مجلة الرسالة/العدد 649/في الأدب الإنكليزي
مجلة الرسالة/العدد 649/في الأدب الإنكليزي
ماثيو
بقلم الأستاذ خيري حماد
مقدمة:
لقد كان القرن التاسع عشر بثوراته المختلفة ونهضاته العديدة باعثاً عدداً من الرجال الذين اشتهروا في شتى مناحي الحياة من سياسة واقتصاد، وفلسفة وتشريع، وأدب وحرب. ولكل دولة من الدول الأوربية عدد من الرجال الذين تفاخر بهم غيرها من سائر أمم الأرض. فظهر في بريطانيا في هذا القرن طائفة من عظام الرجال فاقوا أقرانهم في مختلف الميادين وأخص بالذكر منه ميدان الأدب.
بزغ نجم كثير من الشعراء والروائيين والنقاد والفلاسفة الذين رفعوا أسم انكلترة عالياً في ميدان العلم والأدب فرأينا بيرون وشلي وكيتس وتنسون وبراوننج يسعون في رفع شأن الشعر وإعلاء شأوه. وشاهدنا أوستن واليوت وريشاردسون وستيفنسن وسكوت وهاردي ينهضون بالقصة نهضة لا مثيل لها في تاريخ الأدب الإنكليزي. وطالعنا المقالات النقدية العديدة التي كان يكتبها عدد من مشاهير النقاد أمثال هازلت وجفريز وكارليل وأرنولد. وأما الفلسفة فقد تناولها من كبار المفكرين الإنكليز أمثال كارليل ودارون وارنولد.
لم تكن قريحة ارنولد مقتصرة على الشعر بل تعدتها إلى المقالات والفلسفة والتربية والنقد. ولا غرو أن يحسبه الكثيرون خير ممثل في انكلترة في القرن التاسع عشر.
ولقد ظهرت هناك منذ وفاته كثير من الكتب التي درسته درساً مسهباً. أضف إلى ذلك المقالات الجمة التي تناولت كل ناحية من نواحيه المختلفة فبدأت شهرته بالازدياد وتفوقه يظهر على سائر أقرانه منذ أن ووري في التراب فأصبح الآن معروفاً لدى جميع الأدباء والكتاب من سائر أمم الأرض المتحضرة.
حياته
ولد ماثيو ارنولد في مدينة ليلهام من ولاية مدلسكس في اليوم الخامس والعشرين شهر ديسمبر سنة 1822، وكان والده الدكتور توماس ارنولد الذي اشتهر برآسته لمدة طويلة مدرسة ركبي وكان ماثيوا ارنولد البكر من تسعة أطفال أحبهم والدهم الحب الجم لاشتغاله في عالم التربية والتعليم مدة ليست بالقصيرة. وأما والدته ماري بنزور فقد عاشت ثلاثين سنة بعد وفاة زوجها. وكانت على جانب عظيم من الثقافة والعلم مما قربها إلى ولدها النابغة فظل على ولائه لها وحبه إياها طوال حياته الكثيرة المشاغل.
وفي سنة 1826 انتقلت العائلة إلى (ركبي) وظل ارنولد في ليلهام يتتلمذ على خاله القس المحترم جون بكلند ولم يكن الدكتور ارنولد ميالا إلى الضواحي التي تحيط بمدينة ركبي، ولذلك ابتاع منزلا في تكس هاو حيث كان يقضي أيام الآحاد والراحة بين زوجته وأولاده. وكان لقربهم من المدينة التي عاش فيها وليم ورد رورث أثر عظيم في حياة الطفل ماثيو.
وفي سنة 1836 أرسل ماثيو إلى مدينة ونيشستر حيث درس عل الدكتور موبرلي ولكن لم تنقض سنة واحدة على سكناه هذه المدينة حتى أرسل والده في طلبه وأدخله مدرسة ركبي حتى يكون تحت رعايته وإشرافه. وقد بقي في هذه المدرسة حتى أتم دروسه فيها؛ فأرسله والده إلى أكسفورد سنة 1846 ليتم تحصيل علومه العالية هناك.
وتوفي الدكتور ارنولد سنة 1842 بينما كان ولده الشاب يقضي أيام شبابه في جامعة أكسفورد بين أصدقائه وخلانه كلكوردج وشارب. وكان لهه ميل شديد نحو الطبيعة وجمالها فيقضي بين خمائلها الساعات الطوال حالما في أشياء كثيرة لا حد لها. وقد نال بين زملائه وأساتذته سمعة حسنة وذكراً طيباً وحسبه الجميع نابغة الجامعة وعلمها الفذ.
وفي سنة 1843 نال جائزة شعرية بقصيدة نظمها يتحدث فيها عن كرمويل، ولم تكن هذه القصيدة خير قصائده في هذا العصر بل ظهرت له أشعار أخرى كانت أكثر بلاغة وأوسع خيالا؛ ولو قارناها مع قصيدته (الريك في لغدت من سقط المتاع. وقد نظم هاتين القصيدتين على وزن واحد هو ما يسمونه في الإنكليزية الذي اشتهر أمره في العصر الكلاسيكي فنظم فيه (بوب وتلامذته من بعده، وفي كلتا هاتين القصيدتين نرى سلاسة وعذوبة يندر أن توجدا في شعر شاب لم يتجاوز العشرين من عمره.
ونعرف من مصادر عدة أن ارنولد كان عضوا في جمعية جدال ونقاش تدعى (جمعية ولم يكن في صفه من المبرزين على أقرانه بل عد من الطبقة المتوسطة من الطلبة. ولكنه ما كاد ينال شهادته حتى منحته الجامعة حق المجاورة في كلية اورل سنة 1845 التي كانت تعد من أعظم الجوائز التي تقدمها الجامعة إلى النابهين من طلبتها.
وبعد أن انتهى من دراسته في جامعة أكسفورد نراه ينتقل إلى مدرسة ركبي ليدرس فيها العلوم والآداب القديمة من إغريقية ولاتينية، ليصبح سكرتيرا للمركيز لانسدون الذي كان من أكبر رجال السياسة في عصره وله الفضل كله في إصلاح ذات البين بين صفوف حزب الأحرار. وفي تموز سنة 1849 ظهرت أولى أناشيد في مجلة (الاكزامنر حيث انتشرت انتشاراً عظيما. وقد أهدى هذه القصيدة الرائعة إلى الشعب المجري. ولم تمض سنة واحدة بعد ظهور هذه الأغنية حتى أخرج ديواناً شعرياً لم ينل من النجاح القسط الذي كان يتوخاه مؤلفه.
وفي الرابع عشر من شهر نيسان سنة 1851 نصب ارنولد كمفتش لمدارس المعارف، وكان هذا التعيين نتيجة للمساعي التي بذلها صديقة المركيز. ولم يكن ثمة رجل يستطيع أن يقوم بأعباء هذا المنصب كما قام به شاعرنا ازنولد فقد كان بغريزته ميالا إلى الأطفال، فهو لذلك جد قادر على التعامل معهم، ناهيك عن اطلاعه الواسع على قوانين علم التربية وأصوله. مما جعله يفكر في القيام بمشاريع عدة لترقية علم التربية في المدارس التي كان يقوم بالإشراف عليها. وسنتناول الإصلاحات العديدة التي قام بها في عالم التربية والتعليم عندما نبحث نظرياته فيهما.
وقد تزوج من فرانسيس وايثمان سنة 1851 بنت أحد القضاة الشهيرين في عالم القضاء. وكانت حياته الزوجية مثلا أعلى للحياة السعيدة الدائمة. فقد ظل وزوجه ترفرف عليهما أعلام السعادة والهناء حتى آخر أيامهما. وفي سنة 1857 انتخب أستاذاً للشعر في جامعة أكسفورد. وكان ينافسه في نيل هذا المنصب القس المحترم جون أرنست بود مؤلف كتاب: (مقطعات هيرودتس) وفي الحق أن نيله لهذا المنصب كان أعجوبة في حد ذاتها إذ أن جميع من تبوءوه من قبل كانوا من رجال الدين وحماة اللاهوت يلقون محاضراتهم باللغة اللاتينية.
ولم تكن الرواتب التي تدفعها الجامعة للأستاذ ذات قيمة كبيرة فما ازداد راتبه في السنة عن المائة جنيه، ولكن مشاغله في الجامعة لم تكن بنفس الوقت على جانب عظيم من الكثرة. فكان يلقي محاضراته في اللغة الإنجليزية بأسلوب كلاسيكي جذاب، وقد انحصر موضوعه في عوامل الأدب الحديث إذ جعل للأدب اليوناني في عصر بركليس صلة وثيقة بالأدب الإنجليزي في عصره وقد طبعت أولى محاضراته في سنة 1869.
ونراه في بدء سنة 1858 يبتاع منزلاً صغيراً في ساحة ستشتر حيث يسكن للمرة الأولى في منزل ثابت. ولكن الظروف لم تكن لتتيح له أن يهدأ ويستقر فكانت وظيفته كمفتش للمعارف تقتضي كثرة الترحال والسياحة، ومن أسفاره العديدة سفرته إلى برنجهام حيث سمع (جون برايت) يلقي إحدى محاضراته فكتب ارنولد إلى صديق من أصدقائه (إن برايت محاضر من الطبقة الأولى يمتاز بارتفاع صوته ورباطه جأشه ولكن السهولة لم تكن من صفاته المميزة. فهو لا يتوقف ولا يتلعثم، بل لا يندفع الاندفاع الذي أرغبه في الخطباء أمثاله. ومع ذلك كله فهو أخطب بكثير من غلادستون)
هجر أرنولد الشعر وأخذ يهتم بالنثر والكتابة فظهر أول مؤلفاته في شكل رسالة سياسية طبعها سنة 1859 وأسماها (انكلترة والمشكلة الإيطالية) وفي السنة نفسها انتدبته الحكومة لدراسة أنظمة التعليم في الممالك الأوربية حيث زار فرنسا وبلجيكا، وهولندا وسويسرا وبدمنت. وقد أعجب بفرنسا الإعجاب كله. وكانت مدينة باريس أحب إلى فؤاده من جميع المدن التي زارها حيث شعر بالراحة والدعة. وهناك اجتمع بلورد كوبي مدة لا تقل عن ثلاثة أرباع السنة بحث أثناءها كثيراً من الأمور ختمها بقوله: (لقد شاركني الورد في الاعتقاد بأن الفرنسيين يتفوقون على جيرانهم الألمان في كل أمر يتنافسون فيه).
ولما رجع إلى انكلترة انظم إلى زمرة متطوعي الملكة. ولكنه لم يكن قط ميالا إلى استخدام البريطانيين في الجيش والجندية. وكانت نظريته في الجندية غريبة كل الغرابة لا تنطبق على الحقيقة، إذ أنه كان لا يعتقد بوجوب المساواة في الجيش، فالطبقة الوسطى يجب أن تمنع من الاختلاط بسائر الطبقات الأخرى.
ونراه في سنة 1864 يجتمع بمستر دزرائيلي السياسي البريطاني المشهور في قصر البارون دي روتشيلد. وكان هذا الداهية البريطاني يميل كل الميل إلى الأدباء ويحترمهم احتراماً كلياً. ولذا عامل ارنولد بلطف زائد وخاطبه بقوله: (إن لك مستقبلاً باهراً تناله بجدارة واستحقاق).
وفي سنة 1867 استقال ارنولد من منصبه في جامعة أكسفورد حيث خلفه السير فرانسيس دويل الشاعر الإنكليزي المعروف. وكان ارنولد مشغوفاً جداً بهذا المنصب الذي تخلى عنه، ولذا نراه شديد الأسف لاضطراره للاستقالة من عمل أحبه كل الحب.
وفي سنة 1865 انتدبته الحكومة مرة أخرى للتفتيش على المدارس الأوربية المختلفة. وكان يقابل هذه المهام بفرح وسرور زائدين مما جعل زملاءه يختارونه لكتابة التقارير عن رحلاتهم وعما يشاهدونه في المدارس المختلفة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا. وكان لعدم إلمامه بفن الرسم والبناء أثر في تقاريره فنراه غير معجب بإيطاليا كما كان ينتظر منه. وفي مدينة فلورنسة ينتقد الإيطاليين لتقليدهم الفرنسيين تقليداً أعمى
وفي أكتوبر سنة 1865 نراه في مدينة زوريخ حيث سمع لأول مرة بوفاة لورد بلمرستون فكتب رسالة إلى والدته يطلعها على أفكاره السياسية وعلى تحيزه الشديد لحزب الأحرار، فيقول في رسالته هذه إن اللورد بلمرستون لا يصلح مطلقاً لقيادة الأمة التي تسلم قيادتها كبت أو لبول أوربيل، فوفاته لا تحسب خسارة وطنية كبرى للأمة والشعب.
وفي نفس السنة نراه يتقدم لطلب وظيفة (مندوب الإعانات) ولم يكن في بريطانيا كلها من هو أجدر منه بهذا المنصب، ولكن العادة جرت أن تسند هذه المهمة إلى أحد رجال القانون. وكان الرجل المكلف له بانتخاب أحد المتقدمين لهذا المنصب صديق من أصدقاء ارنولد ومحبيه؛ ولكن تدخل غلادستون في الأمر حرمه هذه الوظيفة لمخالفته إياه في آرائه السياسية. وقد لازمه سوء حظه في السنة التالية حين تقدم لوظيفة خازن المكتبة في مجلس العموم البريطاني يؤازره نفر غير قليل من كبار الساسة كدزرائيلي وغيره. ولكنه فشل للمرة الثانية لمعارضة دينسون رئيس المجلس ومقاومته.
وفي سنة 1883 نراه يغادر إنكلترا إلى أمريكا ليلقي بضع محاضرات طلب الأمريكيون إليه إلقاءها. وكانت شهرته في هذه السنوات قد ازدادت وعمّت العالم الأوربي كله. وقد أم الناس على اختلاف طبقاتهم هذه المحاضرات فجمع قدراً غير يسير من المال ساعده على ترفيه نفسه والاعتناء بحياته بشكل جدي. وحين كان في أمريكا ذهب الرئيس برانت رئيس الجمهورية الأمريكية للاستماع إلى إحدى محاضراته حيث لم يع شيئاً مما قاله الخطيب. وكان ارنولد في الحقيقة خفيف الصوت تعوزه المقدرة الخطابية ولذلك ذهب إلى جامعة بوستن ليدرس هناك فن الخطابة فلم يلق نجاحا يذكر.
وفي خريف سنة 1885 انتدبته الحكومة مرة ثالثة لدراسة أنظمة التعليم الابتدائي في ألمانيا وفرنسا وسويسرا. وكان الغرض الأساسي من رحلته هذه الإطلاع على المصروفات التي يدفعها الآباء عن أبنائهم، وعن مقدار المساعدة التي تقدمها البلديات للحكومة للقيام بهذا الأمر الحيوي. فكتب تقريراً ضافياً بلغة أضعف من اللغة التي كتب بها تقاريره السابقة.
وفي هذه السنة نفسها استقال من منصبه الحكومي طلباً للراحة. فكافأته الحكومة البريطانية جزاء ألقابه الكثيرة براتب سنوي كبير. وكان في هذا الحين قوي البنية سليم التركيب مما جعله يكثر من الكتابة في المواضيع السياسية التي تشغل أهل عصره. وفي سنة 1888 نراه يرحل رحلته الأخيرة إلى ليفربول للقاء ابنته العائدة من أمريكا حيث قضى نحبه بينما كان يعدو للحاق إحدى عربات الترام.
وقد أسف الناس لفقده أسفاً شديداً نظراً لهذه الخاتمة المحزنة التي لم يكن يتوقعها الناس لقوة بنيته وسلامة تركيبه.
فنه:
إن من الصعب علينا أن نتناول في هذه المقالة فن هذا الكاتب العبقري دون أن نلم بالنواحي العديدة التي نبه اسمه فيها، فقد كان حقاً رجلاً جامعاً لجميع فنون الأدب ونواحيه. وللبحث فيه بحثاً مسهباً علينا أن نرسم شخصياته المتعددة ونحللها على ضوء النقد والأدب فنراه كناقد بارع، وكشاعر رقيق، وكناثر سلس، وكسياسي حاذق، وكفيلسوف ديني شديد الغموض. ولنبدأ في بحثه كناقد أدبي فنرى أثره العظيم في عالم النقد.
نقده:
كان نقده شديد الغموض والأشكال، وكانت مقالاته في النقد التي ظهرت سنة 1865 العامل الأول في ظهور أمره كناقد أدبي وكأديب لم يرتفع اسمه في عالمي الشعر والنثر كما ارتفع في عالمه الثالث. وفي هذا الكتاب نراه يبحث أبحاثاً طريفة أحبها جميع قرائه، فطالعوها بشغف وإمعان. ومن المسائل الكثيرة التي بحثها في كتابه هذا مشكلة المجمع العلمي وهل من الفائدة في شئ أن تشاد مثل هذه المؤسسة في إنكلترا كما شيدت في فرنسا من قبل. لم يبين وجهة نظره في المسألة بل أخذ النقيضين ودافع عن كل منهما دفاعاً شديداً أخطأه الناس فحسبوه يبحث فيهما بحثاً جدياً خالياً من الفكاهة والدعابة، وبدأوا ينظرون إليها نظرة الفاحص الخبير ليروا ما يمكن الحصول بواسطتها على نتائج باهرة وفوائد مجدية.
(يتبع)
خيري حماد