مجلة الرسالة/العدد 653/محمد والإنسانية
مجلة الرسالة/العدد 653/محمد والإنسانية
للأستاذ عمر الدسوقي
ظلت الإنسانية تتعثر في حلكة دامسة، منذ درجت على أديم هذه البسيطة، قروناً تتراجع بعيداً في أغوار الزمن السحيقة، لا ترى قبساً من نور يهديها الطريق في سدفة الظلام إلا غرائزها الفطرية التي نمت وفقاً للبيئة التي شب فيها الإنسان، والحياة التي أنتهجها لنفسه - حياة الأدغال والكهوف والصيد - وإلا لمحات من النور تلمع في الفينة بعد الفينة في أفق الإنسانية حينما يرسل الله نبياً من أنبيائه، لا يلبث بعده قومه أن يعودوا أدراجهم إلى أحضان الظلام.
أما العقل، ذلك النور الكامن في الإنسان، فكان يغط غطيطاً ثقيلاً، وإذا حاول اليقظة ردته غشاوة التقاليد، وكابوس الغرائز، وهبت عليه أعاصير الخرافات، فأطفأت الشعلة التي تجرأت أن تبرق في ذياك ألديجور المرعب.
نشأ الإنسان في هذا الظلام الروحي يقدّس كلُّ ما أعيته الحيلة في إدراك كنهه، وكل ما خشي سطوته وبأسه، يقدس الشمس مصدر الحرارة والضوء والحياة، والنهار، والرياح العاتية، والرعود القاصفة، والسيول الجارفة؛ ويقدم لها جميعاً القرابين حتى تهدأ ثائرتها، وترضى عنه فلا تعرقل سعيه في طلب القوت، وهو كلُّ مبتغاه، ولا تطرح بنسله، وهو كلُّ ما يحرص عليه.
نشأ الإنسان تستوعب قلبه الأثرة والمادة، والتعصب للجنس والقبيلة، التي يطمئن إلى حمايتها؛ ونشأ يمجد القوة والبطش.
وحاشاي أن أرجع إلى عهود الظلام فأسرد تاريخ الإنسانية الرهيب، تلك العهود التي نظن أنها مترامية في أعماق التاريخ أو ما قبل التاريخ، وما عهد الإنسان بها ببعيد؛ فعصور الحضارة منذ اكتشفت النار حتى اليوم تُعَدُّ شهوراً قليلة في عمر إنسان لا ينيف عن الخمسين؛ ولذلك كانتِ الحضارة في الإنسان غير أصيلة وهو دوماً نزاع إلى التحفظ والتمسك بأهداب التقاليد القديمة، سيان منها ما أستحسنه العقل الحر وما أستهجنه. ولذا أيضاً يخشى على الحضارة أن يعصف بها صراع هائل كالذي شهدنا في هذه السنوات الماضية فيرتد الإنسان ثانية إلى غياهب الظلمات.
أذكر هذا، وأذكر رسالة محمد عليه السلام، وكيف كانت حال الإنسان لعهدها: فمصابيح الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية قد أوشكت أن تنطفئ، وأخذ الناس يرجعون القهقري إلى غرائزهم وطباعهم؛ يتنازع العالم المعروف إذ ذلك دولتان قد استعرت بينهما نار الحرب، وتكالب الناس على المادة، فلا ترى إلا عقولاً ذاوية وقلوبا خاوية، ولذلك كانت رسالة محمد دفعاً قوياً إلى وضح النهار، وطالما ذكر القرآن الكريم العالم بهذا:
(قد جاءَكم من اللهِِ نورٌ وكتابٌ مبينٌ يهدى به اللهُ من أتَّبَع رضوانهَ سُبَلَ السلام، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم).
جاء محمد عليه السلام، يحرر الإنسانية من أغلال الجهل والفساد، ينبغي لها حياة هادئة وادعة، يغمرها نور الأيمان والعلم، ويعيش فيها الناس على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، في السراء والضراء، فحارب بشدة تلك النَعرات الجاهلية الغاشمة، والعصبيات القبلية الدميمة، وأعلن أن الناس سواء، فلا يفضل إنسان ما غيره من البشر بالجنس أو الدم أو القوة، ونادى ذلك النداء الذي يشع النور من كلماته:
(الناس سواسية كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية).
(الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب).
(لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى) وجاء القرآن مصدقاً لهذا حيث يقول:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
رأى محمد عليه السلام النفوس تغص بالجشع، والقلوب تجيش بالطمع، والأثرة تسيطر على العقول، فأستبد القوي بالضعيف لا يفكر المرء إلا بنفسه، ولو تقطعت الأرحام، وذوت صلات القربى، وأصبح بذلك الظلم والبغي والمنكر قانوناً يطبقه الغني والقوي، ويرضخ له الذليل والفقير، وما هذا لعمري سوى قانون الأدغال والغابات، فنادى الله تعالى في كتابه:
(إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون).
نظم محمد عليه السلام العلاقات الاجتماعية على أساس التعاون الوثيق بين الأفراد، والمحبة والإخاء، فالسادة الذين يشمخون بأنوفهم كبراً، وتتنفج قلوبهم عنجهية، يجب أن يتطامنوا ويتواضعوا، وإلا فإنهم محرومون رضاء الله حيث آذوا عباده:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين). ويقول مرة أخرى:
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم).
أما هؤلاء الذين أدركوا معنى الإنسانية، وتجافوا عن الكبرياء، ورضى الله عنهم، فهم الذين قال فيهم القرآن:
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
ويجمع محمد عليه السلام قانون العلاقات الاجتماعية في حديثه الشريف (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه). ونرى القرآن يحد من غريزة العدوان، ودفع الشر بمثله فيقول:
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
ولم تُك هذه التعاليم مجرد آيات تتلى، وأحاديث تتردد، بل تشربتها قلوب العرب، أكلة الشيح والقيصوم، واتخذتها نبراساً تستضئ به؛ فملئوا الدنيا عدلاً وأمناً وحرية، فاستمع إلى أبي بكر يقول:
(إن القوي فيكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم عندي القوي حتى آخذ الحق له).
وأستمع لعمر بن الخطاب يقول:
(متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
ولا بدع فدين محمد عليه السلام ليس مجرد صلاة وعبادة؛ وإنما أساسه حسن المعاملة بين الناس، وشعور كل فرد بشخصيته وحريته في حدود القانون والمصلحة العامة، فيقول الله تعالى:
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
ولم تكن الصدقات تفضلاً من ذوي اليسار على ذوي المتربة يؤدونها تارة، وينكرونها أخرى، بل كانت فرضاً محتوماً يخرجونه من أموالهم عيناً كانت أو عروضاً، ثابتة أو منقولة. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وأبن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم).
وأصرح من هذا قوله تعالى:
(إن الإنسان خٌلِقَ هلوعاً، إذا مَسَّه الشرُ جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم).
ولما كان حب المادة متأصلاً في النفوس البشرية منذ كانت في عصور الظلام رأى محمد عليه السلام أن طالب المادة لا يشبع، وأن الروح لا بد لها من غذاء، ولقد كانت حياته هو نموذجاً لتغذيه الروح، وتجنب زخرف الحياة، ومع هذا فلم يحث القرآن الناس على ترك الدنيا؛ لأن الإسلام دينُ عملي يتمثل في الآية:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسِنُ كما أحَسنَ الله إليك)، ويتمثل في الأثر: (أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتكَ كأنك تموت غداً). وإنما كان القرآن يعقد تفاضلاً بين الحياة الدنيا والآخرة مخافة أن يطغي حب المادة على الروحانيات، ولهذا يقول تعالى:
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا) ويقول عز وجل: (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون).
ولما كان العقل قد طال ركوده نفخ محمد عليه السلام في تلك الجذور المطمورة حتى عادت شعلة ملتهبة، ولهذا كثر توجيهه الناس إلى التفكير فيما حولهم من بدائع المخلوقات حتى يحرك أذهانهم: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
ولما كان العرب في عهده أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب حثهم على التعلم، رافعاً من شأن العلم وأهله، وافتداؤه أسرى بدر بتعليم كلُّ منهم عشرة من أبناء المسلمين خير مثال عملي على ذلك، وقوله في الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) كان أكبر حافز على اهتمام المسلمين بالعلوم، وأستمع إلى القرآن الكريم كيف يعظم العلماء ويوجه الفكر توجيهاً صحيحاً:
(ألم ترّ أن الله أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيضُ وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور).
وهذا يفسر لنا تلك النهضة العربية الإسلامية التي ظهرت بعد بعثته، وشغف المسلمين بالفلسفة والعلوم العقلية التي أحيا المسلمون شعلتها وزادوا في سناها، وتلقفتها أوربا من أيديهم ساطعة منيرة.
ولم يك محمد عليه السلام متعصباً لدينه، ينكر الأديان قبله ويذمها، بل جعل شرط الإسلام الإيمان بما أتى به النبيون من قبل:
(قولوا آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
ودين محمد لا يعرف التعصب بل يشمل الإنسانية كلها لا يفرق بين الأجناس ولا البلاد ولا الحدود: (وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).
هذه لمحات سريعة من بعض تعاليم الإسلام التي أخرجت الإنسانية من الظلمات إلى النور، فهل لنا بنفحة من نفحات محمد عليه السلام ترف على العالم فتهديه سبل السلام وقد أوشكت مآسيه أن تلقف كل ما بنى النور وشيد؟!
عمر الدسوقي.