مجلة الرسالة/العدد 646/من ماضي مصر
مجلة الرسالة/العدد 646/من ماضي مصر
بين فرنسا وإنجلترا
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
إن ما يحدث في الشرقين الأوسط والأدنى من الحادثات، ويقع فيهما من توليه أو عزل للحكام والحكومات، ويجري من السياسات، كل أولئك أمور يعتقد أناس كثيرون إنها جميعاً من تصرف الشرقيين وحدهم، وإنها لا اثر فيها لنفوذ غيرهم أو لدس أو سياسة من سواهم؛ لكنها أمور لا يستقل الشرقيون دائماً بالرأي فيها ضعفت الدول الشرقية أو تخلفت، بل يغلب أن تسببها وتلعب بها أيد صنُع أجنبية ظاهرة أحياناً وتارة خفية
وهذا مقال وجيز جاء بمثال أو أمثلة في موضوعه، فليس يزعم انه يبين جميع ما وقع لمصر بين فرنسا وإنجلترا من جراء تعاديهما، وطمعهما وتنافسهما الاستعماري؛ وإنما غرضه الإشارة الخفيفة إلى اثر ذلك التعادي والطمع والتنافس في بعض حوادث هذا القطر المتصل بالشرق الأدنى، والمنسوب إلى البلاد العربية بخلط في دم أهله، وبلغهم وتالد ثقافتهم.
طال العداء بين فرنسا وإنجلترا دهراً تحاربتا فيه حرباً عواناً، وخصوصاً لعهد حكومات الثورة الفرنسية الكبرى وإمبراطورية نابليون، بسبب المبادئ الثورية وأعمال أصحابها، والسيادة الدولية والبحرية، والتجارة والاستعمار. وقد ظلت إنجلترا في تلك الأيام تؤلب الدول الأوربية على عدوتها اللدود؛ ودخلت الحرب في الحلف الأولى على فرنسا بعد أن أعدمت لويس السادس عشر سنة 1793؛ ولم تكف إنجلترا بعد انحلاله، بل بقيت تحارب، وألبت الحلف الثاني الذي تحطم، ثم أنهت حربه سنة 1802 بمعاهدة أميان بينها وبين فرنسا.
فكانت إنجلترا في حرب مستمرة مع فرنسا يوم نزلت حملة بونابرت بأبي قير عام 1798، ويوم أبحر عائداً إلى فرنسا، ثم تبعه الجنرال بليار قسم من الحملة في 7 من أغسطس عام 1801 فتبعهما الجنرال منو في الشهر التالي بالقسم الباقي. وجاءت معاهدة أميان بعد ذلك بنحو نصف عام.
وكانت مصر على الدوام محسدة الدول التي سادت العالم القديم: لأنها كانت مركزه الجغرافي، وإنها تمكن من السيادة على البحر المتوسط. ومفتاح هذه السيادة هو على الأصح تونس لوقوعها في منتصف البحر وإشرافها على شقيه الشرقي والغربي، وعلى صقلية ومضيق مسينا الفاصلين بينهما. بيد أن مصر أيضاً مشرفة على البحر المتوسط ومشرفة مع ذلك على البحر الأحمر، وهي منفذ إلى الهند ووصلة بين أفريقية وآسية، ومجاز إلى طرقها البرية. وقد اتجه نظر بونابرت إلى مصر منذ كان يحارب في إيطاليا حيث انتصر وعد انتصاره طالع سعده، ومنها كتب إلى تالران 1797: (لن نلبث مليا حتى نحس انه ليس بد من أن نمتلك مصر لتحطيم إنجلترا). ولما عهدت إليه حكومته في الاستعداد لغزو الإنجليز شرع يستعد؛ غير انه وضع مشروعاً للاستيلاء على مصر، وشرح لحكومته ما تجنيه فرنسا من الثمرات إذا هي استبدلته بغزو إنجلترا فوكلت إليه قيادة الحملة وفتح القطر.
وملخص الأسباب التي شرحها بونابرت في إيثار مشروعه أن مصر أخصب أرض وثروتها الزراعية والحيوانية عظيمة؛ وإنها كانت هري رومة وهي يومئذ هري القسطنطينية، ومجمع القوافل الأفريقية والأسيوية، ومحل تبادل المتاجر الشرقية والأوربية؛ فإذا قامت فيها إدارة فرنسية خمسين عاماً يزيد عدد سكانها زيادة كبيرة، وتصبح سوقاً ومصرفاً لمصنوعات فرنسا، وإن حلول الفرنسيين بمصر يضر إنجلترا، ويمكنهم من السيادة على البحر المتوسط فيوطد الإمبراطورية العثمانية؛ وإذا كان الانهيار مقدراً عليها أخذت فرنسا أحسن حصة من سلبها؛ فإذا استعمرت فرنسا مصر، أو جعلتها مستودعاً للمتاجر أو موثباً تنقض منه فرنسا على مؤسسات الإنجليز في الهند، كان لها أن تستيقن بأنها سترد التجارة الكبرى إلى طرقها الطبيعية فتصل إلى الثغور الفرنسية، لأن فرنسا أحسن الدول الغربية الكبيرة موقعاً بالنسبة إلى مصر.
نزلت الحملة الفرنسية بإسكندرية في أول يولية عام 1798، وأعلن الباب العالي الحرب على فرنسا في 4 سبتمبر من العام نفسه، واخذ جيشين أحدهما في سورية، والثاني في رودس لطرد الحملة، فرأى بونابرت أن نزول جيش رودس من البحر لا يتيسر إلا في الصيف، فاثر أن يفاجئ الجيش البري قبل أن يتم احتشاده ليشتته في سورية ويفتحها كما فتح مصر؛ ومتى يقهر الترك ويجمع محاربين في صفه بالتجنيد من المسيحيين المنتشرين في تلك البلاد، ومن الدروز وغيرهم تمتد الحركة إلى سائر العرب ويتسهل له إصلاح العلاقات بين فرنسا والباب العالي، ثم يجتاز الصحراء زاحفاً إلى الهند. لكنه رجع إلى مصر مضطرباً بسبب صبر عكا على حصاره وتفشى الطاعون في عسكره وغير ذلك.
وجلت الحملة الفرنسية من مصر، لكن بونابرت المستسعد بجده وفرنسا التي أعزت به، فرنسا إلى ما فتئت تدافع عن مصالحها في الشرق لم ييأسا من إمكان فتح هذا القطر ثانية، بل أرادا العمل على إحياء النفوذ الفرنسي فيه ريثما تتاح فرصة الاستيلاء عليه.
ففي محفوضات وزارة الخارجية البريطانية وثيقتان: إحداهما مذكرة بمشروع لاستقلال مصر منسوب إلى المعلم يعقوب الذي ورد ذكره في تاريخ الجبرتى - وليس في كلام المؤرخ إشارة ما إلى انه عرف شيئاً يتعلق بهذا المشروع؛ والوثيقة الثانية كتاب من قائد سفينة حربية إنجليزية أرسل معه المذكرة إلى حكومته عقيب نقله يعقوب من مصر. ولهاتين الوثيقتين علاقة بعمل فرنسا على إحياء نفوذها في مصر.
فقد وجد رؤساء حملة بونابرت أن المعلم يعقوب رجل حرب وإدارة على ذكاء ومكر، فألحقوه بجيش الجنرال دُزِه مديراً للتموين، فأثبت إخلاصه لهم وشجاعته. وبعد هزيمة المماليك في الصعيد رجع في أسيوط إلى عيشة الثراء بجواز قائده، وعاشره هو وأركان الحرب من ضباطه وبعض أعضاء اللجنة العلمية الفرنسية، وكانت المحادثات بندى القائد شائقة وسامية المعاني في اكثر الاحيان، فلا غرو من أن تكون أرسخت الأفكار الجديدة في أعماق ذهن المعلم. ثم عهد إليه كليبر في تنظيم المالية المصرية؛ ثم جعله رئيساً لفرقة عسكرية قبطية؛ ورقاء خلف كليبر في القيادة العامة إلى رتبة اللواء (جنرال) وعينه مساعداً للجنرال بليار في دفع الجيوش الإنجليزية والتركية عن القاهرة، فعد هو وفرقته القبطية - عند استسلام العاصمة في 17 من يونية عام 1801 - من الجند الموكول أمرهم إلى بليار وأبحر مع هذا القسم من جيش الجملة إلى فرنسا على تلك السفينة الحربية الإنجليزية.
قال الجنرال يعقوب القائد السفينة، في حديث لم يحضره سوى رجل من اصل فرنسي اسمه لسكرى جاء من مالطة مع الحملة التي استولت عليها في الطريق إلى مصر: إنه يمر مشروعا لاستقلال مصر يريد من القائد أن يبلغه عنه سراً إلى الحكومة البريطانية.
وخلاصته أن مصر إذا استقلت فأنها تكون في حكم الخاضعة لإنجلترا سيدة البحار، ولن تكون أبداً إلا دولة زراعية غنية بأرضها الخصبة وبتجارة أفريقية الوسطى؛ وهذه الفوائد تغنى الأمة التي لها دائماً أعظم مصلحة في تجارة مصر وبحارها، بسبب الهند؛ وهذا الاستقلال لا يكون انقلاباً أحدثه نور العقل أو قلق الخواطر بمبادئ فلسفية متنافضة، بل يكون تغيراً سببه عمل قوة قاهرة في حال أناس هادئين جهلاء، لا يعرفون على التقريب سوى المنفعة والخوف؛ فلا يكون استطاعة المصريين أن يحموا استقلالهم من الأوربيين قبل زمن مديد، حين تنتظم القوة الأهلية وتصبح مهيبة؛ أما حمايته من الترك والمماليك فان الدول الأوربية تستطيع أن تحرمهم كل اعتداء على مصر، ويمكن أن يستأجر المصريون فرقة أجنبية مساعدة تجمع إثني عشر ألف رجل أو خمسة عشر ألفاً، فتكون نواة الجيش المصري وتكفى لإيقاف الترك في الصحراء وإبادة المماليك في داخل مصر؛ ومصر منقسمة طوائف وشيعاً يسهل تزجيها إلى الاختلاف لتتوازن؛ وهو ومن معه من الأقباط وفد متصل بها جميعاً، مفوض إليه من وجهاء الإخوان الأحرار أن يفاوض الدول في الاستقلال (ولو فوضه أحد في شيء من نحو ذلك لما خفي جملة الأمر على مثل الجبرتي)؛ وغرضه أن يفاوض بطريقة تجعل فرنسا هي البادئة بطرح المشروع على إنجلترا إذا أيقنت هذه الدول بفوائده السياسية فعزمت على تأييده عند عودة السلام العام إلى أوربا فلا يتعرض الوفد لرفض مشروعه بسبب التنافر بين هاتين الدولتين الأوربيتين، أو حذر أن يكون حيلة من الجمهورية الفرنسية.
لم يكن الدين حائلا بين الفرنسيين والقبط ولم يكن بد من أن يحدث ضم يعقوب إلى الجيش الفرنسي، قراب ثلاثة أعوام، آثاراً عميقة في نفسه. فكان له أن يتوقع المكافأة الثمينة من بونابرت، ولا سيما بعد إذ اصبح القنصل الأول في حكومة القنصلية وهو الذي لم يكن ليغفل عم الجزاء السخي على مثل ارتياح المعلم إلى خدمة الفرنسيين في جميع الاحوال، واستسلامه لأرادتهم كل الاستسلام حتى جعلوه جنرالا فرنسياً. غير أن المعلم مات على السفينة البحرية الإنجليزية عقب الإفضاء بسره، فكتب لسكرى المشار إليه آنفاً مذكرة بالمشروع هي التي أرسلها قائد السفينة مع كتابة إلى الحكومة الإنجليزية. وكان يعقوب قبيل موته قد أبدى رغبته في أن يدفن بجانب (دزه) حباً فيه، فلم تلق جثته في البحر بل حفظت في برميل روم إلى أن دفنت في مرسيليا.
وواضح من نص الوثيقتين برمته، ومن سيرة صاحب المشروع في زمانه ومكانه، أن فكرة هذا الاستقلال وليدة السياسة العليا، وان المعلم يعقوب تبناها تحت رعايا الحملة الفرنسية. ولو امتد بالجنرال يعقوب زمنه لأيّدت فرنسا مشروع هذا القبطي الوجيه الثري، عند عقد معاهدة اميان، ليخدم مصلحتها بنفوذه في مصر إذ كان أحد رؤساء طائفته وقد صيره شخصية كبيرة الشأن. لكنه مات فلم يبق في الفرقة القبطية من يصلح للحلول محله والمفاوضة في مشروعه.
لما عاد بونابرت من مصر إلى فرنسا وتولى رياسة الحكومة القبطية أرسل ماتيو ده لسبس قنصلا عاما إلى مصر، وذلك في سنة 1804 من أيام القلق التي كان جلاء الجيش الفرنسي عن القطر تركه فيها لنفوذ المماليك وللفوضى. وكان من شأن المهمة الحقيقية المعينة لماتيو أن تعرضه للمخاطر في بهرة هذه الفوضى، إذ كانت المهمة هي إعادة النفوذ الفرنسي إلى حاله السابقة، وقد أداها بنجاح باهر: فان البيانات والأوامر السرية التي أصدرها إليه تالران المشهور، وزير الخارجية الفرنسية يومئذ، أوجبت عليه أن يبحث في الجيش التركي الذي حارب الفرنسيين عن رجل مقدام ذي كفاية للحلول محل المماليك؛ فاهتدى ماتيو بفراسة ذات بصيرة إلى محمد علي (المغفور له محمد علي باشا الكبير)، وفاز بصداقته، ومساعده مساعدة فعالة في سبيل علوه؛ فلم يبث محمد علي أن أصبح سيد البلاد وجعل المصريين ينادون به والياً على مصر، ثم أباد المماليك - كما كان يحدث لو نفذ مشروع يعقوب.
ومشهور أن فرنسا أيدت المساعي التي نال بها محمد علي فرمان الولاية عام 1805؛ بعد ذلك فرمان بنقله والياً على سلانيك، لأن الحكومة البريطانية طلبت من الباب العالي أن يعيد السلطة إلى المماليك ضامنة له أمانة محمد بك الألفي - الذي كان الإنجليز يؤيدونه إذ وعدهم وعوداً تعرض مستقبل مصر للخطر، منها انه سوف ينزل لهم عن الثغور المصرية الكبيرة.
ثم نجحت مساعي فرنسا في استنبول ففاز محمد علي بفرمان أعاده إلى ولاية مصر من غير أن يبارحها. لكن الإنجليز لم يرقهم نجاحه الملائم لسياسة فرنسا ونفوذها، فأرسلوا حملة على مصر؛ وكانت الخطة لدفع هذه الحملة الخائنة عن الإسكندرية من وضع دروفتي قنصل فرنسا في هذا الثغر.
استتب حكم محمد علي وغزا الشام - بعد أن قهر الوهابيين بنحو خمسة عشر عاماً. وكان لويس فيليب، ملك فرنسا. وحكومته والرأي العام الفرنسي، شديدي الرغبة في أن ينفذ والي مصر ما عزم عليه وأن يوطد سلتطه في الشرق إلى أقصى حدود الإمكان؛ فلما خرج احمد باشا القبطان بالأسطول العثماني من الدردنيل في سنة 1839 ليسلمه إليه حقداً منه على عدوه الشخصي خسرو باشا، الصدر الأعظم، كان أمير البحر للند يسد بالأسطول الفرنسي منفذ المضيق إلى البحر المتوسط، فلم يبذل أي جهد ليمنع الأسطول العثماني من الخروج تنفيذا للرغبة الدولية الأوربية مع علمه بنية أحمد باشا، بل أعانه على خدع الإنجليز والتخلص إلى مصر. لكن إنجلترا خشيت عواقب النصر الذي حازه محمد علي الكبير فحالت دون غرضه من توحيد الشرق العربي تحت حكمه وإن أيدته فرنسا في المفاوضات الدولية الأوربية حتى كادت تحارب من أجله، بل حرصا على نفوذ سياستها. وقد كتب بالمرستون، وزير الخارجية البريطانية، في 4 من مارس عام 1840 إلى جيزو، رئيس الوزراء الفرنسية: (أما كانت فرنسا تسر لو رأت في مصر وسورية دولة جديدة مستقلة تؤسس فيهما وتكاد تكون من إنشائها فتصير بالضرورة حليفتها؟ لكم الوصايا على الجزائر، فماذا يبقى يومئذ بينكم وبين حليفتكم مصر؟ هاتان الدولتان المسكينتان تونس وطرابلس، وهما تكادان لا تكونان شيئا. وهكذا يصبح ساحل أفريقية كله وقسم منه ساحل آسية على البحر المتوسط، من مراكش إلى خليج الإسكندرية، في قبضة يدكم وتحت نفوذكم. وهذا محال أن يكون من سبيلنا)
ضمن ماتيو بجرأته فيما ابتدأ به عمله السياسي صداقة محمد علي العظيم، ووطد في مصر نفوذ فرنسا لمدة مديدة، ومهد من حيث لا يدري لابنه فردينان طريقا قصدا إلى الأذن له في إنشاء قناة السويس: فإن صداقة الوالي، بعد إذ وصل إلى الحكم بمواهبه الفطرية وبتأييد من ماتيو، كانت صداقة مضمونة بادئ بدء لفردينان. وقد أكد الوالي أمر ذلك التأييد من الأب وهذه الصداقة للابن تأكيدا علينا يوم كان في سورية بين قواده وحاشيته ورأى فيه فردينان أول مرة فقال له (إن والدك هو الذي جعلني ما أنا اليوم. فاذكر أنك تستطيع دائماً أن تعتمد علي). ومن صداقة الوالي نشأت صداقة ابنه سعيد باشا لفردينان، ولولاهما لكان من الممكن جدا أن يخفق في أمر الفتاة. وليس شك في أن أحوال البيئة التي ظهر فيها محمد علي، ومنطق التاريخ في زمانه وتصرفه بسياسة اثبت حكمتها علو شأنه، أمور تؤيد هذه الحقائق. وإذا قال التاريخ بوقوع إرشاد له وإسعاد فان هذا القول ليس يصغر من جلال عبقرية سمت بصاحبها إلى أوج سودده ومجده: إذ أنقذ مصر من الفوضى وأحياها، ومنحها ملكا واسعا وعرشاً زعزع العرش العثماني المجيد، ولم يثبت أمامه سوى إجماع الدول العظمى.
ولما وقعت المذابح بسورية، في 9 من يوليه عام 1860، رفع الأمير عبد القادر الجزائري العلم الفرنسي على داره بدمشق، وحمى الفرنسيين هو ومن معه من أبناء الجزائر، وأعاد النظام إلى المدينة فمنحه نابليون الثالث الوشاح الأكبر لجوقة الشرف، وعظم أمل الفرنسيين في الأمير حتى طلبت صحفهم إنشاء إمبراطورية شرقية تضم جميع سكان العرب في سورية ولبنان والعراق وشبه جزيرة العرب. وهذا المشروع الفرنسي لم يعقبه أي إجراء فيه. لكن الإنجليز وجسوا بسبب النفوذ الذي أصبح يومئذ للأمير الجزائري في سورية فراقبوا أعماله ومسالكه مراقبة دقيقة؛ وكان شأنهم مع أولاده أن شغل أولئك الإنجليز واجسهم منذ أصبح الأمير رمز المصلحة الفرنسية في الشرق حتى اجتهدوا، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، في الحط من سمعة أمراء الجزائر لإبعادهم عن سورية حيث كانوا عقبة أمام السياسة الإنجليزية.
وكان من الشروط في عقد الشركة التي حفرت قناة السويس أن تملك جميع الأراضي البور التي تحييها في جانب القناة. وكانت نية ده لسبس أن يروى خمسة عشر ألف فدان من الصحراء في جانبها الغربي بمياه ترعة من النيل، وأن يستميل بدو سينا إلى سكناها؛ وقصد أن يوجد الثقة في قلوبهم بدعوته الأمير عبد القادر الجزائري، عام 1867 إلى زيارة الأعمال الجارية يومئذ في القناة وبتمليكه خمسمائة فدان في بئر بلاح جنوبي نفيشه. وقد شرع الأمير بحث البدو على التجمع حول منشات الشركة عازماً على إسكان واحد من أبنائه بينهم ليعيش معهم، ساعياً بوجاهته لإصابة الغرض. فأوجس بالمرستون خيفة من هذا المشروع الذي يلائم مصلحة الشركة ويوائم السياسة الفرنسية في آن معا: إذ رأى فيه نواة دولية عربية تابعة لفرنسا قد تنشأ في برزخ السويس وقد تسد ذات يوم طريق الهند. فتفادت إنجلترا من هذا الخطر البعيد باستعانتها نخوة الخديو إسماعيل، الذي كان يشغله ما حاز الأمير عبد القادر من الشهرة المتناهية؛ فطلب الخديو من ده لسبس أن يعدل عن مشروعه. ولقد بحث الإنجليز يومئذ عن سبب يمكنهم من إيجاد طريق حربي يسلكونه إلى الهند رأسا إن أغلقت دونهم قناة السويس، وينافسها في كل وقت؛ فكان مشروعهم هو حفر قناة من حيفا إلى البحر الميت ومنه إلى العقبة.
ودام تنافس الفرنسيين والإنجليز مؤثراً في شؤون مصر، آخذاً في الضعف رويدا حتى انتهى بالاتفاق الودي عام 1904.
محمد توحيد السلحدار