مجلة الرسالة/العدد 651/معرفة الطريق. . .

مجلة الرسالة/العدد 651/معرفة الطريق. . .

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 12 - 1945


للأستاذ عباس محمود العقاد

قد يصل المرء إلى المعرفة الجوهرية عرضاً، وهي التي نسميها هنا معرفة الطريق

وقد احتاجت معرفة الطريق في عصرنا هذا إلى شئ من الإنصاف بعد أن جار عليها الناقدون كل الجور، وزعموا أن النظرة العرضية لا تؤدي إلى معرفة يعتد بها على الإطلاق

وفي اعتقادنا أن تاريخ المذاهب الفكرية كلها إنما هو تاريخ جور واعتدال، أو تاريخ إجحاف وإنصاف، أو تاريخ تجاوز للحد ورجوع إليه، وقد يكون الرجوع إلى ما دون الحد بكثير أو قليل، فيحتاج الفكر إلى رجعة أخرى ليستقر على الحد الصحيح

أفرط الناس في الإيمان بالمنطق، ثم أفرطوا في الإيمان بالسماع، ثم أفرطوا في الإيمان بالعلوم التجريبية، ثم جمعوا بين المنطق والسماع والعلوم التجريبية في تقديرات علم النفس الحديث، ثم لعلهم يعودون كرة أخرى إلى حدود المنطق السليم، ولكن لا وراء الحدود في هذه المرة ولا أمام الحدود، بل على سواء الحد الصحيح

ومن الأراجيح الفكرية التي تجاوزت الحد جيئة وذهوباً أرجوحة الكلام في مشاهدات السائحين، أو تعليقات الناظرين إلى الأمم من عرض الطريق؛ فقد أنكرناها وغلونا في إنكارها كأن النظرات العارضة لا تميز أمة من أمة ولا مدينة من مدينة، وكأنها لا تطلب لذاتها في بعض الأحيان للدلالة على حكم المفاجأة الأولى، وكثيراً ما تكون المفاجأة الأولى هي المميز الواضح بين الناظرين كما تكون هي المميز الواضح بين المنظورات

كان (فيليب جويدالا) الأديب الأسباني أصلا والإنجليزي نشأة يعبر بالقاهرة، فسألته: أتنوي أن تكتب شيئاً عن رحلتك؟ فقال ضاحكا: لا أظن أن أيامي القصيرة في هذه الرحلة تكفي لتأليف الكتب في موضوعها. ثم قال: لعلي أنا السائح الوحيد الذي قضى في روسيا نحو أسبوع، ولم يخرج منها بموضوع كتاب.

ومراد الأديب بما قال أن يسخر من عجلة المؤلفين في الحكم على الشعوب التي يعبرون بلادها ولا يطيلون المقام بين أهلها، وهو على حق في هذه السخرية إذا كان الموضوع الذي يتصدى له أولئك المؤلفون العابرون مما يحتاج إلى إطالة الدرس وكثرة المراج والأسانيد، ولكن السخرية جائرة على أولئك المؤلفين إذا كان همهم الأكبر تسجيل ما شاهدوه وما أحسوه ووقع هذه المشاهدات في أذهانهم ومخيلاتهم للوهلة الأولى، فإننا نخسر كثيراً من حقائق المشاهدات إذا أهملنا منها الجانب الذي يفاجئنا بآثاره النفسية، ولو تغير حكمنا عليها بعد ذلك، لأن الآثار التي تتغير هي أيضاً صورة من صور الدلالة، ولون من ألوان الشعور والتفكير.

خطر لي هذا الخاطر وأنا أستمع اسماً من الأسماء تغلب فيه النسبة إلى بلد من البلاد المصرية.

فرجعت بي الذاكرة إلى العهد الذي كانت النسبة الإقليمية تغلب فيه على معظم الأسماء إن لم تغلب على جميع الأسماء.

فكنا نسمع مثلا أسماء: علي الجرجاوي، وحسن الأسيوطي، ومحمد الشرقاوي، وأحمد الفيومي، وحسين المنياوي، وموسى الشندويلي، ومحمود الدمنهوري، وكثيراً من أشباه هذه الأسماء المنسوبة إلى الأقاليم.

ثم عبرت فترة على الديار المصرية قلت فيها الأسماء المنسوبة، ثم أوشكت أن تزول.

ألا يدل مجرد الاستماع إلى أسماء هذين الجيلين على تاريخ الوطنية المصرية منذ خمسين أو ستين سنة؟ ألا يفهم منه أن المصريين قد شعروا بوطن عام تنطوي فيه الأقاليم بعد أن كانت أوطانهم في رأيهم هي تلك الأقاليم التي حجبت عنهم النظر إلى (الوطن العام).

وتسمع بين الأسماء اسم البحيري والشرقاوي ولا تسمع اسم الغرباوي أو الغربي منسوباً إلى إقليم الغربية، بل ينسب الناس أبناء هذا الإقليم إلى بلادهم: كالطنطاوي والدسوقي والمحلاوي والسنطاوي، وغيرها من المنسوبات إلى بلاد الغربية وقراها. فهل من العجلة أن يفهم من ذلك أن التقسيمات الإدارية لم تكن مما يحفل به المصريون في عهدهم الغابر، وإن أسماء الحكومة غير أسماء الشعب في لغة الجماهير؟ ألا يلاحظ من هذا أن الموقع هو المقصود من نسبة البحيري والشرقاوي وليس هو الاسم المصطلح عليه في دفاتر الحكومة عند تقسيم المديريات؟

ويحضرني لهذه المناسبة ما لاحظته على الأسماء العربية في بلاد السودان

ففي هذه البلاد يكثر اسم: أبو بكر وعمر وعثمان، ويوجد اسم مروان والزبير ومعاوية وشرحبيل، ويقل اسم علي وحسن وحسين وجعفر وزين العابدين، ويحدث ذلك الآن غير متعمد وغير ملحوظ، ولكنه في بداية أمره كان متعمداً ولا شك لكثرة المهاجرين إلى السودان من الأمويين بعد زوال الدولة الأموية، وكثرة المهاجرين إليه من العباسيين بعد ظهور الفاطميين. أما في مصر حيث أقام الفاطميون زمناً طويلا، فليس أشيع بين الأسماء العربية الإسلامية من اسم الحسن والحسين وعلي وسائر الأسماء العلوية، وقس على ذلك أسماء المسلمين في إيران وبعض الأقاليم العراقية والهندية؛ فإن أسماء الخلفاء فيها - ما عدا اسم علي - من أندر الأسماء.

وندع الأسماء ونستمع إلى نداء الباعة، أو ننظر إلى زفة الجهاز والشوار، أو نقرأ بعض العناوين على أبواب الدكاكين والأماكن العمومية.

فماذا نفهم من (العبد اللاوي شيلة جمل)، حين ترى أن المنادي بهذا النداء السخيف يحمل في يديه وحجره عشراً من هذا العبد اللاوي الذي ينوء الجمل بواحدة منه؟

وماذا تفهم من اللحاف الذي يحمل وحده على مركبة، أو الكراسي القليلة التي تحمل على مركبة أخرى حين تعلم أن البيت كله ينقل بعد ذلك على مركبة واحدة تتسع لحمولة عشر مركبات من هذا القبيل؟

ألا تفهم من هذا وذاك ولعاً بالمظاهر الكاذبة يبلغ حد الجنون؟ ألا يصدق وصف الجنون على هذا الولع، لأنه يطلب المظهر، ولو لم ينخدع به أحد من الناس؟

إن الولع بالمظهر الخادع فيه بعض العقل أو بعض الذكاء. أما الولع بالمظهر الذي لا يخدع أحداً ولا يخطر على بال الآدمي أنه قابل للخديعة والأنخداع، فأصدق ما يوصف به أنه ضرب من الجنون، وأنه يدل على نقص في إدراك الحقائق وتصورها، لا يستقيم عليه حال.

وليس في وسعنا أن نعيد هنا أسماء الأماكن العامة أو عناوين الدكاكين كما نقرأها ويقرأها من يشاء، لأننا نمس بها أناساً من الأحياء لا نعني ذواتهم بما نقول، فنكتفي من ذكرها بالإشارة إلى مرادفها، أو ما يدل على مثل معناها ومثل ما تشتمل عليه من المتناقضات والأعاجيب

فماذا تفهم إذا عبرت الطريق فرأيت مدرسة للبنات تدعى مدرسة الانشراح، وحانة تدعى حانة الحكمة؟ وماذا تفهم إذا قرأت (جزار الخيرات) وحانوت السلامة؟

أمثال هذه العناوين تدل على كثير، وهي على هذا لا تحتاج إلى أكثر من لفتة في الطريق.

وإذا نزلت بمدينة إسلامية في شهر رمضان فلم تر مسلماً واحداً يحمل سيجارة يدخنها، ورأيت في كل شارع مشهود خمس حانات، فماذا تفهم من حقيقة الإيمان وحقيقة الأخلاق ونصيبها من الصدق والصراحة في تلك المدينة؟ وماذا تفهم إذا مررت فيها بمائة مسجد ولم تجد فيها جميعاً ما يملأ عشرة مساجد؟

إنك لتفهم من هذه النظرات العرضية ما يستحق أن يفهم على الأقل وأن يلاحظ وأن يتجاوز الملاحظة إلى التسجيل.

فإذا كان هذا الفهم مما يتغير بعد النظرة الأولى، فذلك من دواعي الحرص عليه لا من دواعي إهماله وصرف النظر عنه، كما يحرص على كل ملاحظة إنسانية يخاف عليها من الزوال السريع.

لقد ظلمنا (معرفة الطريق)، وأفرطنا في الانحناء عليها، فوجب أن نعود بها إلى حد من القصد والإنصاف، لأننا محتاجون إلى سرعة الملاحظة، ومحتاجون إلى سرعة الاستدلال، ومحتاجون إلى تسجيل الأطوار المتعاقبة للحقيقة الواحدة في حالة المفاجأة وحالة الروية والمراجعة.

أما إذا قيل إن هذه المعرفة التي تسميها بمعرفة الطريق قد تسمعنا ما لا يستحق السماع وتسجل لنا ما لا يستحق التسجيل فالخطب هنا يسير وموضع الفصل فيه غير بعيد، لأننا خلقاء أن نذكر دائماً أن النظر الذي لا يرى من النظرة الأولى ما يستحق أن يقال: لن ينفعنا بشيء ذي بال بعد التمحيص الطويل والتنقيب الكثير.

عباس محمود العقاد