان، فسطعت لها الفكرة كما يسطع البرق خلال الظلام، إن هذا هو سلاحها، لتشدن الرجال بهذا الشعر الناعم، ثم لتقودنهم من أعناقهم إلى المعمعة الحمراء، لتجعلن من ضعفه قوى تأكل القوى.

وذهبت فنادت جارات لها كن يقتدين بها، ويسمعن منها، فذكرت لهن مصابها في اخوتها، فحسبنها قد دعتهن ليواسينها ويخففن عنها، ولكنها مضت في حديثها مصعدة، حتى سمت إلى فلك التضحية ونسيان النفس ورفعتهن معها، حتى إذا استوثقت منهن، قالت: إننا لم نخلق رجالا نحمل السيوف، ونقود الخميس، ولكنا إذا جبن الرجال لم نعجز عن عمل، هذا شعري أثمن ما أملك أنزل عنه، أجعله قيداً لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك هؤلاء الأموات.

وأخذت المقص فجزت شعرها وصنع الفتيات صنعها، ثم جلسن يضفرنه ليوم الكريهة، لجماً وقيوداً لخيل المعركة العابسة، لا يضفرنه ليوم الزفاف، ولا لليلة العرس.

أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب (الجامع الأموي) سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفذ منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله، وينظر بعضهم في وجوه بعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم. . .

خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول، فيقذف به على لسانه، ولم يستطيع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح قد ذابت كلمتها في معانيها، ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كل عصر مرة، لسان محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامة من الكرامات، وواحدة من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر. . . وإنما حفظوا منها جملاً، نقلوها إلى لسان الأرض، فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. . وكان مما حفظوا:

(يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم، ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادكم بالحق أقطار الأرض، وحكموا هم بالباطل في ديارهم وأوطانهم!

يا من باع أجدادهم نفوسهم من الله بأن لهم الجنة، وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة!

يا أيها الناس:

ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين يا ويحكم أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم؟ مرأى عدو الله وعدوكم، يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويتعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا؟

أما يهز قلوبهم، وينمي حماستكم، وأن إخواناً لكم قد أحاط بهم العدو، وسامهم ألوان الخسف؟! أما في البلد عربي؟ أما في البلد مسلم؟ أما في البلد إنسان؟ العربي ينصر العربي! والمسلم يعين المسلم! والإنسان يرحم الإنسان! فمن لم يهب لنصرة فلسطين، لا يكون عربياً ولا مسلماً ولا إنساناً!

أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟

يا أيها الناس، إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب، فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، وأذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل! يا نساء بعمائم ولحي! أو لا. . . فإلى الخيول. وهاكم لجمها وقيودها. . .

يا ناس. أتدرون مم صنعت هذه اللجم والقيود؟

لقد صنعها النساء من شعورهم لأنهن لا يملكن شيئاً غيرها، يساعدن به فلسطين. .

هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظاً، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة، الحرب في سبيل الله، وفي سبيل الأرض والعرض، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها بها فخذوها فاجعلوا ذوائب لكم وضفائر. . . إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور!

وألقاه من فوق المنبر على رؤوس الناس، وصرخ: (تصدعي يا قبة النسر، وميدي يا عَمَد المسجد، وانقضي يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم. . .)

فصاح الناس صيحة ما سمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت!

بلغت الحياة هذه القلوب فعاشت بحمية الإيمان، وحماسة الشرف، وعاش فيها إرث الجدود، فهبت دمشق، يستبق رجالها في طريق الجهاد، وتوالت الإمداد على الملك المعظم في نابلس، ونابلس دائماً مطلع شمس النصر، ونابلس دمشق فلسطين، وكانت هجمة الأسود على الأعداء (الواغلين. . .) فطردوهم حتى التجئوا إلى عكا، فحاصروهم فيها حتى أشرفوا على الهلاك، فاستسلموا. . .

وكذلك جاء النصر على يدي رجل وامرأة، وأما الرجل فقد أكرمه الله فجعله أحد العظماء الخالدين، وأما المرأة فقد كافأها فرد عليها اخوتها الأربعين سالمين مظفرين، لم يصبهم سوء. . .

وعلمت الدنيا أن أتباع محمد، لا يذلون ولا يستعبدون، ما بقي فيهم رجل واحد، أو امرأة مفردة، طوت صدرها على إيمان صحيح، وأنهم قد ينامون ولكنهم لا يموتون، وأن (الواغلين. . .) عليهم، في فلسطين وغير فلسطين قد يقيمون حيناً ولكنهم لا يستقرون ولا يملكون!

علي الطنطاوي