مجلة الرسالة/العدد 653/معجزة الدهر

مجلة الرسالة/العدد 653/معجزة الدهر

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 01 - 1946



للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

مرت المعجزات وبقيت معجزة واحدة خالدة هي القرآن.

والمعجزات هي براهين الأديان أنها من عند الله وليست من عند الإنسان. والأديان لا تكون شيئاً إن لم تكن من عند الله ويقم البرهان الناصع الساطع على أنها من عنده. فصدورها من الله ضمان هدايتها الإنسانية في كلُّ الظروف ما أطاعتها الإنسانية. ووضوح البرهان على أنها من عند الله ضمان استيقان الإنسان إياها وطاعته لها. وسواء أكان الدين خاصاً بأمة أم عاماً للبشر فالبرهان عليه ينبغي أن يكون عاماً يخضع له كلُّ عقل، لا خاصاً تخضع له بعض العقول. وليس يفي بهذا الشرط في البرهان على الدين الحق انه من عند الله إلا المعجزات.

والإنسانية الآن في حاجة إلى دين تخرج به من ورطاتها بعد أن كادت أن تهلك حين نسيت الدين. ولو أرادت البحث بعقلية علمية عن دين الفطرة - كما لا بد لها يوماً أن تبحث - فليس أمامها إلا أن تنظر في الأديان كظاهرة كونية. وفي الحق أنها ظاهرة من أكبر الظواهر الواقعية وأعظمها مظهراً وأثراً في حياة الإنسان. والواقع هو موضوع الدراسات العلمية أو هو موضوع العلم الطبيعي بشرط ألا يكون لهوى الإنسان دخل فيه، لأن الهوى والحق قلما يجتمعان. لذلك لم يجعل العلم التاريخ مجالاً لبحثه لأن الأهواء من عوامل التاريخ.

لكن هناك ظاهرة تاريخية هي أهم ظواهر التاريخ وأشبهها بالظواهر الطبيعية التي ليس للإنسان عليها سلطان وإن جرَت على أفراد من الناس. هي تلك ظاهرة النبوة وظهور الأنبياء. وهي في تاريخ البشرية أشبه ببعض الظواهر الفلكية النادرة المتجددة؛ ولو ضربنا لها مثلاً ظاهرة المذنَّبات لم نبعد. يظهر النبي في أفق البشرية من عصر لعصر. كما يدخل المذنب أفق الأرض بين حقبة من الزمن وحقبة، فيشغل به الناس ما لبث في أفقهم، ثم يذهب المذنَّب غير تارك أثراً ويبقى للنبي عظيم الأثر في الناس.

وظاهرة الأنبياء فيها كل ما في الظواهر الطبيعية الفلكية من مميزات. فهي من ناحية ظاهرة واحدة متجددة، فالنبي أشبه بالنبي من النجم بالنجم: واحد من الناس يظهر فيهم على غير إعداد منهم، يتجرد من كلُّ ما يشغل الناس من إقبال على الدنيا واستمتاع بها، جاعلاً شغله الشاغل دعوة قومه إلى فاطر الفطرة وخالق الناس. ثم هو لا يدعوهم من عنده فيلتبس عليهم بالفلاسفة والحكماء الذين يكثرون في بعض العصور ولا يكاد يخلو منهم عصر، ولكن يدعوهم باسم الله الذي خلقهم، مؤكداً لهم أن مرسل إليهم من عند لله ربهم برسالة ليس له فيها إلا التبليغ. وسواء آمن به كثير أو آمن به قليل، فإنه هو يعمل في جميع الأحوال بما يدعو إليه من دين مهما شق العمل به على الناس. ويتحمل في سبيل تأدية الرسالة على وجهها ما يتحمل، لا يصرفه عن رسالته أذى أو إغراء. فهو يطلع على الناس طلوع نجم أو قمر أو شمس أو مذنَّب: يجري مجراه ولا يحيد قيد أنمله عن مسراه.

تلك ظاهرة تاريخية، ولكن فيها كلُّ ما في الظواهر الفلكية من صفات أساسية: فيها التجدد، وفيها رغم تجددها الاطراد؛ وفيها التجرد عن هوى البشرية ومشاغلها، وفيها التقيد بأوامر فاطر الفطرة سبحانه تقيد النجم في مشرقة ومغربه، وفيها الإشراق على الناس بهدى الله كما تشرق الشمس عليهم بالضياء.

وتصحب النبوة والرسالة عادةً ظاهرةٌ أخرى هي أشبه بما يشتغل به العلم من الظواهر نسميها معجزة ويسميها القرآن آية. وهي دليل دعوى النبي أو الرسول أنه نبي الله ورسوله؛ وهي حجة الله على من شهدها أو تواتر سماعه بها عمن شهدها. والمعجزات تشبه ظواهر الفطرة في أنها مما لا يقدر عليه الإنسان. كلها تشترك في هذا التفرد لتكون دليلاً عند من يعقل على أن الذي أجراها على يد الرسول هو الله فاطر الفطرة ومرسل الرسول.

والعلم أسرع إلى التسليم بمثل هذا الدليل أن ثبت إليه لديه وقوعه، لأن العلم أعرف وأبصر بعجز الإنسان عن خرق عادة الفطرة وسننها في الكون. فابتلاع العصا لِعصيّ السحرة وحبالهم، وإبراء الأكمة والأبرص في لحظة. وإحياء الموتى بكلمة - هذا وشبهه يعرف العلم ويعرف الناس أنه مما لا يقدر عليه البشر. فلو ثبت لدى العلم وقو عه في ظروفه لسلَّم العلم بدلالته.

لكن إذا قُدر أن يبحث العلم الأديان عن طريق بحث ظاهرة النبوة فسيجد أن العقبة في سبيله هي أن معجزاتها قد مرت وانقضت فهو لا يجد سبيلاً إلى بحث شيء منها. إلا معجزة واحدة لرسول واحد على دين واحد: إلا القرآن، معجزة الإسلام على يد محمد بن عبد الله. لقد ذهبت المعجزات كلها وبقى، وتغيرت الكتب وحرفت ولم يتغير هو ولم يحرّف. وعلى أي حال فهو هنا معنا ومع العلم والعلماء لمن شاء أن يبحث أو يفحص. فلو قدر للإنسانية أن تفحص الأديان بعقلية علمية لما وجدت غير الإسلام يثبت للفحص العلمي، إذ ليس غير الإسلام دين بقيت معجزته إلى اليوم وتبقى إلى ما شاء الله لتكون موضوع بحث وامتحان وفحص، وليهتدي البشر بفحصها إلى الله، وليعلموا عن طريقها أن الإسلام هو دين الله فاطر الفطرة وخالق الناس: جعل كتابه عين معجزته ومعجزته عين كتابه ليكون حفظ الدين وحفظ معجزته أمراً واحداً سواء، ولتدوم حجة الله على الناس.

ودلالة القرآن على نفسه أنه من عند الله لا من عند بشر أم تنبهر منه العقول إذا نظرت فيه علمية صادقة. ففيه أولاً التحدي: تحدي العرب وتحدي البشر أن يأتوا بسورة من مثله. وهذا التحدي وحده دليل عجيب على أنه ليس من عند محمد. فلو علم محمد من نفسه أنه قائله ما اجترأ وهو ما هو من العقل، وهم ما هم من الفصاحة، أن يتحدى العرب بل البشر أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور من مثله، ثم بسورة، ثم يجعل أقصر سورة لا تزيد على عشر كلمات!

فهذا من غير شك دليل عجيب. وأعجب منه عجز العرب خصومه - وقد كانوا جميعاً خصومه في الأول - أن يقبلوا هذا التحدي ويهدموا محمداً ودعوته بالإتيان بسورة من مثل سور القرآن القصار.

وعجزهم ذلك جاء مصدقاً لنبوءة تنبؤها لهم حين تحداهم أنهم لن يفعلوا. ولم يفعله أحد من البشر إلى الآن. فأعجب من كلمتين اثنتين - ولن تفعلوا - قامتا بصدقهما المستمر معجزة باقية على الزمن.

وعجز العرب والبشر عن سورة قصيرة من القرآن أمر غريب عجيب يجعل من القرآن الكريم ألف معجزة في معجزة، لأن القرآن قدر أقصر سوره آلافاً من المرات.

وسر هذا العجز نفس سر العجز البشر عن خلق شيء مما حولهم في الفطرة. فالقرآن والفطرة كلاهما من عند فاطر الفطرة بل هو دين الفطرة وكتابها. وقد جهد الإنسان قديماً وحديثاً في الوقوف على سر إعجاز القرآن فلم يبلغوا من ذلك إلا قدر ما يغرف غارف من بحر وإن ظن ظان أنه قد بلغ. وليس إعجاز القرآن الناس هو كلُّ دلالة القرآن على أنه من عند الله.

ليت من يقوم بالقرآن وللقرآن يحفظه ويفحصه، ويجلو برهانه للناس من جديد. ليت المسلمين لم يشغلوا عن القرآن بكلام البشر، ولم يحاولوا أن يتأولوا حين يجدونه غير نازل على أهوائهم وعلى ما يظنونه المناسب للعصر الحديث. ليت في علماء الإسلام جماعات تلقوا صنوف العلم الطبيعي وتمكنوا من علوم القرآن ليجلوا للإنسانية القرآن على النمط العلمي الذي هو من نمط النظر القرآني وفيه للإنسانية في هذا العصر العلمي مقنع.

ليت المسلمين ينتبهون إلى هذا فيتداركوا ما فاتهم، ويعدوا للدعوة إلى الله والى القرآن عدتها. فالإنسانية في حاجة إلى دين الفطرة، وما المسلمون بأقل حاجة من الإنسانية إلى تبصير بالإسلام.

محمد أحمد الغمراوي

-