مجلة الرسالة/العدد 652/من أبلغ ما قيل في تكريم مؤلف العباسة:

مجلة الرسالة/العدد 652/من أبلغ ما قيل في تكريم مؤلف العباسة:

مجلة الرسالة - العدد 652
من أبلغ ما قيل في تكريم مؤلف العباسة:
ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1945



ذكريات. . .

للأستاذ كامل كيلاني

كنا نسمر - أيها السادة - في حلوان - ذات ليلة - مع الصديق الكريم (جمال الدين أباظة بك) رضى الله عنه، في دار شاعرنا (عزيز باشا) أعز الله به دولة الأدب، قبيل نشوب هذه الحرب العالمية الطاحنة لا أعاد الله مثلها، على عالمنا الأرضي المنكوب.

ولم يكد يستقر بنا المقام حتى لمحنا أجزاء من كتاب الأغاني، على مكتب شاعرنا الموهوب.

فالتفت إلى صديقي جمال بك، وقلت له: أليس من العجيب أن الإنسان لا يكاد يفتح صفحة من صفحات هذه الكنوز الأدبية الخالدة، إلا وقعت عينه على درة من عيون البيان العالي تملأ نفسه روعة وسحراً!).

قلت هذا - أيها السادة - وأنا قليل الثقة بتوفقي إلى مفاجأته بجدية من روائع هذا الكتاب!

فما أكاد أعرف في كل من عرفت من أدبائنا المعاصرين أوسع منه إطلاعا على الأدب العربي: شعراً ونثراً، وقد كدت أقل: (والأدب الفرنسي) لولا فرط حرص على اصطناع الدقة وإسراف بالغ في توخي القصد والاعتدال حتى لا يقال: ولكن من أحب الشيء حابى

وهو - أعني جمال الدين - لقوة حافظته وسعة محفوظه، يكاد يستوعب الصفوة المختارة من طرائف الأدب العربي، لا سيما كتب الأغاني فهماً ودراية، وحفظاً ورواية.

وربما ذكرت له الطرفة المستملحة الغريبة فإذا به - لتثبته من حفظها وروايتها - أسبق من قارئها إلى تلاوتها.

ففتحت كتاب الأغاني - أيها السادة - لأقرأ - لصديقي جمال - أول ما تقع عليه عيناي.

فإذا بيتان من شعر قيس: شاعر الحب الخالد يتألقان في صفحة الكتب كما يتألق القمر في صفحة السماء، ليلة البدر أو ليلة السواء.

واليكم البيتين أو على الأصح إليكم الدرتين:

بكيت. نعم بكيت. وكل إلف ... إذا بانت أليفته بكاها

وما كان التباعد عن تقالً ... ولكنِ شقْوَةٌ بلغت مداه فترنح صاحبي جمال وترنحت، وانتشى برحيق الفن وانتشيت. ورحنا نردد البيتين مأخوذين بفنهما الصادق وأسلوبهما الفاتن الذي يفيض سحراً وإبداعاً، ويلتهب وجداً والتياعاً

وقلت له فيما قلت: (ألا ترى في قوله: (شقوة بلغت مداها) قصة الحياة كلها مجلوة على إيجازها في ثلاثة ألفاظ! ألا ترى في هذه الألفاظ القليلة وجازة صادقة لمأساته الفاجعة في لبني؟ ألا ترى كيف تألفت منها صورة كاملة يكاد القلب يذوب لها أسى، وتفنى النفس حسرة على قائلها المبدع العظيم؟ أليست مأساة قيس ولبنى - على الحقيقة - شقوة بلغت مداها؟

وهنا دخل شاعرنا المحتفل به وقد سمع آخر الحوار فقال:

ما أصدق ما تقولان! فان في هذا الشطر وحده قصة كاملة تلخص مأساة قيس ولبناه، وتكاد تلخص كل قصة من قصص الحياة!

ثم تلا البيتين في تأثر وإعجاب في صوت متهدج يكاد يجهش بالبكاء. وكأنما كان يقرأ في ألفاظها سطوراً من صحف الغيب:

(وللنفس حالات تريها كأنها ... تُشاهد فيها كل غيب سَتشهد)

ودارت الأيام وألمت بشاعرنا المحبوب من الأحداث والخطوب: شقوة بلغت مداها.

فكأنها صهرت النار المتأججة منجما ذهبياً حافلا بأروع الكنوز، فأخرجت منه ما فيه من النفائس الغالية سبائك من النضار خالصة من كل شائبة.

وكم ألهبت الحوادث من مناجم فحمية أخرى فأحالتها رماداً تقذى بذرته العيون، وتتقزز لمنظره النفوس.

أيها السادة: لقد أصاب المثل القائل: (كل ما لم يقتلك فهو ينفعك) وصدق الكتاب الكريم (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) لقد كانت شقوة بلغت مداها. فأحالها الفن العالي: نعمة بلغت مداها.

(والنحل يجني المر من نورْ الربَّى ... فيعود شُهدا في طريق رضابه)

كامل كيلاني