مجلة الرسالة/العدد 653/درس في التفسير على طريقة التصوير

مجلة الرسالة/العدد 653/درس في التفسير على طريقة التصوير

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 01 - 1946



للأستاذ سيد قطبّ

يتجه الباحثون في الأدب العربي إلى أن الشعر قد ضعف في أوائل العهد الإسلامي ضعفاً ظاهراً بالقياس إلى الشعر الجاهلي. ويعزون هذا الضعف الظاهر إلى أسباب كثيرة؛ أولها اشتغال المسلمين بالعقيدة الدينية الجديدة، ومحاربة الدين الجديد لكثير من ملابسات الحياة الجاهلية التي كانت تثير الشاعرية - وفي مقدمتها العصبيات القبلية والعائلية - ويضيف بعضهم إلى هذه الأسباب أن القرآن حارب الشعر (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترِ أنهم في كلُّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، وأنه كان لهذا أثره في نفوس الشعراء المسلمين.

وأنا أعتقد أن هناك مبالغة في قيمة هذه الأسباب وتأثيرها في الشعر العربي؛ كما أن هناك إغفالاً لسبب أساسي آخر كامن في نسج القرآن ذاته.

أعتقد أن الجمال الفني في القرآن كان من القوة والضخامة بحيث بده الحس العربي بمفاجأة عنيفة، وكان وحده كافياً لتغذية مشاعر العرب وإشباع الحاسة الفنية في نفوسهم بزاد أجمل من زاد الشعر الذي عرفوه وأقوى.

كان فيه من سمات الشعر الفنية ومن طلاقة النثر التعبيرية مزاج يجعله نسقاً خاصاً أعلى مما تبلغ إليه آفاقهم الشعرية، بل أعلى مما تتطلع إليه حاستهم الفنية، فامتلأت مشاعرهم به امتلاءها بالعقيدة ذاتها، وأحسوا له وقع السحر في نفوسهم، واستوى في ذلك السحر المؤمنون به والكافرون (كما فصلت ذلك على سعة في كتاب التصوير الفني).

وهذا الجمال الفني في تعبير القرآن كان عنصره الأول هو (التصوير) ومواجهة الحس البشري بما يروعه من الصور والمشاهد، وبما يستجيشه من الهيئات والظلالّ. وقد كان القرآن أغنى - بما لا يقاس - من الشعر العربي كله بهذه الصور والظلال، في مستوى رفيع من التناسق يبلغ حد الإعجاز.

وحينما وفقت إلى إخراج كتاب (التصوير الفني في القرآن) - وقد حوى عدد الهجرة الماضي من الرسالة فصلاً منه - لم أكن أريد بإخراجه مجرد عرض طائفة من الصور الفنية الجميلة من القرآن؛ إنما كانت نيتي الكبرى أن يتوجه البحث في جمال التعب القرآني كله هذا الاتجاه، وأن ننظر إلى هذا الجمال الخالد من زاوية أخرى غير الزاوية البلاغية المعهودة، القائمة على أساس المعاني والألفاظ.

وحين ننظر إلى القرآن من هذه الزاوية الجديدة تبدو لنا بدائع من الجمال الفني لم تكن تخطر على البال. ويبدو لنا أن هذا الكتاب الخالد يخاطب الحس الإنساني غالباً من حيث تخاطبه الصورة الفنية، والمشهد المتحرك، والموسيقى التصويرية؛ وأنه يعتمد كثيراً على الظلال النفسية التي تلقيها الصور والمشاهد والإيقاعات في الحس الإنساني، فتحركه، وتفتحه، وتجعله أشد ما يكون استعداداً لتلقي العقيدة الدينية؛ وبخاصة الجانب الغيبي منها - وهو جانب أصيل في كلُّ عقيدة، وله في النفس الإنسانية مكانه الذي لا يملؤه سواه - وإذا كان في كلُّ عقيدة دينية قسط أصيل من الفن كما أعتقد، وكما يبدو من الدراسات المقارنة للأديان، فقد تكفل القرآن بتحقيق هذا القسط الفني، دون أن يخل بنصوع العقيدة وبساطتها، ذلك أنه حققه في طريقة التعبير، بينما كثير من الديانات الأخرى حققه في صلب العقيدة.

وإذا نحن تجاوزنا الديانات الوثنية لأنها خارجة من الحساب هنا، واقتصرنا على الديانة الموسوية والديانة المسيحية، فإننا نجد القسط الفني في العقيدةالموسوية كامناً في الأساطير التي تزحم العهد القديم وتتخذ لها طابعاً فنياً يكاد يكون طليقاً. أما في الديانة المسيحية فقد تكفل بهذا الجانب مأساة المسيح ذاتها - على حسب ما ترويه الأناجيل والرسائل في العهد الجديد - وحتى لو نظرنا إليها في صلب القرآن، فإننا نجد القسط الفني كاملاً في تضاعيفها منذ مولد عيسى إلى رفعه.

أما العقيدة الإسلامية فقد ظلت بسيطة واضحة، وتكفل التعبير القرآني وحده - عن طريق التصوير - بتحقيق الجانب الفني في هذه العقيدة بما يناسب وضوحها ونصاعتها.

قصدت - إذن - في كتاب (التصوير الفني) إلى أن يتجه البحث في الجمال القرآني، هذا الاتجاه. . . واليوم في عدد الهجرة من الرسالة أحب أن أعرض نموذجاً كاملاً لتفسير (سورة الحاقة) على هذا الأساس. والله المستعان. . .

سورة الحاقة من السور المكية، وهي في جملتها تتولى بسط قضيتين غيبيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، بينهما ارتباط وثيق.

أولاهما: قضية البعث والقيامة؛ والثانية قضية الوحي وأمانة التبليغ. فلننظر كيف عرضت هاتين القضيتين الكبيرتين، ومن أي منافذ النفس الإنسانية سلكت بهما إلى مستقر اليقين:

بسم الله الرحمن الرحيم

(الحاقّة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة؟ كذَّبتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة. فأمّا ثمودُ فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صَرْصرٍ عاتية، سخَّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍُ حُسُوماً، فترى القومَ فيها صَرْعى كأنهم أعجازُ نَخْلٍ خاوية - فهلْ ترى لهم من باقية؟ - وجاءَ فرعونُ ومَنْ قبله والمؤْتَفِكَاتُ بالخاطئة، فعصوا رسول ربِّهم فأخذهم أخذةً رابيةً. إنّا لما طغى الماءُ حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكِرةً وتعيها أُذنٌ واعية. فإذا نُفِخَ في الصُّورِ نفخةٌ واحدة، وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ فدُكَّتا دكَّةً واحدة، فيومئِذٍ وقعتِ الواقعةُ، وانشقَّتِ السماءُ فهي يومئذٍ واهية).

الحاقة: القيامة. وهو يختار هذا اللفظ من الناحية المعنوية لما يسبقه من ذكر التكذيب بها من عاد وثمود. . . فهي الحاقة التي تحق، والتي تقع لأحقيتها بالوقوع، إحقاقاً للعدل الإلهي، وتقريراً للجزاء مع الخير والشر كما سيجيء في السورة بعد قليل.

وهو يختار هذا اللفظ من الناحية التصويرية لأن له جرساً خاصاً، هو أشبه شئ برفع الثقل ثم استقراره استقراراً مكيناً رفعه في مدة الحاء بالألف، واستقراره في تشديد القاف بعدها والانتهاء بالتاء المربوطة التي يوقف عليها بالهاء الساكنة. والجرس في ألفاظ القرآن وعباراته يشترك في تصوير المعنى وإيقاعه في الحس.

وهنا ينتهي الحديث في لفظ (الحاقة) لننظر في محيط أوسع إلى السياق الكامل:

الجو كله في هذه الآيات جو تهويل وترويع، وتعظيم وتضخيم، يوقع في الحس الشعور بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة، وبضآلة الكائن الإنساني بالقياس إلى هذه القدرة من جهة أخرى. والألفاظ بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب، وبدلالة التركيب كله، تشترك في خلق هذا الجو وتصويره: فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة لا خبر لها في الظاهر: (الحاقة) ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم (الحاقة)؟ ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل وإخراج المسألة عن حدود الإدراك: (وما أدراك ما الحاقة؟) ثم يدعك فلا يجيب على هذا السؤال. يدعك واقفاً أمام هذا الأمر المستعظم المستهول الذي لا تدريه ولا يمكن أن تدريه. يدعك لحظة مفعم الحس بالاستهوال والاستعظام، ليدور بك هنيهة حول الموضوع، ما دامت مواجهته غير مستطاعة!

(كذبت ثمود وعاد بالقارعة)!

إنك لا تدري ما الحاقة. . . فهي القارعة!. . .

أحسست وقعها في حسك، وقرعها في نفسك!. . . إن عاداً وثمود كذبوا بهذه القارعة! فماذا كان؟ (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. . .) والطاغية - على ما في أسمها من سورة الطغيان عليهم وغرمهم وتغطيتهم - وكذلك الريح الصرصر العاتية، كلتاهما أخف من القارعة، ولكن لعلهما تُقربان إلى حسك هذه القارعة، فهما من جنسها ونوعها. وهكذا قضى على عاد وثمود في هذه الدنيا، قضى عليهما بطرف من تلك الحاقة ومن هذه القارعة، فإذا عجز إدراكك وهو عاجز - عن تصور الحاقة، فإليك نموذجاً مصغراً منها في الصيحة الطاغية وفي الريح العاتية، فهما من مشاهدات هذه الحياة الدنيا، وإن نضح اسمهما ووصفهما هولاً! هولاً تنقله إلى حسّك هذه الصورة المروّعة: صورة العاصفة مزمجرة مدوية سبع ليال وثمانية أيام؛ وصورة القوم فيها (صرعى كأنهم إعجاز نخل خاوية) وإنك لتراهم الآن فالصورة حاضرة - (فترى القوم فيها صرعى. . .) - (فهل ترى لهم من باقية)؟ كلا لا باقية ولا أثر؛ فلتتعظ إذن وتعتبر، وليخشع حسك للهول، ولتتفتح نفسك للإيمان بالغيب المجهول.

ثم إليك مشهداً آخر لعله يقرب إلى حسك روعة الحاقة وهول القارعة. إن فرعون ومن قبله وقُرى قوم لوط المعروفة قد جاءوا بالفعلة الخاطئة. . . جاءوا بها فكأنما هي شيء محسوس أو كائن حي يُجاء به، فهي شاخصة محسوسة حين ارتكبوها. (فعصوا رسول ربهم)، وهم رسل متعددون ولكنهم بمثابة الرسول الواحد، فجميعهم يحمل رسالة واحدة من عند إله واحد - (فأخذهم أخذة رابيه) والأخذة هنا (رابية) ليتم التناسق بينها وبين (الطاغية) فكلاهما تربى وتطغى، وتغطى وتغمر. والتناسق في المناظر ملحوظ في اللوحة الكبرى.

وما دمنا بصدد استعراض المشاهد الهائلة، والروائع الغامرة، فمشهد الطوفان إذاً يتسق مع هذا الاستعراض كلُّ الاتساق؛ (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) لتكون هذه الحادثة عبرة تذكرونها وتعيها الآذان الواعية.

والآن وقد استعد الحس البشري المحدود لتصور هول الحاقة غير المحدود. الآن وقد تهيأ الحس باستعراض هذه الصور المروعة الطاغية الرابية الغامرة. . . فقد آن الأوان لاستكمال العرض، وتهيأ الموقف للوثبة الكبرى: (فإذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدة، وحملت الأرض والجبالُ فدكتا دكه واحدة، فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وننظر في اللوحة الكبرى التي تجمع هذه المشاهد جميعاً. فماذا نرى؟

نرى نوعاً من التناسق الفني العجيب بين الحاقة والقارعة والطاغية والعاتية والرابية والدكّة الواحدة والواقعة. . . تناسق اللفظ والجرس، وتناسق الوقع في الحس، وتناسق الحجم والقوة، في ضخامة الحادثة وروعتها، وتناسق المناظر التي تخيَّل للحس أنها جميعاً ثائرة فائرة طاغية غامرة، تذرع الحس طولاً وعرضاً، وتملؤه هولاً وروعاً، وتهزه من أعماقه هزاً.

ولن يجد مصور بارع اتساقاً أعظم من اتساق الصيحة الباغية الطاغية، والريح الصرصر العاتية، والأخذة القوية الرابية، والطوفان الطاغي تخوض غماره الجارية، والنفخة الهائلة الواحدة، والدكة المحطمة الواحدة، وبين وقعةِ الواقعة، والسماء المنشقة الواهية. . . إنها كلها من لون واحد وحجم واحد ونغمة واحدة، وكلها تؤلف اللوحة الكبرى، وترسم الجو العام الذي أراده القرآن.

وكأنما العاصفة تهدأ، والسكون يخيم، لحظة ليبدأ استعراض جديد، فيه هول، ولكنه هول ساكن رابض، بعد ما سكن الهول الهائج المائج:

(والمَلَكُ على أرجائها؛ ويحمل عرشَ ربك فوقهم يومئذ ثمانية. يومئذ تُعرَضون لا تخْفَى منكم خافية: فأما من أُوتيَ كتابَه بيمينه، فيقول: هَاؤمُ اقرءُوا كتابِيَهْ، إني ظننتُ أني مُلاقٍ حسابيهْ. فهو في عيشة راضية، في جنةٍ عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأما من أُوتيَ كتابه بشماله، فيقول: يا ليتني لم أوتَ كتابيهْ، ولم أدرِ ما حسابيهْ، يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليهْ، هلك عنِّي سلطانيهْ. . . خذوه فَغُلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، ثم في سلسلةٍ ذرعُها سبعون ذراعاً فاسْلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحُضُّ على طعام المسكين، فليس له اليوم هاهُنا حميمٌ ولا طعامٌ إلا من غسْلِينٍ لا يأكله إلا الخاطئون).

ها نحن أولاء نشهد العرض. نشهده مجسّما مخيَّلا في أشد المواضع التي يحرص الإسلام على التجريد فيها والتنزيه. ولكن طريقة التعبير بالتصوير تختار التجسيم في هذا الموضع أيضاً لمجرد إثارة الحس وإشراك الخيال والتأثر الوجداني الحار. . .

فهنا السماء قد انشقت فهي واهنة واهية، وهنا الملائكة موزعون على أرجائها، في هذا الاستعراض الإلهي العظيم، وهُنا العرش - عرش ربك - يظلل الجميع في وقار رهيب، يحمله حملته وهم ثمانية. . . ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منهم، فالجرس الموسيقي لثمانية يتسق مع جرس الفاصلة كلها، والمقصود ليس حقيقة العدد ولكن تنسيق المشهد وتكثير المعدود. . . هُنا مجلس قضاء تم فيه الحشد، فليبدأ الاستعراض؛ حيث لا تخفى خافية في الحس أو الضمير.

وتكملة للعرض المجسم ينقسم المعرضون ويكون هناك كتاب يؤتى باليمين وكتاب يؤتى بالشمال. (فأما من أوتي كتابه بيمينه) فما تسعه الساحة من الاطمئنان والمباهاة: (فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه) لقد ظننت لشدة خوفي من القارعة (أني ملاقٍ حسابيه) فإذا أنا ألقي الغفران والنعيم! ثم ليلقِ صاحبنا السعيد جزاءه الطيب على مشهد من النظارة جميعاً: (فهو في عيشة راضية. في جنةٍ عالية قطوفها دانية) وليلقِ التكريم المعنوي كما لقي التكريم الحسي، فها نحن أولاء نسمع من عليين: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) فذلك التكريم حق لكم بما أسلفتم من صالحات.

وننظر في الجانب الآخر من الساحة لنرى ذلك الذي أوتي كتابه بشماله: لقد أدركته الحسرة، وركبته الندامة، فلنسمعه يتوجع توجعاً طويلاً وقد ثبت المشهد كأنه لا يتحرك: (يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدرِ ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية. وما أغني عني مالية، هلك عني سلطانيه. . .) ولكن ما باله هكذا لا ينوي مغادرة الموقف، ولا ينوي كذلك السكوت عن التفجع؟ لقد طال استعراضه ليتحقق التأثر الوجداني بتأوه الندم وتفجع الحسرة. فإذا تم هذا العرض فهنا نسمع الأمر العلويّ الذي لا يرد، فلنكتم أنفاسنا ولنستمع! (خذوه فغلوه. ثم الجحيم صَلُّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) هنا كلُّ شيء مفصل مطوّل، فمن الجمال الفني، ومن التأثير الوجداني، ومن الغرض الديني، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة. وهنا يشترك جرس الكلمات وإيقاع العبارات مع السلسلة التي (ذرعها سبعون ذراعاً) - وذراع واحدة تكفي! - يشترك هذا كله في إطالة الموقف أمام النظارة وفي حسهم أيضاً، ليتم التناسق بين المشهد المعروض والتأثر المطلوب.

ثم لا تقف المسألة عند الأمر العلوي الذي لا يرد بسحبه في عنف من موقفه، بعد أن أطال التفجع والندم؛ إنما هو يلقي التقريع والتشنيع، فيكشف جرمه على أعين النظارة جميعاً: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين) فماذا يكون الجزاء المرتقب بعد السحب والغل، إن كلُّ من في ساحة العرض سيعلمون: (فليس له اليوم ها هُنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون) فهو معذب الحس في طعامه، معذب الروح في نبذه (فليس له اليوم ها هُنا حميم) ليتم جحيم الجسم والروح!

وإذا يبلغ التأثر الوجداني هنا ذروته بعد هذا الاستعراض الحي للبشرية في يوم الهول العظيم، يوم الحاقة القارعة. . . في هذا الأوان الذي تتفتح فيه منافذ النفس جميعاً للإيمان، لا تكون هناك حاجة للتوكيد والقسم والإيمان.

(فلا أقسمُ بما تُبصرون وما لا تُبصرون. إنّه لقول رسولٍ كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تَذَكّرُون. تَنزيلٌ من رب العالمين).

لا أقسم. ثم التعميم والتهويل. بما تبصرون وهو كثير. وما لا تبصرون وإنه لأكثر، وإن علمكم كله لقاصر. . . لا أقسم. فالأمر حقيقة: (إنه لقول رسول كريم، هذا القرآن الذي تسمعون أرسل به من عند الله. فما هو بقول شاعر - وإنّ كنتم لا تؤمنون إلا قليلاً - وما هو بقول كاهن - وإن كنتم لا تريدون أن تفكروا في الأمر، وتتعظوا بالتذكر.

ثم يتابع التأكيد المؤثر في الحس والقلب، الموحي بصحة ما ينقل الرسول عن ربه من قرآن ودين، وذلك بتصوير محمد صورة المبلّغ الأمين، ولو أنه خان أمانته ما عصمه من الله عاصم، وللاقى أشد ما يلقاه المبلّغ الخائن، في حسم جازم، لا شفيع فيه ولا نصير.

(ولو تقوَّلَ علينا بعض الأقاويل، لأخذْنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين).

وبهذه الصورة الحسية، صورة الأخذ الشديد باليمين ثم قطع العِرْق الذي يودي قطعه بالحياة، حيث لا يحجزه أحد منهم من هذا المصير المخيف. . . بهذه الصورة الحسية يؤثر في وجدانهم تأثيراً عميقاً شديداً، وهذا الوجدان متفتح من قبل للتأثر. . . وهنا - وعلى ضوء هذه الصورة المؤثرة - يعاود التوكيد واليقين ثم التهديد الذي يتسق مع التهديد السابق لرسوله الأمين!

(وإنه لتذكِرةٌ للمتقين. وأنا لنعلمُ أن منكم مكذَّبين) ولكن هذا التكذيب لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً وسيكون وباله على أصحابه (وإنه لحسرةٌ على الكافرين، وإنه لحقُّ اليقين).

ثم يدع القوم سكارى من التأثر، غارقين في التصور والتذكر، ليلتفت إلى النبي الكريم مخاطباً له في أمر وتقرير: (فسبح باسم ربك العظيم).

وهكذا يبدأ بالتصوير الاستعراضي الفني، لينتهي منه إلى التأثير الوجداني القوي، فإلى الإيمان العميق القلبي. وتلك طريقة القرآن غالباً في مخاطبة الحس الإنساني، وهي أقوم طريق وأقرب طريق.

سيد قطب