مجلة الرسالة/العدد 651/رأي جديد في:

مجلة الرسالة/العدد 651/رأي جديد في:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 12 - 1945



حماد الراوية

للأستاذ السيد يعقوب بكر

- 5 -

5 - رأينا في مدى انتحال حماد

لنسبق المقدمات إلى النتائج، ولنُدْلِ برأينا الذي انتهينا إليه بعد البحث الطويل، لنعود فنؤيده بما سنؤيده به من الأدلة والبراهين.

هذا الرأي هو أن حماداً لم يبلغ من الانتحال ذلك المدى الذي تصفه لنا كتب القدماء. ليس من شك في أنه انتحل بعض الأشعار، وكان في هذا متأثراً بحال الرواية في عصره، ولكنه لم يكن مشغوفاً بالانتحال عاكفاً عليه جاعلا له همّه وقصده.

فأما تدليلنا على صحة هذا الرأي، فإنما نجعله قسمين: قسما نأتي فيه بأدلة عقلية ونقلية، وقسما نمحص فيه ما ذكرنا من تلك الأقوال والأخبار التي أوردها القدماء في صدد انتحال حماد.

القسم الأول

(1) يقول القدماء إن حماداً كان شاعراً، وإنه كان شاعراً مجيداً؛ وإنه كان يصنع الأشعار، ويدسّها على الجاهليين، فتختلط بأشعارهم، ويصعب التمييز بين هذه وتلك. ونحن نرى أنه كان شاعراً، فقد قرأنا له طائفة من الأشعار؛ ولكننا لا نرى أنه كان شاعراً مجيداً، فإن أشعاره تميل إلى الغثاثة والركة؛ ولا نرى أنه يبلغ من جودة القول ما بلغه شعراء الجاهلية حتى تختلط أشعاره بأشعارهم.

يقول البغدادي (خزانة الأدب جـ4 ص 131): (وكتب حماد إلى بعض رؤساء الأشراف:

إنّ لي حاجةً فرأيُك فيها؟ ... لك نفسي فدًى من الأوصاب

وهي ليست مما يبلغها غير ... ي ولا يستطيعها في كتاب

غير أني أقولها حين ألق ... اك رويداً أُسرّها في حجاب

فكتب إليه الرجل: اكتب إلي بحاجتك، ولا تشهرني في شعرك. فكتب إليه حما إنني عاشق لجبتك الدكناء عش ... قاً قد حال دون الشراب

فأكسنيها فدتك نفسي وأهلي ... أتباهى بها على الأصحاب

ولك الله والأمانة أن أجعل ... ها عُمْرَها أمير ثيابي)

هذه صورة لشعر حماد يصفه القدماء بالجودة، ويرفعونه إلى طبقة الشعر الجاهلي. فهل ترى أن مثل هذا الشعر يتسامى إلى ما قاله قيس بن الحدادية في مديح أسد بن كُرْز، وزعم البعض أنه من صنع حماد؟

لا تعذليني سَلْمَ اليوَم وانتظري ... أن يجمع اللهُ شملا طالما افترقا

إن شتت الدهر شملا بين جيرتكم ... فطال في نعمة يا سلم ما اتفقا

وقد حللنا بقسرىّ أخي ثقة ... كالبدر يجلو دجى الظلماء والأفقا

لا يُجبرُ الناسُ شيئاً هاضه أسدٌ ... يوماً ولا يرتقون الدهر ما فتقا

كم من ثناءٍ عظيم قد تداركه ... وقد تفاقمَ فيه الأمرُ وانخرقا

(2) قدّمت في الفصل السابق أنه لم يصح عن حماد وضع في المعلقات، وهي أهم ما رواه. فإذا كانت المعلقات قد سلمت من وضعه وانتحاله، فلماذا لم يسلم سائر ما رواه؟ ولماذا لم ينتحل حماد المعلقات، وهو المشغوف بالانتحال العاكف عليه الجاعل له همّه وقصده؟

(3) يقول أبو عمرو الشيباني، فيما رواه أبو الفرج (جـ5 ص165): (ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدّمه على نفسه، ولا سألت حماداً عن أبي عمرو إلا قدّمه على نفسه). فما رأيك في رجل هذا رأي أبن العلاء فيه؟ وابن العلاء راوية ثقة، وأجد القراء السبعة. مرّ الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف عليه، فقال: لا إله إلا الله، لقد كادت العلماء أنّ يكونوا أرباباً، كل عزّ لم يؤكَّد بعلم فإلى ذُلْ يؤول. ما رأيك في رجل يقدمه ابن العلاء على نفسه؟ وهل تظن أن أبا عمروَ بن العلاء ممن يرتضون تقديم رجل منتحل كاذب بالغ في الانتحال والكذب؟

القسم الثاني

1 - تمحيص أقوال القدماء في انتحال حماد: فأما قول المفضل، وقول يونس بنَ حبيب، فإننا نقف منهما موقف الحذر. فقد كان المفضل معاصراً لحماد، وكذلك كان يونس ابن حبيب. والمرء لا ينصف معاصره، في أغلب الأحيان؛ ولا سيما إذا كانا من صناعة واحدة. بل إننا حين نقرأ قول المفضل: قد سُلِّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، ثم نقرأ قول من سأله: وكيف ذلك؟ يخطر ببالنا هذا السؤال: إذا كان حماد معروفاً في عصره بكثرة الانتحال، فلماذا سأل السائلُ المفضل واستفسره؟

وأما قول خلف وقول الأصمعي، فإننا نقف منهما موقف الارتياب، فقد كان معاصراً لحماد، وكذلك كان الأصمعي. ثم إنهما كانا بصريين؛ وما كان لبصريّ أن ينصف كوفيا كحماد، إلا إذا كان في خلال أبي عمرو بن العلاء. وليس هنا مكان الحديث عما كان بين الكوفة والبصرة، في مجال العلم والأدب، من تنابذ وتخاصم وصراع. هذا إلى أن خلف الأحمر كان منتحلا، ذاع ذلك عنه، واعترف هو به؛ وذلك أنه نسك في أخريات أيامه وترك الشعر والكلام، فخرج إلى أهل الكوفة، وعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس.

وأما ما ذكره السيوطي من قول أبي حاتم، فإننا نقف منه موقف الشك. ذلك لأننا لم نقف عليه إلا لدى السيوطي، وهو متأخر. هذا إلى أن أبا حاتم بصري، لا يؤخذ بقوله في حماد إن صح منه هذا القول.

وأما ما يقوله ابن سلام في حماد من أنه كان غير موثوق به، فقد سمعه من غيره، ولم يبنه على تجربته. وذلك لأنه لم يشهد أيام حماد، ولم يتقدم به الزمن ليرى كذبة وانتحاله. فقد سمع هذا إذاً من غيره، ثم دونه في كتابه، وهو يعلم أنه يتهم عالماً كوفياً. وكان ابن سلام من علماء البصرة.

2 - تمحيص أخبار انتحاله

نبدأ بتمحيص قصة حماد مع الخليفة المهدي. فنعيد ما قلناه في صدد حياة حماد من أنه لم يدرك عصر المهدي في أغلب الظن، فقد توفي سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان، بينما أن المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. ونعيد ما قلناه من أن الرواية التي يشير إليها ابن خلكان إذ يقول (وقيل إنه توفي في خلافة المهدي) غير صريحة النسبة، ولا تذكر تاريخاً معيناً مما يحدو بنا إلى رفضها. نعيد ما قلناه من أن حماداً لم يدرك عصر المهدي، ومن أن رواية ابن خلكان ضعيفة، لنصل من هذا إلى أن قصة حماد مع الخليفة المهدي قصة باطلة كاذبة، وإلى أنها إنما اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. اخترعت ولفقت في سبيل النيل من حماد، ورفع قدر المفضل. وإلا فما رأيك في قصة تنتظم ثلاثة فصول؟ فصلا يحادث فيه المهدي المفضل وحده؛ وفصلا يحادث فيه المهدي حماداً وحده؛ ثم فصلا كأنه خاتمة يخرج فيه حماد والمفضل معاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ويرجع فيه الخادم معهما فيقول: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعراً جيدا محدثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فما رأيك في قصة قد فصلت تفصيلا، ونسقت تنسيقاً، وقسمت فصولا؟ وما رأيك في كلام الخادم؟ ألا ترى أنه شبيه بكلام من يروج بضاعة في سوق؟ ثم ألا ترى أنه يفاضل بين رواية حماد ورواية المفضل في تفصيل ودقة كأنه ناقد خبير، لا خادم أجير؟ أظنك ترى بعد هذا أن هذه قصة باطلة كاذبة، فقد اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. ثم إن الجاحظ في البيان والتبيين (ج 2 ص 202 - 203 ط السندوبي) يذكر رواية من شأنها تكذيب هذه القصة. يقول الجاحظ: (أبو الحسن قال: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي، فخلى سبيله وأكرمه وقرب مجلسه، فقال له يوماً: أنشدني قصيدة زهير التي أولها (لمن الديار بقُنَّة الحَجْر) وهي التي على الراء:

لمن الديار بقنة الحجر ... أقوَيْنَ مذْ حِجَجٍ ومذْ دَهرِ

فأنشده، فقال المهدي: ذهب والله من يقول مثل هذا! قال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا! فغضب المهدي واستجهله ونحَّاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس). فأنت ترى من هذه الرواية أن المهدي يعلم مطلع القصيدة؛ وهو ما تقول القصة إن حماداً صنعه في حضرة المهدي، وأنه أقر بصنعه إياه بعد استحلافه.

السيد يعقوب بكر