مجلة الرسالة/العدد 654/حول تعقيب

مجلة الرسالة/العدد 654/حول تعقيب



الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو ريه

لما أجمعت النية على نشر كتاب عن (حياة الحديث المحمدي) بعد أن جمعت مواده وهيأت فصوله - قدرت أن هذا الكتاب ستضيق به صدور الذين يكرهون التحقيق في البحث، والاجتهاد في الفهم، والحرية في الفكر؛ ولا يرون العلم إلا فيما أخذوه عن شيوخهم تلقيناً، والاستمساك بما وجدوا عليه آباءهم غثاً كان أو سميناً.

وقد وقع ما قدرت، فلم تكد تبدو في أفق (الرسالة) لمعة عن هذا الكتاب حتى انبعث (حشوي) في إحدى صحف العوام ينضح علينا من رضاع ملكته سباً وشتما وسفاهاً، فلم نعره التفاتاً، لأن المناقشة بين العلماء لا تكون إلا بعلم وبرهان؛ أما الفحش والسفه والسباب، فهي أداة الجاهل الذي أعوزته الحجة واستعصى عليه الدليل، ولا يصح أن يتخذ الجهول في البحث قريناً.

ولما قرأت في العدد 642 من (الرسالة) كلمة الأستاذ محمد محمود أبو شهبه رأيتها تنزع إلى الحق وتطلبه، وهي وإن كانت قد حملت بعض مآخذ - تجاوزنا عنها - تستحق العناية، وتستأهل الرد:

1 - قلت في كلمتي التي نشرتها بالرسالة: إني وجدت بعد البحث والتنقيب أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه. فجاء الأستاذ أبو شهبة يسأل عن مبعث هذا الحكم، وبعد أن يسلم بأن من الأحاديث ما روى على المعنى قال: (ومن الأحاديث ما (اتفقت) الروايات على لفظها! وإن لم تصل إلى درجة المتواتر، ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب). كأنه يقول: إن هناك أحاديث كثيرة (معروفة) قد جاءت على كمال صياغتها كما نطق الرسول بها، فبدت تحمل مزايا نظمها واتساقها وأسرار بلاغتها، وخصائص ألفاظها ومعانيها.

ونحن لو سلمنا جدلا بأن هناك أحاديث - قد اتفقت الرواة على لفظها لأنا لم نقف على إحصاء صحيح لها، فإنه لا يصح اعتبارها ولا الاستشهاد بها ما دامت - كما يقول هو عنها - لم تصل إلى درجة المتواتر، ذلك بأنه ما دام شرط التواتر لم يتحقق لها فإنها تصبح في حكم الآحاد الذي لا يعطي إلا الظن، والظن سواء أكان في اللفظ أم في المعنى لا يغني من الحق شيئاً.

ومن هنا كان استشهادنا بكلمة الشاطئ وقولنا: إنه لا يكاد يوجد حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، وقد سبقنا إلى هذا القول ابن الصلاح فقال في المتواتر: (إنه لا يكاد يوجد في رواياتهم ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من أهل الحديث أعياه تطلبه).

على أنا نزيد الأمر توكيداً فنسوق بعض ما قاله أئمة النحو في سبب عدم إثبات القواعد النحوية بألفاظ الحديث، لأنها لم تتواتر عن النبي.

قال السيوطي في الاقتراح: وأما كلامه ، فيستدل منه بما يثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جداً، وإنما يوجد في الأحاديث القصار على قلقة أيضاً، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون فرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. . . ومن ثم أنكروا علي ابن مالك إثباته القواعد النحوية بألفاظ الواردة في الحديث.

وقال أبو حيان في شرح التسهيل: قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر والخليل، وسيبوبه منأئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن مبارك الأحمر، وهشاماً الضرير من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرين من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. . .) وقد قالوا: (إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم بأن ذلك لفظ الرسول إذ لو وثقوا بذلك لجري مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية، وإنما كان ذلك لأمرين:

أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه ، ولم تنقل بتلك الألفاظ جميعها نحو ما روى في قوله: (زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك، خذها بما معك)، وغير ذلك من الألفاظالواردة في هذه القصة، فنعلم يقيناً أنه لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ،، بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع وعدم ضبطه بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ، فبعيد جداً لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى!

الثاني: إنه وقع اللحن كثيراً فيما روى من الأحاديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها. . .

وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد، وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه من تغيرات الرواة لأنه أفصح من نطق بالضاد.

ومن قول الشاطبي في شرحه على ألفية ابن مالك:

(. . . إن النحاة يستشهدون بكلام سفهاء العرب وأجلافهم وبأشعارهم التي فيها الخني والفحش ولا يستشهدون بالحديث. ثم روى عن أبي حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيده معمر بن المثنى بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم قال: فقلت له عمن أخذت هذا يا أبا عبيده، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم! فإن شئت فخذ وإن شئت فدع. . . ثم قال: ولا أعرف لابن مالك سلفاً إلا ابن خروف.

نجتزئ بما نقلناه من أقوال هؤلاء الأئمة، لأن الكلام في ذلك يطول:

2 - عرض الأستاذ لقولنا إن المعاني قد ظلت تتوالد، والألفاظ تختلف باختلاف الرواة. فاتفق معنا في اختلاف الألفاظ وتباين الأساليب، وخالفنا في توالد المعاني. . . ونحن لا نتوسع بالرد عليه في ذلك، لأن فيما أوردناه من كلام أئمة النحو واللغة غناء، فقد أثبتوا أن الرواة قد زادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ، ولحنوا وأخرجوا لفظ الحديث عن القياس العربي، فإذا لم يكن في ذلك كله توالد للمعاني، فمن أي شيء إذن يكون هذا التوالد؟!

ويقول الأستاذ: إنه كان يحب منا (أن نقرأ في كتب الرجال، وبخاصة الصحابة والتابعين، لنعرف ما خص الله به هؤلاء القوم من حافظة قوية وذاكرة وقادة.

وما كان يحبه الأستاذ منا قد قمنا به، بل زدنا عليه، فقد أبعدنا النجعة في مطارح البحث، حتى انتهينا إلى منطقة وجدنا فيها أن الصحابة كانوا يرغبون عن رواية الحديث، بل كانوا ينهون الناس عنها. ومما ألفيناه من أسباب ذلك أنهم كانوا يخشون أن تخونهم هذه الحافظة (القوية) فيروون الحديث على غير ما نطق به النبي فيبدو وقد أصابه التحريف أو الزيادة أو النقصان! وهم لم يكونوا يروون ما يروون عند سماعه ولا بعد سماعه بقليل، وإنما كانوا يفعلون في المناسبات، وقد لا تتهيأ هذه المناسبات إلا بعد سنين طويلة، فكان كل صحابي يروي ما يجدوه في ذهنه من معنى الحديث الذي سمعه من النبي (ص) أو من أحد أصحابه أو من التابعين، إذا لم تكن رواية الصحابة موقوفة على ما يسمعونه من النبي فحسب، فيعبر عنه بألفاظ من عنده ومن هنا جاءت رواية الحديث الواحد بألفاظ مختلفة.

وإلى الأستاذ بعض الأمثلة مما عثرنا عليه في بحثنا:

جمع أبو بكر الصديق الناس بعد وفاة نبيهم وقال لهم: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. ونسي عمر حديث تيمم الجنب، وعلى أن عماراً قد ذكره به فإنه لم يذكره!

وقال عمران بن حصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويتحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمكم أنهم كانوا يغلطون وأنهم ما كانوا يتعمدون!

وقيل لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله فقال: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد. وكان عبد الله بن مسعود - وهو من هو - يتغير عند ذكر الحديث عن رسول الله، وتنتفخ أوداجه ويسيل عرقه وتدمع عيناه ويقول، أو قريبا من هذا! أو نحو هذا، أو شبه هذا. كل ذلك خوفا من الزيادة والنقصان أو السهو والنسيان. وسأل مالك بن دينار ميمون الكردي أن يحدث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه فقال: كان أبي لا يحدثنا عن النبي مخافة أن يزيد أو ينقص!

ولهذه الأخبار نظائر كثيرة أوردنا طائفة صالحة منها في كتابنا.

وعلى أن الأستاذ قد اعترف بأن رواية الحديث بالمعنى كان لها ضرر من الناحيتين اللغوية والبلاغية فأنه قد منع أن يكون لها ضرر من الناحية الدينية. ونحن نعجب أن يخفي على مثله هذا الأمر وهو مشهور بين الفقهاء جميعاً.

وإذا كان الكلام في ذلك يطول فإنا نحيل الأستاذ إلى ما كتبه العلامة نجم الدين الطوخي في آخر كتابه (صفة المفتي) وإن أبى إلا أن يرى أمثلة على ذلك من بعض الأحاديث ليعرف ما جرى فيها من خلاف بين الفقهاء - ولا شيء أضر من الخلاف - بسبب رواية الحديث بالمعنى؛ فليرجع إلى حديث استفتاح الصلاة بسورة الفاتحة، وإلى الحديث الذي أوردناه من قبل وهو (زوجتكها بما معك).

3 - تكلم الأستاذ عن الحديث الذي قلنا إنهم استجازوا به وضع الحديث وهو: إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالا - وأصبتم المعنى - فلا بأس. فقال: وهذا الحديث بعضه لا يدل على الوضع! وإن في قوله وأصبتم المعنى ما يدل على أن الحديث قيل تجوزاً للرواية بالمعنى!

ولم يقل أحد إن بعض هذا الحديث صحيح، وبعضه الآخر موضوع! وإنما ذكر الجوزقاني وابن الجوزي أنه موضوع. ولو أن هذه العبارة التي قضى الأستاذ بصحتها كانت معروفة للصحابة لمنعت من تحرج من تحرج منهم من رواية الحديث! ولرفعت ذلك الخلاف الكبير الذي وقع بين العلماء في جواز رواية الحديث بالمعنى وعدم جوازها.

على أنه قد وردت أحاديث صحيحة تقطع بأنه صلوات الله عليه ما كان يريد إلا أن تروى أحاديثه على حقيقة لفظها مهما تحري الراوي في إصابة معانيها، ولم يكن ليشدد في عدم استبدال لفظ بلفظ فحسب وإنما كان يضرب عليه، فقد روى أصحاب السنن هذا الحديث: نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع). وهذا الحديث القولي قد أيده النبي بسنة عملية؛ فقد روى البخاري وغيره عن البراء بن عازب أن رسول الله علمه دعاءً يقوله عند ما يأتي مضجعه، ومن هذا الدعاء: (آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فقال البراء يستذكر ما علمه النبي (وبرسولك الذي أرسلت) فقال له النبي (وبنبيك الذي أرسلت) وفي بعض الروايات فطعن في صدره ورده إلى الرواية الصحيحة. ومعلوم أن اللفظ الذي جاء به البراء يؤدي المعنى وأكثر، فهو بهذا قد أصاب المعنى ولكن النبي لا يريد ممن يروى عنه إلا أن ينقل كما سمع.

4 - ويقول الأستاذ عن كلمة (معتمدا) التي جاءت في بعض روايات حديث من كذب على: إن القاعدة عند المحدثين أنه إذا تعارضت الروايات رجح الأكثر والأقوى، وهنا ترجح رواية ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد!!

ولا نطل القول في مناقشة هذه القاعدة ولا في طلب الدليل على هذا الأكثر والأقوى!! وإنما نقول إن علماء الحديث قد جعلوا للترجيح اعتبارات متعددة، منها اعتبار الإسناد، ومنها اعتبار المدلول وغير ذلك. وقالوا في اعتبار الإسناد إن رواية أحد كبار الخلفاء ترجح على غيرها، وكذلك ترجح رواية من كان فقيهاً ومن كان أكثر مخالطة للنبي الخ ورواية هذا الحديث بغير كلمة (معتمدا) قد نالت كل اعتبارات الترجيح فقد رواها ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم كبار فقهاء الصحابة وأكثر مخالطة للنبي، والزبير بن العوام - وهو من هو يؤيد روايتهم ورواية غيرهم من كبار الصحابة ويقسم بأن النبي لم يقل هذه الكلمة، وفي سنن ابن ماجه عن الليث بن سعد عن ابن شهاب عن أنس ابن مالك قال رسول الله من كذب عليّ - حسبته قال معتمداً فليتبوأ مقعده من النار. ورسالة الشافعي التي هي الأصل الأول لعلم الأصول ومؤلفها أقرب إلى معين السنة الصافي قد ورد فيها هذا الحديث بصيغ كثيرة لم يأت في واحدة منها كلمة (معتمدا). وابن قتيبة الذي قالوا إنه لأهل السنة كالجاحظ للمعتزلة لم يوردها في كتابه (تأويل مختلف الحديث) الذي دافع فيه عن رجال الحديث إلا بغير هذه الكلمة. على أن الأقرب إلى العقل السليم والأشبه بخلق النبي العظيم أن تكون الرواية التي جاءت بغير هذا اللفظ هي الصحيحة، والتي يطمئن بها القلب؛ لأن الكذب هو الكذب.

5 - ذكرنا في كلمتنا أن تدوين الحديث قد تقلب في أدوار أربعة، فكان في أول أمره مشوباً بغيره من أقوال الصحابة في التفسير وغيره من مسائل دينية أو طرق أدبية الخ مما كانوا يعنون بجمعه وتدوينه على طريقة العصر الذي وقع فيه التدوين من غير ترتيب ولا نظام إلى أن جاءت طبقة ابن جريج الخ) فقال الأستاذ من أين وصلنا إلى ذلك! ونحن نذكر له بأن كل من درس تاريخ التدوين في الإسلام وبخاصة في عصر بني أمية يعرف ما عرفنا ويصل إلى ما إليه وصلنا، وإذا أراد أن يقف على (طفولة التدوين الإسلامي) فليرجع إلى مظانه، ولكي لا نشق عليه بكثرة البحث في المصادر الكثيرة نحيله إلى أدنى المصادر عليه: الجزء الثاني من كتاب ضحى الإسلام للأستاذ الكبير أحمد أمين بك. والجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي لجو رجي زيدان بك.

6 - قال الأستاذ في أول مقاله إنه تتبع الحقائق التي وصلت إليها فوجد أن فيها ما يجافي الحقيقة! ولم يكن مبنياً على دراسة عميقة!. راجعة إلى مصادر الحديث الأصلية!! ولا يؤاخذنا الأستاذ بما نصارحه به من أنه قد تعجل في الحكم وأسرع في القضاء، ذلك بأنه لم يقرأ الكتاب كله ولا درس مواده وفصوله، ولا عرف مراجعه وأسانيده، وكل الذي رآه منه إنما هو (لمعة ضئيلة عنه) وقد كان عليه إذا آثر الحق والعدل أن يستأني في الحكم ويتمهل في إبداء الرأي حتى يطلع على ذلك كله ثم يصدر بعد ذلك حكمه.

7 - وفي ختام مقالته جاءت عبارة غريبة لا أدري كيف أرسلها، ذلك أنه يقول، إن مما يحتاج إليه عالم الحديث (الرحلة في سبيله إلى من أحاط به خبراً!!).

وإني ولا مراء في الحق لم أكد أفهم ما هي هذه الرحلة التي يحتاج إليها علم الحديث في هذا العصر! وكذلك لم أعرف إلى أي الأقطار تكون؟ ومن هم أولئك الذين قد أحاطوا بعلم الحديث خبراً حتى نرحل إليهم ونأخذ عنهم!

أني لم أكد أعرف من ذلك كله شيئاً، وإنما الذي أعلمه أن طلاب الحديث في القرون الأولى هم الذين كانوا يحتاجون إلى الرحلة ليتلقوا الأحاديث من أفواه الرجال إذ كانت سلسلة الرواية في هذه القرون متصلة، والحفاظ يومئذ هم أوعية الحديث لا يوجد إلا عندهم ولا يؤخذ إلا عنهم، أما الآن وقد انقصمت هذه السلسلة بتدوين الحديث وأصبحت الكتب هي المراجع الصحيحة للحديث - وهي من كل طالب على حبل الذراع - فإن هذه الرحلة قد صارت لا حاجة إليها ولا غناء فيها. على أن عهد الحفظ نفسه قد انقطع أثره منذ قرون، حتى قالوا إنه قد ختم بالحافظ ابن حجر، وانقضى على أثره عهد المحدثين.

وإذا كان الأستاذ أبو شهبه لا يرضي إلا بالرحلة فإني قد قمت بما يرضيه ورحلت في سبيل تصنيف هذا الكتاب إلى جميع الأقطار وقضيت في هذه الرحلة سنين طويلة اختلفت فيها إلى مئات من العلماء والمحدثين والأصوليين والمؤرخين ومن إليهم ممن يؤخذ عنهم ويستفاد منهم لكي يأخذ كتابي حظه من التمحيص والتدقيق وقد اصطنعت في سبيل التلقي عنهم الصبر والأناة حتى ظفرت منهم بما أرجو أن يكون عملي به موفقاً صالحاً إن شاء الله، وما آمل أن يجد فيه كل من ينشد العلم والحق ما يحبه ويرضاه.

محمود أبو ريه