مجلة الرسالة/العدد 655/في الحرم

مجلة الرسالة/العدد 655/في الحرم

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1946


للأستاذ عباس محمود العقاد

ركبنا البحر ونحن لا نعلم على التحقيق أين نلقي صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، لأن برنامج الرحلة لا يشير إلى المكان.

فمن الجائز أن يكون في جدة، لأنها الميناء الذي ينتقل منه جلالته إلى يخت المحروسة، ولجلالته قصر منيف في أراضها هو القصر المعروف بقصر خزام.

ومن الجائز أن يكون في مكة المكرمة، لأن اليخت يصل إلى جدة قبل سفر جلالته بيومين.

فإذا كان استقبال البعثة الملكية في جدة فلا عمرة ولا إحرام، وإذا كان الاستقبال في مكة المكرمة، فقد وجبت العمرة ووجب الإحرام.

ولكن كيف السبيل إلى الإحرام؟ وكيف السبيل إلى خلع المخيط في الشتاء، وإن كان الجو في مكة أدفأ من جو القاهرة بدرجات؟

إنني ألبس الصوف شتاء وصيفاً منذ خمس وعشرين سنة، وإذا صح أن (الصوفي) منسوب إلى الصوف، فليس على ظهر الأرض رجل أحق مني بهذه الصفة، فكيف سبيل إلى التحلل من هذه الصفة التي لصقت بالموصوف، فلا فكاك منها ولا فرار؟

جاءنا النبأ في عرض البحر بأن صاحب الجلالة عاهل الجزيرة العربية يستقبلنا في قصره العامر بمكة المكرمة، فنوينا الفدية، ونوى أصحابنا الإحرام، ولم يبق معي بملابسه غير الأستاذ عوض البحراوي بك وزير مصر المفوض في المملكة السعودية، لأن الإحرام لا يلزمه، وإنما يلزمه أن يطوف بالكعبة عند مغادرة مكة طواف الوداع

وقد خصصت الحكومة السعودية قصر (الكندرة) بجدة لتبديل الملابس قبل المسير إلى الحرم الشريف. وتولى الإشراف على راحة البعثة ومن معها صاحب المعالي الشيخ يوسف ياسين وزير الدولة، وصاحب العزة الأستاذ فؤاد شاكر مدير المطبوعات. فلما تهيأ أصحابنا للسفر تحرك الركب بالسيارات، فكان من نصيبي الركوب في سيارة الوزير المفوض عوض البحراوي بك، وهو رجل فاضل عرف أهل البلاد كما عرفه أهلها، فانعقدت بينه وبينهم صلات المودة والزمالة، وارتفعت بينهم الكلفة كل الارتفاع فيما عدا المراسم التي تقضي بها المعاملات الدولية، وقد عبر الطريق مرات فعلمت منه كل ما احتجت إلى علمه من معالمها وأحوالها، ووصلت إلى مكة بزاد غير قليل من المعرفة العملية بالحجاز.

هذه جبال مكة

وهذا جبل حراء

بلغناه بعد ساعة ونصف ساعة من السير المعتدل في السيارة، ومررنا إليه بمناظر كثيرة نرى أمثالها في بلادنا، ولاسيما بلدي الذي نشأت فيه، وأعني به أسوان: جبال وبطاح ومراع يتخللها العشب في الأودية والسفوح، وبعض الجبال يليح لنا بألوان المعادن التي يحتويها، وبعض البطاح ينم على مجاري الماء في باطنه القريب

كل ذلك مألوف نرى أمثاله حيث نشأنا على مقربة من صحراء أسوان، أما الجديد كل الجدة على النظر وعلى النفس فهو غار حراء

هو قمة مرتفعة في جبل، كأنما بنيت بناء على شكل القبة المستطيلة إلى الأعلى، ولكنها عسيرة المرتقى لا يبلغها المصعد فيها إلا من شعاب وراء شعاب

أخبرني من صعدوه أنهم كانوا يعانون شديد العناء من وعورة مرتقاه، وأن القليل من الناس يصمد في صعوده إلى نهايته العليا، حيث كان الرسول عليه السلام يتنسك ويبتهل إلى الله

والحق أن الرؤية غير السماع

والحق أن ما يلمحه الناظر في نظرة خاطفة قد يعي الكاتب بوصفه في الصحف والأسفار

والحق أننا قرأنا ما قرأنا عن الجبل وعن الغار، ثم نظرنا إليهما، فعلمنا أن القراءة قد تركت الكثير من فراغ النفس لتملأه هذه النظرة العابرة في الطريق

مررنا به عابرين كما كان سكان البلاد يمرون به غادين رائحين في غفلة عن ذلك الرجل المفرد الذي يأوي إليه ويسكن إلى غاره.

كانوا في غفلة عن ذلك الرجل المتوحد في سبيل التوحيد، كما كان العالم كله في مثل تلك الغفلة وفي مثل تلك الظلمات

ولكنها كانت ساعات يرتبط بها تاريخ أحقاب ودهور، فلما انقضت مدتها لم يبق في الأرض المعمورة غافل عن ضيف ذلك الغار، أو جاهل بآثار تلك الساعات التي كان يقضيها فيه بالليل والنهار

وحسبك نظرة واحدة إلى الجبل ومرتقاه لتحيط بعض الإحاطة بتلك النوازع المرهوبة التي كانت تنهض بالرسول في صباه إلى ذروة تلك القمة مرات بعد مرات وأياماً بعد أيام

كل مرة من تلك المرات تترجم لنا عن قوة تلك البواعث المحتدمة في نفسه الشريفة، وترينا كيف بلغت هذه البواعث المحتدمة أن تدفع بالعالم كله في طريق غير طريقه، وإلى غاية لم تكن له من قبل في حساب، فلولا لاعج من الشوق الإلهي ينهض بالروح والجسد نهضة لا تصبر عليها طبيعة البشر لما توالت تلك المصاعد ولا تعاقب ذلك العكوف

إن اللواعج التي حملت الرسول إلى مرتقى الغار هي السر الروحاني الذي استجاش العالم كله بعد ذلك في حركة دافقة تقتحم السدود وتخترق الأسوار والحدود

وكل أولئك كان في نشأته الأولى خاطراً في قلب الرجل وحيد يتفرد في سبيل التوحيد

وكل ذلك السيل الجارف إنما تجمع قطرات قطرات عند هذه القمة العالية

كل ذلك كان في هذا المكان

وعبرنا خاشعين مطرقين، وسكتنا لأن مهبط الوحي هنالك قد ألهمنا السكوت

مكان آخر عند الكعبة كان له في قلوبنا مثل هذا الخشوع ومثل هذا الرجوع مع الزمن إلى أيام الرسالة وأيام الجهاد

ذلك هو موقف الدعاء الذي كان الرسول عليه السلام يختار الوقوف فيه كلما طاف بالكعبة ودعى إلى الله.

أنت هنا لا ريب في مقام قام فيه ذلك الرسول الكريم، ذلك السر السرمدي الذي تتعلق به مقادير التاريخ ومصائر الأمم وضمائر بني الإنسان، ذلك الإنسان الذي يقترن اسمه في صلوات الألوف بعد الألوف باسم خالق الكون العظيم

أنت هنا تقف حيث وقف وتدعو حيث دعا وتنظر حيث نظر وتحوم بنفسك حيث حام في اليقظة لا في المنام

قيل لنا: هنا يستجاب الدعاء

قلنا نعم: هنا أخلق مكان أن يستجاب فيه دعاء، وألهم الله كلا من الواقفين معنا أن يدعو دعاءه وأن يستجمع في الدنيا والآخرة رجاءه، وساق إلى لساني هذه الدعوة فدعوت: اللهم ناولني ما أريد لي وللناس، واجعل الخير كل الخير فيما أريد لي وللناس وما بي منحاجة في الحياة إذا استجيب هذا الدعاء منظر ثالث أخذني بجماله في جوار البيت الحرام، وهو منظر الحمام الآمن الوادع في ذلك المقام

لا يخشى ولا يفزع، بل يظل طوال نهاره في طواف على الأرض وطواف على الهواء

وأعجب ما سمعت ورأيت أنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادي ولا جماعات

وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره، فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور

أدب الناس في هذا المقام المهيب نعرف سره ونعرف مصدر الوحي منه إلى القلوب الآدمية

أما أدب الطير في هذا المقام فسره عند الله

وأمن الحمام يذكرني بأمن السائلين في جوار الكعبة وجوار المسجد الحرام

إنهم ليتدفعون حول الزائرين ولا يتجملون كما يتجمل الطير فيقطع بعضهم رزق بعض، ولا يدعون لمن يريد أن يعطى سبيل العطاء

وهم في أمان لا يهانون ولا يصيبهم الأذى من الشرطة في جوار البيت الذي يأمن فيه الخائفون

وحسن هذا اليم الله

حسن أن يأمن المساكين كل سطوة في حرم الأمان، وأحسن منه أن يجيئهم الوازع من القلوب والعقول لا من العصي والسياط

فإن كان في تهافت السائلين على صغائر الدنيا غضاضة، فإن في هذا الأمان لقداسة البيت العتيق، وإنه لمن القداسة أن يتعلم الإنسان كيف يجيب من يسألونه، وهو يدعو الله ويرجو أن يستجاب.

عباس محمود العقاد