مجلة الرسالة/العدد 648/رأى جديدة في

مجلة الرسالة/العدد 648/رأى جديدة في

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1945



حمادة الراوية

للأستاذ السيد يعقوب بكر

4 - رواية حماد

(أ) اشتهاره بكثرة الحفظ والرواية

اشتهر حماد بكثرة حفظه وروايته. حتى لقد سمى حمادا الراوية. ونحن لا نظن انه سُمَّى هكذا تمييزاً له من معاصريه: حماد عجرد وحماد بن االزبرقان، فقد كان يمكن أن يُسمَّى حماد ابن ميسرة. وفي الأغاني (ج5 ص 165) أن الهيثم بن عدى قال: ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد. وجاء في خزانة الأدب (ج4 ص 129) وفي غيرها من كتب الطبقات أنه كان من أعلم الناس بكلام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها.

وترد كثرة حفظه أخبار كثيرة. ففي الأغاني (مرة في ص 164 - 165، ومرة أخرى في ص174)، وفي معجم الأدباء (ج4 ص 137)، وفي وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس)، وفي خزانة الأدب (ص 129)، وفي تحفة المجالس ونزهة الجالس للسيوطي (ص)، أن الوليد بن يزيد قال لحماد: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك حماد الراوية؟ قال: لأني أروى لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين أو سمع به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا أنشد شعراً لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. قال: إن هذا العلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية. قال سأمتحنك. وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استخلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه؛ فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر بمائة ألف درهم.

وفي الأغاني (ص 164) أن مروان بن أبي حفصة الشاعر قال: دخلت أنا وطُريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده كلما انشد شاعراً وقف الوليد ابن يزيد على بيت من شعره وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر؛ فقلت: من هذا؟ فقالوا حماد الراوية.

ويقول أبو الفرج (ص 173): (قال حماد الراوية: أرسل إلى أمير الكوفة فقال لي: قد أتانا كتاب أمير المؤمنين الوليد ابن يزيد يأمرني بحملك. فحملت، فقدمت عليه وهو في الصيد، فلما رجع أذن لي، فدخلت عليه وهو في بيت منجد بالأرمني أرضه وحيطانه. فقال لي: أنت حماد الراوية؟ فقلت له: إن الناس ليقولون ذلك. قال. فما بلغ من روايتك؟ قلت: أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها: بانت سعاد. فقال: إنها لرواية). وواضح أن هذه القصة وقعت قبل تلك القصة التي كانت لحماد مع الوليد أيضاً، والتي تقدم ذكرها. قد قدمنا تلك القصة على هذه لاشتهارها وورودها في معظم كتب الطبقات فقد كان حماد إذن مشهوراً بكثرة الحفظ والرواية. وهي شهرة هو جدير بها وحقيق. فليس عهدنا بالمعاصرين أن يتزيدوا على المرء بالفضل والسبق، وإنما عهدنا بهم أن يحطوا من قدره ويهونوا من أمره.

(ب) جمعه المعلقات السبع ورواية معظم شعر امرئ القيس

في نزهة الألباء للأنباري (ص 43) وفي معجم الأدباء (ص140)، وفي وفيات الأعيان (ص240) أن أبا جعفر أحمد ابن محمد النحاس ذكر أن السبع الطوال من جمع حماد الراوية؛ وفي نزهة الأباء ومعجم الأدباء وحدهما أنه لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة.

أما أن العرب الجاهليين لم يختاروا المعلقات ولم يفضلوها على غيرها من الشعر، فهذا ما لا نستطيع الأخذ به. ذلك لأننا لا نرى مانعاً من ذلك. فالعرب الجاهليون قوم شغلوا بالشعر، فقالوه، ورووه، وأقاموا الأسواق لإنشاده ونقده. وقوم هذا شغلهم بالشعر لا يصعب عليهم تفضيل بعضه على بعضه واختيار بعضه دون سائره.

فالمعلقات إذن قد تكون من اختيار العرب القدماء. وهو ما لا يراه ابن النحاس النحوي المصري. ويؤيدنا في رأينا هذا ما يقوله ابن النحاس نفسه من أن حماد الراوية. لما رأى قلة من يعنون بالشعر، جمع هذه القصائد السبعة. وحث الناس على درسها، وقال لهم: هذه هي المشهورات. ولفظ المشهورات هنا هو بيت القصيد. فهو يدل على أن القصائد السبع كانت، قبل أن يجمعها حماد، مفضلة على غيرها، وهو فضل يرجع في أغلب الظن إلى اختيار العرب الجاهليين إياها.

وأما أن العرب الجاهليين لم يعلقوا القصائد السبع على الكعبة، فهو ما نوافق ابن النحاس عليه. فقد بيننا في الفصل السابق من هذا البحث كيف أن الكتابة العربية قبل الإسلام لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار. ونقول هنا (مستندين إلى ما يقوله المرحوم الأستاذ طه أحمد إبراهيم في كتابه تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 23) إن ابن عبد ربه، وهو أندلسي من رجال أوائل القرن الرابع الهجري، أول من ذكر تلك القصة، قصة تعليق القصائد السبع على الكعبة؛ وإن إغفال المشارقة قبله هذه القصة كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ والمبرد، وكتبهم من أمهات كتب الأدب، تجريح لها وإغراء برفضها.

فخلاصة رأينا هي أن المعلقات السبع من اختيار العرب القدماء في أغلب الظن، وأن حماداً هو الذي جمعها بعضها إلى بعض وجعل منها جملة معروفة، وأن تسميتها بالمعلقات لا تعني أنها علقت على الكعبة أو في داخل الكعبة.

فإذا سئلنا عن معنى كلمة المعلقات، أجبنا أنها تدل على الجودة والنفاسة، وأنها هنا على المجاز لا على الحقيقة. ومثلها في هذا كلمة السموط التي تطلق أيضاً على السبع الطوال. وهذا الإطلاق المجازي في غير حاجة إلى الشرح. وقد تكون كلمتا المعلقات والسموط من إطلاق العرب القدماء كما قد تكونان من إطلاق حماد، كما يرى نولدكه في كتابه ? (ص22). ويرى هيار (ص9) وتشارلز ليال في كتابه: (المقدمة، ص45) أن كلمة المعلقات من إطلاق حماد. ثم إن للسبع الطوال اسماً آخر هو المذهبات، قد يكون من إطلاق القدماء، وقد يكون من إطلاق حماد. وواضح أن القصة لتي يذكرها ابن عبد ربه من أن العرب كتبوا السبع الطوال بماء الذهب في نسيج من صنع أقباط مصر وعلقوها بأستار الكعبة، واضح أن هذه القصة إنما نشأت من تسمية هذه السبع الطوال بالمعلقات أو المذهبات، ثم أخذ هذه التسمية على وجهها الحقيقي لا المجازي.

والآن، وقد بسطنا رأينا في المعلقات: اختيارها، وجمعها، وتسميتها، نعود فنناقش مقالة بعض المستشرقين في اختيارها، ونبين ما تنطوي عليه من زيف وخطأ.

يقول نولدكه في بحث له عن المعلقات (الموسوعة البريطانية، المجلد 15): (لم يكن من المتيسر للعرب القدماء إطلاقا أن يختاروا هذه القصائد السبع. وأكبر الظن أننا مدينون بهذا الاختيار لأحد العلماء المتأخرين. . . وقد كان حماد (الذي امتدت حياته في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن الثامن الميلادي) المتفرد في عصره بحفظ أغلب الشعر العربي. وكان عمله رواية الشعر. فاختيار الشعر مما يصح من رواية مثله من كل الوجوه. ثم إن هناك حقيقة أخرى يبدو أنها تؤيد جمع حماد المعلقات. فقد كان فارسي الأصل، ولكنه كان مولى لقبيلة بكر بن وائل العربية ونحن نظن أن هذا حدا بحماد إلى ألا يقتصر على ضم قصيدة لطرفة الشاعر المشهور، فضم قصيدة بكرى آخر، هو الحارث، الذي كان زعيما شهيرا، وإن لم يكن شاعرا مبرزا؛ وإنما ضم قصيدته لأنها تصلح لمعارضة قصيدة أخرى في المجموعة هي تلك الأبيات المشهورة التي قالها معاصره عمرو، زعيم قبيلة تغلب، منافسة أختها بكر. . .)

(يتبع)

السيد يعقوب بكر