مجلة الرسالة/العدد 65/خيال الشاعر بين الطبع والصنعة

مجلة الرسالة/العدد 65/خيال الشاعر بين الطبع والصنعة

مجلة الرسالة - العدد 65
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1934



للأستاذ عبد العزيز البشري

لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ اكثر ما يتكئ في فنه على الخيال. أما العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية. نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته. ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الإفهام. ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.

وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ اكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما غلا، ومهما حلق وارتفع، ومهما استحدث واخترع، ومهما لون من الألوان وشكل من الأشكال - فانه مستمد في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة. مبتدئ لابد بها، منته لا مفر في الغاية أيليها. فمن الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعارة في كل ما سَّوى وفي كل ما صوَّر وشكًّل ولوَّن.

وذلك بان الإنسان مهما رزق من شدة العقل وأوتي من قوة الخيال، لا يستطيع أن يتصور شيئاً لم يقع عليه حسه. وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، والى إدراك الحيوان. فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويشهده في مضطربة لا اكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة حاستي السمع والبصر. بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كفَّ من أول مولده في محبس لما قدَّر أن دنياه شي غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه.

لك الحق بعد هذا الكلام أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقع الذي يدركه الحس. فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟

لقد توجه، بادئ الرأي، هذا السؤال، على انك لو فكرت وتدبرت لبان لك الفرق بينهما د جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أو باستظهارها، أو باستكشافها، أو نحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها. أما الخيال فانه يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.

فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما غلا فيها صاحبها واطرف، ومهماابعد بها عما طالعة الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة. ولست أصيب مثلاً لتوضيح هذا الكلام احسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي (المستحيل الوقوعي) بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من الزئبق. فذلك وان كان غير واقع بالفعل، إلا أنه مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود. والبحر كائن والزئبق كائن. وكل سعى الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم، فيكون جبل الذهب، ويكون بحر الزئبق.

كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة، مُعطٍّ، أما العالم، في الجملة، فاخذ: الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق، والتلفيقبينهما، وإفراغها في غير صورها، وتلوينها بغير ألوانها. أما العالم فابلغ جهده في تلقي الحقائق. فإذا كان فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جلى عليه من مكنون الأسرار.

ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه اكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب اكثر النقدة إلى انه ليس شعراً ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة، وان كان مقفى موزوناً. ولقد عرفت اثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها، وطبعها على غير صورها الواقعة. لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابة الحكيم شعراً، ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعراً: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ). (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، إن هُوَ إلا ذِكرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ) يرد جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار من أن القران شعر، على معنى انه من تلفيق الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم بأنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ).

(يخَيَّلُ إليْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعَى). إنما الكتاب كله حق وصدق ومنطق صحيح (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ). (إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ). وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المُعلِمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.

ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق. إنما الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صوراً طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، او تكمل لك وتبسط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، وعلى أي شكل من أشكاله.

ولا شك في أن أبدع هذه الصور وأروعها، وأذكاها للحس، وأجملها موقعاً من النفس، هي أدقها حبكاً، واحكمها سبكاً، حتى إذا طالعتها التبست عليك بالحقيقة، أو إنها لتكاد. وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.

وفي هذا المقام يجمل أن نوضح معنى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح. قال المتقدمون: إن أعذب الشعر أكذبه. وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مجرد تقرير الحقائق الثابتة. ولكننا إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع لرأينا كذلك أن أعذب الشعر اصدقه: ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر. فأعذب الشعر في الواقع هو الذي ينفض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه للأشياء.

ولا يذهب عنك أننا نحن سواد الناس تعرض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا. وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهر الصور، أما الشاعر، أعنى به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء، تسلكها دقة حسه، وهنا يتقدم خياله السري فيسوي منها صورة جميلة بارعة. فإذا واتته قدرة النظم، فاداها كما أدركها، وجلاها كما تمثلت له، خرجت على حظ من الإحسان والإجمال يوائم حظه من قوة الخيال، ودقة الذوق، وحسن الأداء.

والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يروعك، ويصقل حسك، وقد يغمز كبدك، لان الشاعر قد رفعك به إلى نفسه، فأشهدك ما لم تكن تشهد، وكشف لك من دقائق الأشياء عما لم تكن ترى، وبعث عاطفتك فحلقت في عالم الروح كل محلق، وترقرقت في سرحات الجمال كل مترقرق.

وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وان كانت خيالاً في خيال، إلا أنها لقوة موقعها، ودقة صنعها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك بالحقائق الثابتة. وكيف لا يكون لها في نفسك هذا الأثر، وهي نفسها قد تمثلت لأدراك الشاعر واضحة سوية، في غير تعسر ولا تعمل، فنفضها في الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتمثلت لحسه.

أرجو أن يكون قد صح عندك الآن إن أعذب الشعر، من هذه الناحية، اصدقه لا أكذبه.

الصناعة الشعرية

ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال. فانه إذا كانت الصناعات البديعية، لفظية وغير لفظية، قد ساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فان الصنعة الخيالية لقد كانت في الإساءة اشد وابلغ. وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض الشعر، على العموم، لا يشعر شيئاً ولا ينفذ حسه إلى شيء. فيبعث خيالة من مجثمه، ويستكرهه استكراها على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشى متعثراً هاهنا وهاهنا في الارتصاد لما عسى أن يسنح له من المعاني واقعة حيث وقعت. حتى إذا لاح له شبحها شكها ولو لم يتبين شخصها. ثم جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويضيف إليها ما ظنه من جنسها، أو ما حسبه مما يلابسها. ويطبع من هذه الامشاج صورة شعرية (والسلام)، صورة لا الشاعر أحسها من أول الأمر أو تذوقها، ولا من يقرؤه شعر بالألف لها، أو ذكا حسه بها.

وهذا الخيال المصنوع المتعمل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على ارفق تعبير. بل انه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات. بل انه كثيراً ما تخرج الصورة الشعرية ملتوية شائهة، تخفي معارف وجهها على ناظمها فكيف بقارئيه؟ وعلى عيني أن أقول إن شيئاً من هذا يقع في بعض ما نقرؤه من شعر هذه الأيام!.

ودعنا من الحديث الآن حتى نفرغ من شان القديم. وخبرني بعيشك أي شيء هذا الذي ساقه علماء البلاغة شاهداً على حسن التعليل!.

لو لم تكن نيةُ الجوزاء خِدمتَه ... لما رأيتَ عليها عِقد منتطق

وقول الآخر في هذا الباب أيضا. ً

لم تحكِ نائِلكَ السحابُ وإنِّما ... حُمَّت به فَصبِيها الرُّحضاءُ

اللهم افكان من السائغ في الذوق أو في الخيال أن نظرة الشاعر للجوزاء تحيط بها دقاق النجوم لم تلهمه إلا إنها إنما تمنطقت لتقوم على خدمة ممدوحه؟

وهل كان من السائغ أن نظرة ثاني الشاعرين في السحاب وهي تهمي، لم تشعره إلا أنها غارت من كرم ممدوحه لقصورها عن مجاراته، فأخذتها الحمى، فلم يكن ما تسح به إلا من عرقها!

اللهم اشهد أن هذا وهذا كلام بارد مليخ، وهذا وهذا من الخيال الفسل السخيف!.

وبعد، فهذه فسولة الكلام وسخفه إنما ترجع في قرض الشعر في الجملة، إلى أحد شيئين: إما لان الناظم لا طبع له ولا شاعرية فيه، فهو يتصيد الخيال تصيداً ويصنعه صنعاً، ليجئ بنحو ما يجئ به الشعراء، وأما للرغبة في شدة المبالغة، والإيفاء على الغاية من المديح ونحوه، فيسف الشاعر ويسخف، ويأتي بمثل هذا الهذيان الذي أتى به ذانك الشاعران. إلى أن طبيعة هذه الموضوعات ليس فيها مجال عريض لشعور صحيح، ولا لخيال واضح صريح: والحمد لله الذي عفى على كثير من هذا الأدب في العصر الذي نعيش فيه. والنظر، بعد هذا، كيف يقول زهير بن أبى سلمى في مدح هرم بن سنان ووصف كرمه، وكيف، على انه غلا في ذلك اشد الغلو، أتى لهذا الكرم بصورة قوية مسبوكة سائغة.

قد احدث المبتغون الخير من هرم ... والسالكون إلى أبوابه طرقاً

من يلق يوماً على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقاً

وذلك لان يوماً ممدوحه كان جواداً حقاً، وانه هو تأثير بشدة جودهحقاً، وهو إلى هذا شاعر فحل، خصب الذهن سري الخيال، فلم يتعمل ولم يتعسف، بل لقد أنتضح شعره بالصورة التي جادت بها شاعر يته فجاءت، على إمعانها في الغلو، سائغة مسبوكة لا نشوز فيها على الأذواق. وهذا هو الفرق بين الخيال المطبوع، وبين الخيال المصنوع.

ولقد عرض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث. وللذوق محله غير المنكور في الشعر وفي غير الشعر. ولقد كان ينبغي أن نفصل القول فيه بعض التفصيل لولا أن طال بنا الكلام. فلنرجئ هذا إلى مقال آخر.

عبد العزيز البشيري