مجلة الرسالة/العدد 648/الحرب الخاطفة في الحروب النبوية

مجلة الرسالة/العدد 648/الحرب الخاطفة في الحروب النبوية

مجلة الرسالة - العدد 648
الحرب الخاطفة في الحروب النبوية
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1945



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

يتردد في الحروب الحديثة أسم (الحرب الخاطفة). على أنها مما ابتكره قواد هذا العصر في أساليب الحرب. واخترعوه في نظام القتال، فهي منقبة من مناقبهم، ومفخرة لهم لم يسبقهم أحد إليها، وليس هذا من الحق في شيء، لأن نبينا الأعظم محمداً هو الذي ابتدع هذا النظام في القتال، وكان عنده سنة متبعة في حروبه، وتقليداً يأخذ به في الهجوم على أعدائه، لأن هذا النوع من الحرب لا يكون إلا في الحروب الهجومية، فهي التي يمكن أن يؤخذ فيها العدو على غرة، وأن يقتحم عليه داره قبل أن يستعد للقتال، فيستولي عليه الدهش، ويأخذه الرعب والخوف، ولا يكلف الجيش المهاجم عناء في القتال، ولا تضحية في الجنود، ولا يشتري النصر فيه بالثمن الفادح، ولا ينال بالدماء الغزيرة، فتشابك الفرح فيه بالحزن، ويعكر صفوه الثمن الفادح الذي اشترى به.

والحرب تتبعها حروب، فإذا لم يقتصد القائد في دماء جنوده وإذا لم يختر الأسلوب الذي يشتري فيه النصر بأقل ثمن، وإذا جازف بدماء جنوده ولم يحسب للمستقبل، لا يلبث أن يأتي عليه يوم تنهك فيه قواه، ويخسر ما ربحه من النصر في حروبه.

ولهذا كله آثر النبي هذا النوع من الحروب، حرصاً على أصحابه أن تستأصلهم تلك الحروب المتوالية، وكانوا بين أعدائهم كقطرة في بحر، وكان لهم أباً رحيماً، وصاحباً رؤوفاً (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُمْ حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) ولم يكن بالقائد الذي يرى أن يأمر فيطاع، وينظر إلى جنده نظرة الرئيس إلى المرؤوس، ولا نظرة الأب الرحيم إلى أبنائه، والصاحب الرؤوف إلى أصحابه.

ولا غرو أن يكون النبي مبتدع هذا النوع من الحرب، لأنه كان يجمع العظمة كلها في شخصه الكريم، فكان الرسول الأعظم بين الرسل عليهم الصلاة والسلام، والقائد الأعظم بين قادة الجيوش، والبطل الأعظم بين أبطال الحروب، والمصلح الأعظم بين رجال الإصلاح، والمشرع الأعظم بين رجال التشريع، بلغ الغاية في كل نواحي العظمة ولم يصل إلى درجته فيها عظيم من العظماء.

وهذه كانت سنته في حروبه كما ذكرها أصحاب السير، ذكروا أنه كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها، فيقول مثلا إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك

وكان يقول: الحرب خدعة.

وكان له عيون وأرصاد بين أعدائه يأتون بأخبارهم أولا بأول، فإذا بدرت منهم بادرة حرب كان خبرها عنده قبل أن يتهيئوا لها، وإذا بجيشه قد أتاهم من حيث لا يشعرون، وأحاط بهم من كل ناحية، وكان يستحب القتال أول النهار وهم لا يزالون في غفلتهم فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، فيأوي السكان إلى منازلهم، ويأخذهم أيضاً في هدوئهم وغفلتهم.

وتلك هي الحرب الخاطفة بعينها، وذلك هو أسلوبها الآن في الحروب الحديثة، وأسلوب المفاجأة، ومداهمة بلاد العدو وهو في غفلة، وإخفاء مقصد الجيش الهاجم حتى يصل إليه قبل أن يعلمه أحد، والتهويل في قوته حتى يملأ الرعب منه كل نفس، ويأخذ الخوف منه قلوب الأعداء.

ومن أظهر الحرب الخاطفة في الحروب النبوية حرب الفتح الأعظم، وهو فتح مكة موطن المسجد الحرام، فقد أراد النبي أن يأخذها بحرب خاطفة يباغتها فيها مباغتة، ويدركها قبل أن تحشد له الجيوش، وتجمع له حلفاءها من القبائل، فيستو لي عليها من غير أن يقيم فيها حرباً، أو يسفك فيه دماً من أصحابه أو من أهلها، لأنها بلد مقدس لا يحل فيها سفك الدم إلا بقدر الضرورة، وفيها الكعبة، والمسجد الحرام، والحرب إذا اشتدت قد تصيبها بتخريب أو ضرر.

فتجهز النبي للسفر، ولم يخبر أحداً بقصده إلا أبا بكر رضي الله عنه، ووضع حراساً على رؤوس الطرق الموصلة إلى مكة، ي سألون من يسافر فيها عن مقصده وغايته مبالغة في الاحتياط، وقد كان لأهل مكة جواسيس وأنصار في المدينة من المنافقين، فوضع الحراس على تلك الطرق حتى لا يمكن أحداً منهم أن ينقل خبر الاستعداد لهم، فلم يكن يؤذن بالسفر فيها إلا لمن يوثق فيه من المؤمنين المخلصين، ومن لا يرى أنه جاسوس إذا سافر فيها واصل السفر إلى مكة، وقد أقام النبي عمر عنه مراقباً على أولئك الحراس، يتعهدهم وقتا بعد وقت، حتى يقوموا بحراستهم على أكمل وجه، ولا يغفلوا عنها أو يتساهلوا فيها، وقد اختير عمر لذلك لما عرف عنه من شدة واليقظة، والإتيان بتلك الحراسة في غاية ما يكون من الدقة.

وقد قام الحراس بما عهد إليهم خير قيام، ولم يمكن أحداً من جواسيس قريش في المدينة أن يفلت منها إلى مكة، الهم إلا جاسوسة واحدة كانت جارية لحاطب بن أبي بلتعة؛ وكان من المؤمنين المخلصين، ولكنه كان له أهل ومال بمكة، فأراد أن يتقرب إلى أهلها ليحافظوا على ماله ووالده فكتب إليهم كتاباً يخبرهم فيه باستعداد النبي للغزو، وأنه ربما يقصدهم به وقد أوحي إلى النبي بأمر تلك الجاسوسة، فانتدب لها ثلاثة من كبار أصحابه اهتماماً بأمرها، ليدركوها قبل أن تصل إلى مكة، وهم: علي بن أبي طالب، الزبير بن العوام، والمقداد ابن الأسود، فانطلقوا مسرعين حتى أدركوها بروضة حاح، وقاموا بتفتيشها حتى عثروا على ذلك الكتاب في عفاصها، فرجعوا بها إلى المدينة، وقضوا على هذه المحاولة التي أفلتت من تلك الحراسة.

وتم تجهيز الجيش الذي أعده النبي صلى اله عليه وسلم لفتح مكة ولم يعلم أحد ماذا أعد له، وكان عدده عشرة آلاف، ثم سار به حتى وصل مر الظهران، فأمر بإيقاد عشرة آلاف نار، مبالغة في تهويل أمره، وإلقاء للرعب في قلب من يراه ليلاً، وكانت قريش قد بلغها أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدري وجهته، فأرسلت أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون خبر ذلك الجيش، فلما وصلوا مر الظهران ورأوا تلك النيران قال أبو سفيان: ما هذا؟ لكأنها نيران عرفة: فقال بديل بن ورقاء: هي نيران بني عمرو. فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقل من ذلك.

ثم رآهم نفر من حراس المسلمين فأتوابهم النبي صلى الله ليه وسلم فاسلم أبو سفيان، وقد أوقفه عند خطم الجبل، وجعل الجيش يمر عليه كتيبة بعد كتيبة، ليرى عظمته وقوته وحسن نظامه، وينظر من اجتمع فيه من القبائل التي لا تحصى ولا تعد، ويجهز أهل مكة بما رأى من ذلك، فيملأ الرعب قلوبهم ولا يجدوا فائدة في مقاومة ذلك الجيش، ثم قسم الجيش إلى قسمين، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كدى، ودخل هو آمن من أعلاها من كداء، ولم يشعر أهل مكة إلا وجيش المسلمين يحيط بهم من كل جانب، وأصوات الأمان تتجاوب من هنا وهناك: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ويسمع أهل مكة أصوات الأمان فتأخذ بهم إلى الاستسلام، ويدخلون دروهم فيغلقونها عليهم، ومن لا يدخل داره يدخل المسجد أو دار أبي سفيان، وتفتح مكة عاصمة الحجاز في لحظات، ولا يذهب في فتحها إلا ما لا يذكر من الدماء، وما كان أحد يظن بعد تلك الحروب الطويلة أن تفتح بهذه السهولة، ولكنها الحرب الخاطفة التي ابتدعها النبي .

عبد المتعال الصعيدي