مجلة الرسالة/العدد 648/تطور الاتجاه نحو وحدة عالمية

مجلة الرسالة/العدد 648/تطور الاتجاه نحو وحدة عالمية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1945



لصاحب المعالي محمد حافظ رمضان باشا

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

فلما نشبت الحرب العالمية الأولى واضطربت المواصلات بين الدول والشعوب شعر سكان العالم جميعاً بما أصابهم من الضيق والعوز في مأكلهم وملبسهم وسائر حاجياتهم وظهر لكل إنسان أن شعوب العالم مرتبطة وأنها تتبادل الحاجيات بحكم الترابط الاقتصادي الذي نشأ بسبب اختراع الآلات الصناعية وسهولة المواصلات، وفي هذا الوقت الذي كان فيه العالم يرسل كل ما عنده من الاحتياطي من الرجال والعتاد في أتون الحرب ثبت عند الرئيس ولسون تفكير جديد بضرورة التعاون بين الشعوب، فبعث في 8 يناير سنة 1918 برسالة إلى الكونجرس الأمريكي تتضمن شروط الصلح التي قضى فيها على كل فكرة في تقسيم الغنائم أو فرض الغرامات أو ضم المستعمرات أو غير ذلك مما كان معروفا قبل هذه الحرب، كما أشار إلى إلغاء الحواجز الجمركية وتقرير حرية التجارة وحرية البحار وحق الأمم في تقرير مصيرها ووضع نظام دولي في صورة عصبة الأمم لفض كل خلاف.

وإذا كان ناقدو الرئيس ولسون قالوا عنه إنه خيالي فإننا نعتقد أنه أول من جرؤ أن يعلن حقيقة التطور في العالم الذي أصبح وحدة اقتصادية عالمية والذي يجب أن يكون نظامه على أساس من التعاون المتبادل لا السيطرة والسيادة، وأن كل خطأ الرئيس ولسون إن كان هناك خطأ آت من أنه فهم حقيقة الواقع بينما كان غيره لا يزال معتصما بأهداف النظم القديمة والتي أصبحت لا تلائم تطور العالم في الوقت الحاضر.

وعلى أي حال فإذا كانت عصبة الأمم وهي وليدة الحرب الماضية قد قيدت بقيود جعلتها عديمة الجدوى فإنها كانت أشبه شئ ببذور ألقيت على أرض بكر لابد أن تثمر عاجلاً أو آجلاً. ففي عام 1919 انتهز بعض رجال العمل في أمريكا اتصالهم برجال الأعمال من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين وغيرهم واتفقوا على إنشاء غرفة تجارية دولية. كذلك أدخل في معاهدة فرساي في الباب الثالث عشر نظام إنشاء مكتب العمل الدولي.

ولا ريب أن هاتين المنشأتين وهما تبحثان عن العلاقات التجارية بين الدول وعن نظام العمل وقوانين العمال في جميع البلاد مع ما فيها من نقص وعيوب إنما هما على أ دليل قاطع على التطور الذي حدث بعد الحرب العالمية الأولى نحو الوحدة الاقتصادية العالمية.

غير أن هذا الاتجاه نحو الوحدة العالمية قد ظهر بوضوح أثناء الحرب العالمية الأخيرة وبعدها، فلقد شاهدنا والحرب الأخيرة ناشبة أظفارها أن المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والمستر تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يصدران ميثاق الأطلنطي في 14 أغسطس سنة 1941 ونقرأ في البند الرابع والخامس منه أنهما سيجتهدان في تمتع كافة الدول كبيرة كانت أو صغيرة غالبة أو مغلوبة في الحصول على التجارة والمواد الخام العالمية اللازمة لرخائها الاقتصادي، وأنهما يرغبان في تحقيق أتم التعاون بين كافة الأمم في الميادين الاقتصادية وذلك بغية ضمان الوصول إلى مستوى أفضل في العمل والتقدم الاقتصادي والأمن الاجتماعي وأنهما يأملان في وضع سلم يمكن جميع الشعوب من الحياة في مأمن داخل حدودها ويبعث الطمأنينة لكافة الناس في العالم أجمع حتى يعيشون عيشة راضية بعيدة عن الخوف والعوز، ومن الميثاق الأطلنطي هذا يمكننا أن نستنتج أمرين جديرين بالعناية أولهما: أن مهمة الحكومات قد تخطت واجباتها المعروفة من قبل إلى واجبات جديدة وهي العمل على أن يعيش الناس بغير خوف ولا عوز، ومن هنا ظهرت الحريات الأربع. وثانيهما أن ميثاق الأطلنطي الذي انظم إليه بعد ذلك الأمم المتحدة الأخرى دليل آخر على تطور الاتجاه نحو الوحدة الاقتصادية العالمية. وأن الواجب أن يوضع للعالم نظام يحقق التعاون بين كافة الأمم في الميادين الاقتصادية.

وإننا نشاهد كذلك غير هذا الميثاق مؤتمرات دولية تجتمع بين آن وآخر وكلها ترمي إلى التعاون العالمي بين جميع الشعوب في نواح مختلفة من الحياة العامة. كمؤتمر التغذية وكمؤتمر النقد وغيرهما وكلها تدل على اتجاه الفكر دائما نحو الوحدة العالمية ومن الدلائل على هذا التطور أو التوجيه نحو اعتبار العالم وحدة لا انفصام لها مشروع التعمير للأمم المتحدة والذي أنشأ إدارة من تلك الأمم ترمي إلى تنظيم أعمال المساعدة والتعمير التي تسدى إلى البلاد التي تخربت بسبب الحرب الأخيرة، ويحسن بي في هذا المقام أن أشير إلى ما صرح به المغفور له الرئيس روزفلت في 17 ديسمبر سنة 1940 أمام الصحفيين حيث قال ما معناه: افرضوا أن النار أشعلت في منزل جاري وأنني أملك طلمبة ماء يمكن استخدامها في إطفاء هذا الحريق فإن واجبي الأول أن أعطي تلك الطلمبة في الحال دون أن أساوم هذا الجار فيما يدفعه لي من ثمن أو أجرة لأن تلك المساومة ليست هي أساس واجبي وإنما واجبي أن أتعاون مع جاري في إطفاء هذا الحريق.

ضرب المغفور له الرئيس روزفلت هذا المثل عند وضع قانون الإعارة والتأجير، وإذا كان الغرض من هذا القانون هو الوصول إلى النصر النهائي فإن المثل الذي ضرب من أجله يدل على رابطة المصالح وعلى ضرورة التعاون حتى لا تمتد النار من جار إلى جار، فإذا صح هذا بالنسبة لأفراد الجيران المقيمين في قرية واحدة أفلا يكون الأجدر بالدول والممالك أن يوجد بينهم هذا التعاون وقد ارتبطت مصالحهم الاقتصادية وأصبح كل منهم لا يستطيع الاستغناء عن غيره بسبب الترابط الاقتصادي الذي جاء تبعاً للتخصص في كل منها.

هذا التطور الذي حدث في الإنسانية منذ أكثر من قرن من الزمان بسبب تقدم العلم واختراع الآلات.

إن قادة الشعوب والأمم يدركون اليوم حقيقة التطور الذي وصل إليه العالم في عصرنا الحاضر وأنهم يعملون لإيجاد أداة دولية تستخدم في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية. للشعوب جميعها وإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب وأن تعيش جميع الأمم في سلام وحسن جوار. ولقد ساعد على توجيه هذا التفكير ما قاساه العالم من الويلات في الحرب الأخيرة وما قد يقاسيه في المستقبل من الأهوال بسبب ما اكتشفه العلم من آلات التخريب والدمار كالقنبلة الذرية وما سيكتشف في المستقبل من أشعة الموت وغيرها.

وهاهو ذا آخر تصريح جديد للرئيس ترومان يذيعه على الملأ بالراديو في 27 أكتوبر سنة 1945 من واشنجتون ويبين فيه تفصيل القواعد التي تقوم عليها السياسة الخارجية للولايات المتحدة فيقول إننا لن نوافق على تغييرات أو تعديلات إقليمية في أي مكان في العالم تربطنا به علاقات ودية إلا إذا كانت هذه التغيرات مطابقة لرغبات الشعوب التي يهمها الأمر، وأننا نعتقد أن من حق جميع الشعوب المستعدة للحكم الذاتي أن يسمح لها بأن تختار بحرية نظام الحكم فيها وهذا ينطبق على أوربا وآسيا وأفريقيا مثل ما ينطبق على نصف الكرة الغربي، وأننا نؤمن بأن من حق الأمم كافة التمتع بحرية البحار وأن جميع الأمم متساوية في الاتجار والحصول على ما في العالم من مواد أولية، وإننا نعتقد أن التعاون الاقتصادي الكامل بين جميع الأمم كبيرها وصغيرها ضروري للنهوض بأوضاع المعيشة في أرجاء العالم كافة ولتحقيق التحرر من الخوف والعوز والفاقة، وإننا نعزز حرية القول والرأي وحرية العبادة في كافة البلاد، وإننا مقتنعون بأن صيانة السلم بين الأمم تستلزم وجود هيئة للأمم المتحدة لها أن تستخدم القوة عند الاقتضاء لتستخلص السلم، ولا ريب أن أقوال الرئيس ترومان هي توجيه لتاريخ الإنسانية كما لا ريب عندنا أن الأحداث العالمية تدلنا على اتجاه الفكر الإنساني نحو توطيد العلاقات الطيبة نحو الوحدة العالمية، كما نعتقد أنه لا يعوق هذا التفكير والتوجيه غير ما تأصل في النفوس وتركز في العقول من النظم البالية المؤسسة على الأنانية والمزاحمة بين أمم العالم قبل أن تقوى الروابط بينها وقبل أن يتم تطور هذا الترابط الاقتصادي الحاضر.

لهذا نرى الإنسانية اليوم في مفترق الطريق بين النظم القديمة والتطور الحديث في حياة الأمم.

وكذلك نرى بعض العيوب في ميثاق الأمم المتحدة الذي تم وضعه في سان فرنسيسكو بتاريخ 26 يونية سنة 1945 ومحكمة العدل الدولية. غير أن هذه العيوب لا تحجب عنا إدراك الخطوات الواسعة في توجيه الدول المتعاقدة نحو الوحدة العالمية وضرورة تأمين الشعوب وسلامتها.

ويجمل بي قبل أن أترك هذا المنبر أن أشير إلى أنني لم أقصد بتوجيه الفكر نحو الوحدة الاقتصادية العالمية الرغبة في إيجاد إمبراطورية عالمية لأن تاريخ العالم يشهد بفشل كل محاولة نحو هذا الاتجاه فلم تنجح محاولة الإسكندر ولا الدولة الرومانية في إنشاء تلك الإمبراطورية العالمية فلكل شعب ثقافته ولغته وتاريخه، وإنما قصدنا بالترابط الاقتصادي أن نضع حدا بين السياسة والإقتصاد، فلكل شعب أي يختار شكل حكومته ولكنه يكون عضوا في النظام الدولي الذي يوضع على أساس أن العالم من تلك الناحية وحدة اقتصادية اجتماعية يجب أن توضع لها أداة تفض مشاكلها دون الالتجاء إلى القسر والقهر حتى يتم لسكان الأرض جميعاً السعادة والرفاهية في ظل التعاون بين الشعوب اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. كما يجب أن نوجه جهودنا الفردية والجماعية ومشروعاتها نحو غاية واحدة هي الحياة القومية - فلا نقصر هذا المجهود على نيل الحرية الخارجية بل نرمي إلى تحرير أفراد الأمة من القيود الداخلية وتوفير أكبر قسط من السعادة لها وإكمال حياة الأفراد في حدود العدل والنظام وأن يرتفع الناس بنفوسهم ويتغلبوا على شهواتهم لتزدهر الحضارة بسمو غاياتها والسلام.

محمد حافظ رمضان