مجلة الرسالة/العدد 646/توماسو كمبانلا

مجلة الرسالة/العدد 646/توماسو كمبانلا

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 11 - 1945



لألفرد فيبر

للأستاذ عبد الكريم الناصري

إنا نصيب في بحوث توماسو كمبانلا - وهو كبرونو دومنيكي من جنوبي إيطاليا - ملامح من مقالات الإنجليز والألمان في العقل الإنساني، أعنى من النقد الحديث، ولد هذا البطل الجريء من أبطال إصلاح الفلسفي والحرية الإيطالية بمقربة من (ستيلو) من أعمال كالبريا، سنة 1568، وتوفي في باريس، سنة 1639، بعد أن أنفق سبعة وعشرين عاماً في غياهب السجن بنابُلي، بتهمة التآمر على الحكم الأسباني.

وكمبانلا تلميذ من تلامذة الشكاك اليونان. وقد علمته هذه المدرسة أن الميتافيزيقا تقوم على الرمل إن لم تُبنَ على أساس نظرية في المعرفة. ومن ثم تبحث فلسفته أول ما تبحث في المسألة الصورية.

تنشأ معرفتنا من مصدرين: التجربة الحسية، والاستبدال العقلي؛ فهي إما (تجربية) وإما (نظرية).

هل المعرفة المحصلة بالإحساس يقينية؟

يرى أغلب القدماء أن شهادة الحواس يجب أن تغفل، ويلخص الشكاك شكوكهم في الحجة التالية: ليس الموضوع الذي تدركه الحواس إلا تكفيناً في الذات، وإن الواقعات التي تحصل - فيما تخبرنا الحواس - خارج النفس، إنما تحصل على الحقيقة. الحواس هي حواسي؛ إنها جزء مني؛ والإحساس واقعة تحدث فيَّ؛ وهي واقعة أعللها بعلة خارجية، في حين أن الذات المفكرة قد تكون علتها المعينة ولكن غير الواعية؛ فليس هذا التعليل بأعسر من ذاك. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نستطيع أن نصل إلى علمٍ يقينيٍ بوجود الأشياء الخارجية وطبيعتها؟ إذا كان الموضوع الذي تدركه حواسي لا يريد على انه إحساسي، فكيف أبرهن على انه موجود في الخارج؟ يجيب كمبانلا: بأني أبرهن على ذلك (بالحس الباطن).

فالإدراك الحسي يجب أن يستمد صفة اليقين - التي لا يملكها في نفسه - من العقل: يحيله معرفةً. قد يشك الميتافيزيقي في صدق الحواس، ولكنه لا يستطيع أن يتهم الحس الباطن.

بيد أن الأخير يكشف لي عن وجودي بلا واسطة؛ وبيقين لا ظل من الشك فيه. إنه يكشف لي عن نفسي كائناً يوجد، ويفعل، ويعرف، ويريد، ولكن هيهات أن يفعل ويعرف كل شيء. إنه - بعبارة أخرى - يكشف لي وجودي وحدوده معاً. ومن ثم أستنتج بالضرورة أن هناك كياناً يحدني، أو عالماً موضوعياً يختلف عنى؛ أو (لا أنا). وهكذا أبرهن بالمنهج البعدي على حقيقة فطرية، أو قبلية أو سابقة على كل تفكير: وهي أن وجود (اللا أنا) هو علة إدراكي الحسي.

أتدحض هذه الحجة مذهب الشك؟ ألحق أنها لا تبلغ من ذلك كثيراً، وإن فيلسوفنا ليعترف بهذا، ولا يدعى لنفسه النصر والغلبة. فإن قولك إن الحواس صادقة في إرادتنا الموضوعات الخارجية، لا يلزم عنه بالضرورة أنها ترينا هذه الموضوعات على ما هي عليه. إن التطابق الذي تفترضه (التوكيدية) بين نحو تصورنا الأشياء ونحو وجودها إنما هو - في رأى كمبانلا - نتيجة لتماثل الموجودات، وهذا بدوره نتيجة لحقيقة ممتنعة على البرهان: وهي أصل الموجودات الموحد. ثم إنه لا يسلم أن لدى النفس الإنسانية علماً مطلقاً بالأشياء. قد تكون معرفتنا صحيحة، لكنها لن تكون تامة أبداً. وهي إذا قيست بمعرفة الله تافهة أشبه بلا شيء. وقد كنا خُلَقاء أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، لو كانت معرفتنا فعلاً محضاً: لو كان إدراكنا خلقاً. إنا لأجل أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، أو بصورة مطلقة، يجب أن يكون (المطلق) من حيث هو، أي نكون (الخالق) نفسه. على أن معرفتنا وإن كانت مثلا أعلى لا يستطيع الإنسان تحقيقه - وهذا دليلٌ بين على أن هذه الدنيا ليست بداره الحق - فإن من واجب المفكر أن يشتغل بالبحث الميتافيزيقي.

والميتافيزيقا، أو الفلسفة الكلية، باعتبار موضوعها، هي علم مبادئ الوجود أو شروطه الأولى؛ وهي، باعتبار مصادرها وآلاتها ومناهجها، علم العقل، الذي يفوق العلم التجريبي يقيناً وسلطاناً.

والوجود أو الكينونة معناها الصدور من مبدأ والرجوع إليه. ترى ما هو هذا المبدأ؛ أو بالأحرى ما هي هذه المبادئ؟ فإن الوحدة المجردة شيء عقيم. وبعبارة أخرى: ما هي شروط وجود الموجود؟ الجواب:

1 - أن يكون (قادراً) على الوجود.

2 - أن يكون في الطبيعة فكرة أو (مثال)، هذا الموجود تحقيق له (لأن الطبيعة لا تحدث شيئاً بغير علم).

3 - أن يكون ثم (نزوع) إلى تحقيق المثال. فالقدرة والمعرفة والإرادة هي مبادئ الوجود النسبي. ومجموع هذه المبادئ، أو (بالأحرى) الوحدة العليا التي تحويها، هي الله. فالله هو القدرة المطلقة، والمعرفة المطلقة، والإرادة أو المحبة المطلقة. وللمخلوقات أيضاً قدرة وإرادة وإدراك، وحظوظها من هذه الصفات تتفاوت بتفاوت قربها بمصدر الأشياء فإن الكون نظام متدرج ينتظم العالم العقلي أو الملائكي أو الميتافيزيقي (الملائكة، والنفس العام، والنفوس الخالدة) والعالم السرمدي أو الرياضي؛ والعالم الزمني أو الجسماني. وكل هذه العوالم - حتى العالم الجسماني نفسه - تشارك في المطلق، وتعكس عناصر الماهوية الثلاثة: القدرة والمعرفة والإرادة.

كل موجود فإنما يصدر عن الكائن المطلق ويسعى إلى الرجوع إليه. وبهذا المعنى يصح أن نقول إن الموجودات المتناهية كلها بلا استثناء (تحب) الله؛ كلها دينة؛ كلها تسعى إلى أن تحيا حياة الخالق اللانهائية؛ كلها تفزع من اللاوجود، وبما أنها جميعاً تحمل في نفسها اللاوجود بالإضافة إلى الوجود، فكلها تحب الله أكثر من ذاتها أن الدين ظاهرة كلية، مصدرها توقف الأشياء كلها على الكائن المطلق؛ وإن علم الدين أو اللاهوت ليسمو على الفلسفة سمو الله على الإنسان.

بالرغم من كل هذا الذي سلمه كمبانلا للكاثوليكية، وبالرغم من رسالته الموسومة (بالإحاد المنتصر)، كانت محاولاته في الإصلاح موضع ريبة الكنيسة، فلم يتحقق منه شيء. وقد يئست الفلسفة بعد أن تظفر بمزيد من التقدم في إيطاليا؛ فتراها من ذلك الوقت تقيم في البلدان التي أنارها أو حررها الإصلاح الديني: في إنجلترا، وعلى ضفتي الراين.

(بغداد)

عبد الكريم الناصري