مجلة الرسالة/العدد 657/هذا العالم المتغير:
مجلة الرسالة/العدد 657/هذا العالم المتغير:
أبحاث الذرة وفلسفة الكون
للأستاذ فوزي الشتوي
(لكي تفهم ما هي الذرة يجب أن تعرف شيئاً عن تاريخ فلسفة الكون فقد عرفنا الذرة بالفلسفة لا في العمل وعرفنا بعد تفكير دام آلاف السنين):
الشمس في الأرض
يخطئ من يظن أن أبحاث الذرة وطاقتها بنت القرن الحاضر أو الماضي، فدارس التاريخ. والفلسفة يجد بذورها الأولى في عصور قد ترجع إلى ما قبل التاريخ. والذرة باليونانية وقد عرف المصريون القدماء في عصور الاسرات الأولى إلها باسم أتوم ورمزوا له بالشمس وما تضم من قدرة وحيوية. فإن أردت أمثلة من تراتيله تجدها منتشرة في كل كتب العبادات المصرية. فله قالوا:
المجد لك يا أتوم خالق نفسه بنفسه.
فأنت إله الشمس وخالق العالم.
خالق الآلهة ومنتج كل شيء.
وهو أيضاً: خالق الجرثومة في المرأة.
وصانع البذرة في الرجل.
ومانح الحياة للابن في جسد أمه.
وأدرج مع التاريخ تجد فلسفته تنتشي مرة وتخبو أخرى حتى يظهر له مثيل على يدي إخناتون الذي رأى فيه إلهاً عالمياً سماه أتون، ورأى فيه (القوة التي تمثل الشمس في الأرض) لا يقتصر أمره على مصر أو طيبة بل يمتد ويشمل الأرض كلها. فهو الرمز الماثل في كل حيوان أو نبات أو جماد أو غاز، أو ما يفسره العلماء الآن من أن ذرات الأجسام تشبه النظام الشمسي.
من مصر إلى اليونان
ولكن الخلافات الدينية وقوة كهنة الآلهة آمون عصفت بفلسفة أتون وديانته. وهي خلاف سياسية أكثر منها دينية. فلم يكن الفرق بين فلسفة الإلهيين يبرر استئصال شأفة أتون عقب وفاة إخناتون مباشرة
وقد بلغ الحقد بالكهنة حداً دفعهم إلى تدمير كل ما وصل إلى أيديهم فلم تنج منه سوى تراتيل قليلة لا ندرك منها بالضبط سر فلسفة أتون، ونظرها إلى الكون وتركيبه. ولكن الثابت أن سلطة الكهنة أكرهت الملك توت عنخ آمون الذي ولى العرش عقب إخناتون على تغيير اسمه من توت عنخ آتون إلى توت عنخ آمون كما لقبوا إخناتون (بمجرم اخيتاتون) وهي إحدى المدن التي جعلها مقراً لفلسفته الجديدة
ولا يستطيع باحث أن يجزم بأن الفلسفة اليونانية لم تتأثر بالفلسفة المصرية في عهد الفراعنة. بل الراجح انهم أخذوا عنهم الكثير من دياناتهم، ومبانيهم، وحضارتهم، وشتى نواحي الحياة، بما فيها فلسفة الكون وعناصر تركيبه
وقد نتساءل وما دخل الذرة بفلسفة اليونان أو قدماء المصريين؟ ولكن علومها بنيت على أساس فلسفي، ولم تبن على أساس كيمياوي أو طبيعي منبته المعمل. بل شيدت نظريات الذرة والكون على منطق دقيق أطلق فيه الفلاسفة العنان لخيالهم وتقديرهم
اليونان والذرة
ففي عام 400ق. م. ظهر فيلسوف يوناني اسمه ديموقريطس قال إن العالم يتألف من فراغ لا نهائي ومن عدد لا نهائي من دقائق لا تدرك، وإن المادة تتألف من تجمع هذه الدقائق المعروفة باسم الذرات ومعناها باليونانية التي لا تتجزأ. وفسر خلفاؤه دعواه فقالوا انك لو تناولت قطعة من المعدن وقسمتها إلى جزأين متساويين ثم واليت التجزئة فانك ستصل في النهاية إلى جزء لا يمكن تقسيمه
وكان هذا التفسير هو بدء عهد الذرة كما يسميه التاريخ الواضح. وامتدت العقول أيضا إلى خواص الذرة وطبيعتها فقالوا إن السوائل تتألف من ذرات ناعمة سهلة الحركة، بينما الأجسام الصلبة تتألف من ذرات خشنة ذات خطاطيف تتشابك إحداها بالأخرى. ولكن علماء اليونان ومنهم أرسطو رفضوا الأخذ بهذه النظرية فانغمرت حينا من الزمن، وان بقي لها أتباعها ومؤيدوها
وفي عام 1348 ظهر نيقولا انتروشيا وقال إن الظواهر الطبيعية يمكن أن تفسر على أساس اتحاد الذرات وتفرقها ولكنه اضطر إلى نقض أقواله التي عدت في ذلك الوقت إلحاداً.
ولكن أرسطو ابتدع نظرية جديدة حين قال إن المواد التي نشهدها ونتناولها تتألف من أربعة عناصر: هي الأرض والهواء والماء والنار. ولم يفهمها بالمعنى الكيمياوي المعروف الآن بل من حيث خواصها. فالأرض مركب من الجفاف والبرودة، والماء من البلل والبرودة، والنار من الجفاف والحرارة، والهواء من البلل والحرارة.
العرب وحجر الفلاسفة
وأضاف العرب إلى هذه العناصر في العصور الوسطى ثلاثة عناصر أخرى هي الكبريت والزئبق والملح. وكان من الطبيعي أن تؤدى هذه النظريات إلى أنه من الممكن تحويل معدن إلى معدن مما أنتج البحث عن حجر الفلاسفة، أو قلب المعادن الخسيسة إلى ذهب، وضمان دوام الصحة الكاملة، والشباب الناضج الحي
وكان أصحاب هذا المذهب يتفرقون شيعاً في الاحتفاظ بأسرار أعمالهم التي كانوا يحرصون كل الحرص على اخفائها عن عيون الناس وإفهامهم. وقد وصلت قصص دعاياتهم إلى نهايتها في عام 1782 حين قدم جيمس بريس أحد أعضاء الجمعية الملكية في لندن إلى الملك جورج الثالث عينة من الذهب، وقال انه استطاع استخراجه من معادن أخرى
وكان لتصريحه ضجته، فمنحته جامعة اكسفورد إحدى درجاتها العلمية. كما قام المعارضون يناقضونه ويهاجمونه في قسوة، فطلب إليه مدير الجامعة أن يكرر التجربة أمام أعضائها. وتلكأ بريس بضعة أشهر ثم وافق على الاقتراح. فلما حان موعد التجربة. تجرع بريس سماً زعافاً من قارورة صغيرة فقضى عليه في دقائق
الذرة في مرحلة النشاط
ودبت الحياة مرة ثانية في أبحاث الذرة واستنتاجاتها، حين نشر جوزيف بروست مبدأ النسب المحدودة. ومضمونه أن أي مركب كيمياوي يحتوي دائماً على ذات النسب المتساوية في الوزن ثم تبعه جون دالتون في عام 1808 فاعتنق مذهبه وأضاف إليه مبدأ النسب المضاعفة، ومضمونه أن عناصر كيمياوية معينة تتحد ببعضها البعض لتؤلف مركبات كيمياوية مختلفة في أوزان ذرية مضاعفة.
وقد كان جون دالتون مدرساً بائساً في مدرسة صغيرة بإنجلترا ولكنه وضع أسس النظرية الذرية، حين قال إن قانون النسب الثابت لبروفست يمكن أن يفسر بأن العناصر مؤلفة من ذرات ثابتة. كما بين أن ذرة عنصر يمكن أن تتحد بذرات عناصر أخرى في حالات مختلفة. وعلى هذين الأساسين تقوم الكيمياء الحديثة
وكانت لفظة الذرة تستخدم بطريقة غير محدودة، حتى قام اماديو افوجادروا العالم الإيطالي في عام 1811، ففرق بين الذرة والجزئ.
والمعروف الآن أن الماء يتكون من ذرتي ايدروجين وذرة اكسوجين؛ ولكن العلماء كانوا يقولون ذرة ماء وذرة ايدروجين برغم الاختلاف بينهما، وان الذرة جزء من كل. فلما جاء افوجادرو فرق بين المعنيين وجعل الذرة وحدة العنصر. والجزئ وحدة المركب، أي أن الجزئ يتكون من عدة ذرات تختلف باختلاف المادة
ووضع فوجادرو مبدأ آخر، وهو أن المواد الغازية تتألف من جزيئات لا من ذرات. فجزئ الايدروجين مثلاً يتكون من ذرتي ايدروجين، ومثله جزئ الاكسوجين من ذرتي اكسوجين وان الذرة لا توجد مفردة
والمفكرون أيضاً
وكما ساهم رواد الكيمياء والطبيعة في التفرقة بين الذرة والجزئ، ساهم المفكرون من أمثال بيكون وديكارت في تعليل بعض الظواهر الغريبة وأهمها الحرارة فسموا الوحدات الحرارية (بالسعر) وقالوا أنها تحرك دقائق المادة. فلما كانت سنة 1728 تقدم دانيل بارنويلي بنظريته القائلة بأن دقائق المواد الغازية في ذبذبة وحركة مستمرة. وان ارتفاع درجة الحرارة معناه زيادة في ذبذبة الدقائق. وافترض بأن الضغط الذي ينشأ على جدران وعاء ليس في الواقع سوى احتكاك تلك الدقائق ببعضها البعض.
وقد فسرت هذه النظرية خواص الغازات بطريقة طريفة مقبولة منازلنا نعتنقها حتى الآن، ونسير على هديها في أبحاثنا، وإن كنا قد فسرناها على ضوء الأبحاث والتسميات الجديدة، فوضحت لنا لماذا تتمدد الغازات بالتسخين وتحتاج إلى حيز أكبر لما ينتابها من شدة الذبذبة، وحاجة حركتها إلى فراغ أكبر. وهي التي تعلل سبب اندفاع الغاز بقوة أكبر إن سخناه في حيز محدود.
ولم يفهم العلماء آراء نويلي لأنها كانت سابقة لأوانها فتجاهلوها، ولكن الأيام مرت، وأوشك قرن كامل أن ينقضي على دعوته، حين ظهر العالم الإنجليزي جيمس برسكوت جول وكان من تلاميذ دلتون، فأحيا نظرية نويلي. وفسرها بأن النشاط الميكانيكي يمكن أن يحول إلى حرارة تتناسب مع مقدار الجهد. ويمكنك أن تلحظ هذه الظواهر في حياتك العملية، فعندما تحس البرد تفرك يديك إحداهما في الأخرى لتسخنا. وإن نشرت قطعة خشب ترتفع حرارة المنشار تبعاً لسرعة حركته.
مواد لا وجود لها في الحياة
ومن المكتشفات الذرية قائمة العناصر التي وضعها الكيمياوي الروسي ديمتري إيفانوفتش ماندليف في عام 1869 فقد أثبت أنه إذا رتبت العناصر الكيمياوية ترتيباً تصاعدياً تبعاً لوزنها الذري فإن العناصر تتشابه كل عدد معين. فإذا بدأت باللثيم مثلاً وعددت ثمان مواد فانك ستجد الصوديوم ثم عد ثمانية عناصر أخرى فتجد البوتاسيوم. فهذه العناصر الثلاثة تشترك في كثير من الخواص وكلها معان بيضاء تتفاعل مع الماء بشيء من العنف.
وعلى أساس الأوزان الذرية، وضع مندليف قائمة بأسماء المواد. وكان من الجرأة والثقة بعلمه وبنظريته حتى ترك بعض الأماكن بيضاء لأنها تنقص معادن غير معروفة. ولكنه تنبأ بخواصها تبعاً لنظريته. فلما مرت السنوات واكتشفت بعض هذه العناصر الناقصة كانت خواصها مطابقة للخواص التي تنبأ بها مندليف. وتتألف هذه القائمة الآن من 92 عنصراً ما زال اثنان منها مجهولين.
ولعلك تتساءل عن حجم الجزئ أو الذرة. وهو سؤال يصعب تصوره، ولكن البوصة المكعبة من الهواء تتألف من 800. 000. 000. 000. 000. 000 جزئ. والذرة أصغر من الجزئ لأنها جزء منه. فإن أردت لها قياساً، فتصور أنك لو رصصت ذرات حول الجدران الخارجية لأدق نقطة تراها فإن عدد هذه الذرات يبلغ خمسة ملايين ذرة.
وقد تنكر وجود هذه الدقائق التي لم يرها إنسان، ولكن العلماء يرونها ضرورية لتفسير بعض الظواهر الغريبة التي تطرأ على المادة، كما يجدونها معقولة من الناحية المنطقية.
ولم يجدوا ما يمكن أن ينفيها. وعندما تتحدث عن الذرة، فيجب أن تذكر شيئين، وهما الصلابة والسكون. فهما لفظان لا معنى لهما في عالم الذرة والجزئ لأنهما ليسا صلبين ولا ساكنين. والجسم الساكن الصلب الذي تراه يتكون من رقم بالغ الضخامة من الأجسام الدقيقة الدائمة الاهتزاز، والتي لا تمس واحدة منها الأخرى ولكن تربطها قوة جاذبية. ويمتنع التصاق جزئ بآخر بفعل هذه الذبذبة الدائمة.
فوزي الشتوي