مجلة الرسالة/العدد 656/بمناسبة عيد الجهاد الوطني:

مجلة الرسالة/العدد 656/بمناسبة عيد الجهاد الوطني:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 01 - 1946



مراكش حية. . .!

للأستاذ عبد الكريم غلاب

في يوم 11 يناير احتفلت مراكش بعيد جهادها الوطني، وهو يوم يقف فيه المراكشيون خاشعين أمام قبور شهدائهم الذين صرعتهم بنادق السينيغاليين ومدافع الفرنسيين. يقفون خاشعين ليتذكروا تلك الأيام السود التي حرصوا فيها المراكشيون من كل صوب، وسلط عليهم جحيم المادة، فلم يفقدهم صوابهم، ولم يثنيهم عن عزمهم في استرجاع استقلالهم من الذين استلبوه منهم بالقوة، فعبثوا به واستهانوا بقدسيته. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1944 أعلنت الأمة المراكشية مطالبتها باستقلالها، وقدمت لذلك مذكرة طالبت فيها بإلغاء الحماية الفرنسية على مراكش، وبإفساح المجال أمام الشعب ليسلك سبيله في الحياة الديمقراطية الحرة، وليتمكن من الانضمام إلى إخوانه العرب في الشرق.

ولقد كان لتقديم هذه المذكرة إلى جلالة ملك مراكش والحكومة الفرنسية وسلطات الحلفاء، ولما صاحبه من مظاهر العزم - التي بدت من الشعب - على تحقيق هذه المطالب؛ كان لكل ذلك أثره العميق في الدوائر الفرنسية، فقررت أن تقمع هذه الحركة بكل ما يبقى لها من قوة، وبكل ما يملك أبناؤها من عزيمة صارمة في الدفاع عما يسمونه إمبراطوريتهم. وتقابلت القوة مع الإيمان الأعزل، وكان من ذلك تلك المأساة المروعة التي يندى لها الضمير الإنساني الحي، والتي برع الفرنسيون في تمثيلها. مع العرب سواء في الشرق أو الغرب.

ولكن المراكشيين لم ترعهم هذه المأساة، فقد ألفوا ذلك منذ وطئت أقدام الفرنسيين أرضهم المقدسة في سنة 1912. فالمأساة الأخيرة ليست إلا فصلا من رواية الجهاد الوطني المراكشي الذي ابتدأ منذ ثلث قرن، والذي سينتهي لا محالة بفوز المراكشيين، لأنهم أصحاب حق، ولأنهم أهل لأن ينالوا هذا الحق. لقد دافع المراكشيون عن بلادهم يوم فرضت عليهم معاهدة الحماية، وواصلوا جهادهم في الجبال والغابات الجنوبية، ثم قام الأمير عبد الكريم الريفي يسترد أرض أجداده من الأسبانيين والفرنسيين، وما كاد يضع سلاحه حتى قام الجهاد السلمي ممثلا في الأحزاب والهيئات الوطنية التي انتهى المطاف - رغم ما أصيبت به من نكبات - إلى أن تعلن مطالبة الأمة المراكشية باستقلالها في 11 يناير من سنة 1944.

هذا هو جهاد مراكش الذي يعد صراعاً بين الموت والحياة، وهو إن دلنا على شيء، فإنما يدلنا على أن هذه الأمة الكريمة لن تموت، لأن عناصر الحياة كلها تتدفق في دمها، وهي كفيلة بأن تحفظ هذه الأمة من الانهيار.

وأول عنصر من عناصر الحياة في مراكش هو تأريخها الطويل في الاستقلال والحرية، وقد تسللت حلقات هذا التاريخ منذ عرفت الحياة على الأرض المراكشية، فلم يحكم مراكش غير أبنائها الذين دافعوا عن أرضهم طوال عصور التاريخ إلى أن تآمرت عليهم الدول الأوربية في أوائل القرن العشرين، وكان نتيجة لذلك الاتفاق الإنجليزي المصري سنة 1904 الذي بمقتضاه أطلقت إنجلترا يد فرنسا في مراكش، كما أطلقت فرنسا يد إنجلترا في مصر. وقد أتاحت هذه المؤامرة الفرنسية الإنجليزية لفرنسا أن تفرض حمايتها بالقوة على مراكش، فخرت هذه الأمة صريعة أمام قوة الفرنسيين وغدرهم وخيانتهم. وبذلك وضع حد لتاريخ الاستقلال في مراكش.

والعنصر الثاني من عناصر الحيوية المراكشية هو العنصر الخلقي، فقد ورث هذا الشعب عن أجداده البربر والعرب الأنفة والكبرياء والدفاع عن النفس والصبر والتضحية والاستهانة بالحياة في سبيل كرامته؛ وتلك الصفات - ولا شك - تجعل هذا الشعب من أكثر الشعوب استعداداً للدفاع عن أرضه ونفسه، بل تجعله من أكثر الشعوب شعوراً بالكرامة وتمسكاً بالاستقلال. وقد أدرك هذا أولئك الذين وضعوا أسس الحماية الفرنسية - وفي مقدمتهم المرشال ليوطي - فحذروا فرنسا من الاستهانة بهذا العنصر الحيوي في مراكش.

والعنصر الثالث هو الدين، فالمراكشيون من أشد الأمم تمسكاً بالدين الإسلامي، وهم يدركون إلى حد كبير معنى التدخل الأجنبي في الشؤون المراكشية، ويفسره ابن الشعب في مراكش بأنه تدخل ينافي عقيدته ودينه، وهو من أجل ذلك يعمل على أن يكون صحيح الإيمان سليم العقيدة. وذلك ولا شك عنصر من عناصر الحيوية في مراكش.

وعنصر آخر لا يقل عن العناصر السابقة قيمة، وهو عنصر اللغة. فمراكش تستعمل لغة واحدة هي العربية، وهي بذلك تتصل بماضيها العتيد، فتستمد منه الوحي والإيمان وتتصل ببقية الشعوب العربية في الشرق التي تكافح وتجاهد في سبيل استكمال استقلالها، وذلك من شأنه أن يجعل شعور هذه الأمم كلها واحداً نحو قضاياها الاستقلالية، ويجعلها تسلك سبيلاً واحداً نحو الهدف الأسمى. ولعل تاريخ الحركات الاستقلالية في البلاد العربية كلها يدلنا على قيمة هذا العنصر ومظهره. فاللغة العربية - إذن - هي السبيل الوحيد لاتصال مراكش بالشعوب العربية في الشرق اتصالاً روحياً ومادياً.

ولسنا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن من أكثر الأشياء حيوية في الشعب المراكشي هو العرش. فالعرش العلوي في مراكش عتيد في التاريخ، لأنه ناهز ثلاثة قرون كاملة. ومن أجل ذلك اتصل العرش بالشعب والشعب بالعرش، وأصبحا يعملان معاً لخير البلاد المراكشية ومصلحتها. وهكذا نجد الشعب يتعلق بملكه المحبوب وخاصة في أوقات الفزع، فينجده جلالة الملك ويرفع عنه عدوان المعتدين.

تلك هي عناصر الحياة في مراكش، وتلك هي الدعامات الأساسية التي تعتمد عليها في دفاعها عن استقلالها، وقد عرف الفرنسيون خطر هذه العناصر، فأرادوا هدمها حتى يتمكنوا من إدخال هذا الشعب تحت إمبراطوريتهم. وعرف المراكشيون بدورهم نية الفرنسيين فقاوموها بكل ما يملكون من قوة. وذلك هو جوهر الصراع بين المراكشيين والفرنسيين منذ سنة 1912. أراد الفرنسيون أن يفصلوا مراكش عن تاريخها ويهدموا خلقها، ويحولوا بينها وبين دينها، ويفرنسوا لغتها، ويقطعوا ما بينها وبين الشرق العربي من صلة، ثم أرادوا أن يفصلوا بين الشعب والعرش.

ولكن المراكشيين تشبثوا بتاريخهم وخلقهم، ثم دافعوا عن دينهم ضد (الظهير البربري) المشئوم سنة 1930، وقاوموا برامج التعليم الفرنسية التي طبقت في مراكش حتى يحتفظوا باللغة العربية كلغة رئيسية في المدارس المراكشية، ثم هم يعملون على أن يضموا إلى الجامعة العربية، حتى يضمنوا بذلك اتصالهم بإخوانهم العرب في الشرق. أما صلتهم بالعرش وإخلاصهم له، فلا تزداد إلا توطداً ونمواً.

تلك خلاصة الصراع في مراكش طيلة ثلث قرن. وقد نجح المراكشيون في الاحتفاظ بعناصر الحياة فيهم، وهم إذ يطالبون اليوم باستقلالهم، فإنما يريدون أن يبنوه على أساس متين من التاريخ واللغة والدين والخلق. وذلك ما يجعلنا نؤمن بأن مراكش ستصل. . . وأنها حية تسير - رغم ما ينتابها من نكبات - نحو الحياة الحرة الكريمة.

عبد الكريم غلاب